شقاء الوعي في تحولات الفكر السّياسي الفلسطيني
ثمة ثلاثة محاور تركز عليها القيادة الفلسطينية في لقاءاتها مع بعض القادة الإسرائيليين (وضمنها لقاء الرئيس الفلسطيني مع وزير الدفاع الإسرائيلي)، الأول، مجرد وقف عجلة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس. والثاني، تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين تحت الاحتلال. والثالث، تمكين السلطة، أو التسهيل عليها، في تعزيز مكانتها إزاء شعبها. السؤال الآن كيف وصلت الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد كل تلك المسيرة الطويلة، وبعد المعاناة، والتضحيات الباهظة، إلى هذه المحطة؟ أو أين كانت تلك الحركة وكيف وصلت إلى هنا؟ في الواقع، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت، في البداية في منتصف الستينات، على أساس فكرة تحرير فلسطين كهدف لها، بمعنى حيفا ويافا وعكا والناصرة والنقب والجليل، إذ لم تكن الضفة وغزة محتلتين وقتها، بل كانتا تحت وصاية عربية (الأردن في الضفة، ومصر في غزة). وقد عبّر ذلك الهدف، في ذلك الوقت، عن رفض الفلسطينيين قيام إسرائيل (1948)، التي نجم عنها اغتصاب الجزء الأكبر من أرضهم، وتشريد أكثريتهم، وحرمانهم من هويتهم الوطنية. وبديهي أن ذلك الهدف تضمن، أيضاً، حق العودة للاجئين، كنتاج للتماهي في الوعي السياسي الفلسطيني، بين استعادة الأرض وعودة الشعب وتحقيق الهوية. بيد أن ذلك الهدف على بداهته، وبساطته، ومشروعيته، في حينه، بالنسبة الى الفلسطينيين، طرح على الحركة الفلسطينية الوليدة إشكاليات وتعقيدات عديدة، عملت على طمسها أو تجاهلها، بدل إيجاد المعادلات المناسبة لحلها أو تجاوزها. وفي الواقع، فإن خطاب التحرير الذي أشهرته الفصائل، لم يوضح كيفية التحرير، ولا الوسائل، والإمكانات، التي تمتلكها لتحقيق هذا الهدف، إذ اكتفت الفصائل التي بادرت إلى إطلاق العمل المسلح إلى التسلح فقط بالإرادة وبالحق الفلسطينيين، وبعد ذلك المراهنة على العمق العربي، لاستعادة الأرض والحقوق، معوّلة على فكرتين أن فلسطين قضية مركزية للأمة العربية، وأن الكفاح المسلح هو الطريق للتحرير، وهما كما نعلم اليوم فرضيتان لم تثبتا البتة، لأسباب ذاتية وموضوعية، بل إنهما كشفتا سذاجة ذلك الطرح، والأوهام التي عششت فيه. ومثلاً، فإن ذلك الخطاب سكت لأسباب ذاتية وإقليمية، عن وجود أجزاء من فلسطين (الضفة والقطاع)، ومن الشعب الفلسطيني، خارج سيطرة إسرائيل، ومع ذلك فإن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تطرح أولوية إدارة هذين الجزءين، ولا إيجاد إطارات تتوسط بينها وبين السلطات المعنية، لتأطير التجمعات الفلسطينية. وثمة استنتاجان هنا، أولهما، أن تلك الحركة تورطت، في حينه، في عملية تواطؤ غير مباشرة مع النظام الرسمي العربي، بسكوتها عن حقها في إدارة الضفة والقطاع، مقابل شرعنة العمل الفلسطيني. وثانيهما، أن تلك الحركة تورطت ثانية، بعد احتلال إسرائيل للضفة والقطاع (في حرب 1967) بالتحول من هدفها المتعلق بفلسطين إلى هدف إقامة دولة في جزء من أرض فلسطين، من دون أن تملك الإمكانات لذلك، أيضاً، ومن دون توفر المعطيات العربية والدولية التي تساعدها على ذلك، أي أن الأمر الثاني انطوى على أوهام أيضاً. وللإنصاف، فقد أثبتت التجربة التاريخية صعوبة، وحتى استحالة، قيام حركة وطنية فلسطينية لا تحظى برضا النظام السياسي العربي، حتى أن الحركة الفلسطينية المعاصرة تدين بوجودها، من أوجه متعددة، إلى هذا النظام، وهي في أحوال عديدة استمرت بفضل تناقضاته وليس رغماً عنه، كما قد يعتقد البعض. لكن المشكلة الأساسية للحركة