اتهام السلطة وأجهزة امنها بأن معارضيها وراءهم “جهات معادية للشعب الفلسطيني” وان لهم “اجندات مشبوهة” تكتيك” مقرف ومنسوخ ببلادة عن التجارب العربية القمعية. عوضاً عن الاعتراف بالخطايا والجرائم المتتالية التي فاقمت النقمة الشعبية المتصاعدة تضيف السلطة خزياً آخر على أدائها عبر استخدام تهمة “الاجندات المشبوهة”. هناك شريحة ضيقة رددت هذا الكلام الفارغ، بعضهم بحسن نية لكن بسذاجة وقصر نظر والبعض الآخر لأسباب نفعية وتبعية سقيمة لا تليق بالاحرار. الغالبية الكاسحة من الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وكما تشير استطلاعات الرأي المتواترة عندها نفس الموقف السلبي تجاه السلطة.
لنتأمل اولاً نتائج اخر استطلاع رأي قام به المركز الفلسطيني للدراسات السياسية والمسحية. نسبة الخطأ العلمي في هذه المسوحات لا تزيد عن ٣٪، ولكن وامعانا في الموضوعية دعونا نفترض ان نسبة الخطأ هي ضعف ذلك أي ٦٪، ولنقرأ بعض الأرقام في ضوء هذا الافتراض. الأرقام تقول لنا شيئاً واحداً وهو ان المشهد السياسي يتغير والرأي العام الفلسطيني يبتعد بمسافات عن السلطة ورئيسها أبو مازن وعن حركة فتح. تقول النتائج: ٨٤٪ من الفلسطينيين مقتنعين بوجود فساد في مؤسسات السلطة مقابل ٥٧٪ يقولون بوجود فساد في مؤسسات سلطة حماس، نسبة الاحساس بالامن والسلامة في الضفة الغربية ٦٠٪ وفي غزة ٦٥٪، نسبة التصويت الى قائمة حماس لو حصلت انتخابات وقت اجراء الاستطلاع في منتصف حزيران ٣٦٪ مقابل ١٩٪ لقائمة فتح و٩٪ لقائمة ناصر القدوة. ولو جرت انتخابات رئاسية جديدة اليوم وترشح فيها اثنان فقط هما محمود عباس واسماعيل هنية، يحصل الأول على 27% من الأصوات ويحصل الثاني على 59%. هناك ٩٤٪ من الفلسطينيين تقول بأنها تشعر بالفخر من اداء قطاع غزة في الحرب الاخيرة، وهناك ٦٥٪ يعارضون قرار محمود عباس تأجيل الانتخابات الفلسطينية، وثلثا المستطلعين يعتقدون ان التأجيل تم خشية خسارة فتح. ٧٥٪ يعتقدون ان اداء حماس كان ممتازاً في الحرب والمواجهات الاخيرة مقابل ٨٪ يعتقدون ان اداء محمود عباس كان ممتازا.
هذه النتائج تعني ان الشعب الفلسطيني عنده اجندة مشبوهة ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها بحسب “التكتيك” العبقري الأخير للسلطة وأجهزتها الأمنية وابواقها الإعلامية. صحيح ان المؤشرات اعلاه متأثرة بالحرب الاخيرة لكنها منسجمة تماما مع منحى واضح لاستطلاعات الرأي والمزاج الشعبي الفلسطيني خلال السنوات الاخيرة على الأقل. معنى ذلك ان النقد الموجه للسلطة والنقمة عليها ليس اراء انطباعية عابرة ولكتاب “مأجورين” بل هو نقد ونقمة يعكسان المزاج والرأي الشعبي العام.
بحسب نصوص اوسلو التي صارت شبه مقدسة عند مناصريه، هذه السلطة كان من المفترض ان تكون مؤقتة وتنتهي سنة ١٩٩٩ وتتحول الى دولة فلسطينية مستقلة. اسرائيل حولتها من حالة مؤقتة الى دائمة تحمل عبء “السكان” ولا تسيطر على الارض التي بقيت تتآكل استيطانيا. على ذلك ومن منظور وطني بحت كان على هذه السلطة ان تحل نفسها ذاتيا منذ ذلك التاريخ، وان تقلب الطاولة في وجه اسرائيل وامريكا وتعيد الامور الى مربع الثورة والتحرير. لم يحدث هذا، وتحولت السلطة الى هذا الكائن المُترهل الذي يرتمي في وجه الشعب الفلسطيني الان ويقف بينه وبين مواجهة الاحتلال. ان يقوم المستعمر المحتل بتصنيع سلطة محلية تقوم بالشأن الاداري الحياتي للشعب تحت الاحتلال هو حالة متكررة ومكشوفة في تاريخ الاستعمار وممارساته، وشهدتها عشرات الحالات من الهند الى افريقيا الى آسيا (وحتى في فرنسا التي احتلها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية انشأوا سلطة محلية ترأسها