الفلسطينية كانت (وما زالت) تتمثّل بالتناقض الكبير بين الشعار الذي تطرحه، من جهة، وإمكاناتها الذاتية المحدودة، وشروط العمل المسموح لها بها عربياً ودولياً، من الجهة الثانية، بخاصة أن عملية الصراع ضد إسرائيل هي على مستوى عال من الشمولية، وأكبر بكثير من إمكانات الفلسطينيين وحركاتهم الوطنية، كما بيّنت التجربة. وفي العموم، وكما تبين في ما بعد، فإن النخبة الفلسطينية، التي تصدرت واجهة العمل الفلسطيني، كانت تستهدف في ممارساتها السياسية مجرد تحريك القضية الفلسطينية، وإحياء وجود الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية، بغض النظر عن الشعارات الكبيرة التي أعلنتها. هكذا يمكننا تفسير التشعّب الواسع في بناء مؤسسات منظمة التحرير: الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، التي باتت بحق الكيان السياسي والوطن المعنوي للفلسطينيين، وهذا ينطبق على مؤسسات كبرى المنظمات (“فتح”)؛ بحيث باتت بنية الحركة الفلسطينية أقرب إلى بني دولة في طور التكوين، وذلك قبل إقامة السلطة (1994)، بموجب اتفاق أوسلو. على ذلك، فإن تحوّل الحركة الفلسطينية من حركة تحرير إلى حركة استقلال تم بعد احتلال باقي فلسطين (1967)، مع انتعاش فكرة الكيانية الفلسطينية، بخاصة أن الخطابات السائدة حمّلت الأنظمة مسؤولية ضياع تلك الأراضي، وبدأت الخطابات الرسمية تتحدث عن الاعتراف بوجود إسرائيل، وبالتحول من التحرير إلى إزالة آثار العدوان، أو من الحديث عن الاغتصاب (1948) إلى الحديث عن الاحتلال (1967)، ما أسهم في تعزيز توجّه الفلسطينيين نحو التماثل مع الوضع العربي ومقررات الشرعية الدولية، وهو ما تكرّس بعد حرب تشرين (1973)، وتبني منظمة التحرير للبرنامج المرحلي، منذ الدورة الـ12 للمجلس الوطني (1974). وبعدها تم تدعيم هذا التحول مع اندلاع الانتفاضة الأولى (أواخر 1987) التي وضعت الأساس الموضوعي لتقديم هدفي الحرية والاستقلال على هدف العودة، وذلك بسبب الخريطة السياسية والجغرافية والبشرية للانتفاضة. بيد أن مضامين اتفاق أوسلو (أيلول 1993) لم تتمثل تماماً ما تم الإجماع عليه في البرنامج المرحلي، بسبب الظروف الموضوعية غير المواتية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وحرب الخليج الثانية وهيمنة الولايات المتحدة كقطب أوحد على النظام الدولي، وبحكم ضعف منظمة التحرير إثر خروجها من لبنان (1982)، والمتغيرات الدولية والإقليمية الحاصلة. هكذا مثلت مسيرة أوسلو تراجعاً، أو نكوصاً، حتى عن البرنامج المرحلي، بمرحلتها عملية التسوية إلى مرحلتين، الأولى تعنى بقيام حكم ذاتي انتقالي في الضفة والقطاع، والثانية تخصص لإيجاد حلول لقضايا: اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية. وكما بتنا نعلم، فإن كل ذلك تمخض عن وهم، كما تبين في مفاوضات كامب ديفيد2 (2000)، ما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية، التي أدت بدورها إلى تملص إسرائيل من كل الاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية، وقيامها تالياً بتكريس واقع الاحتلال. هذا هو مسار تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى حركة استقلال، ومن حركة سياسية إلى حركة تعنى بالشؤون الإنسانية والبلدية، ومن حركة كفاحية إلى مجرد سلطة على شعبها. السؤال الآن، وماذا بعد؟ أو لماذا لا تحاول الحركة الوطنية الفلسطينية مراجعة تجاربها، وخياراتها، بطريقة نقدية ومسؤولة؟ ولماذا لا تشتغل على إعادة بناء البيت الفلسطيني بدلاً من تبني أوهام أو مراهنات تتبين عن مجرد إخفاقات؟
عن النهار العربي
(اللوحة للفنان كمال بلاطة)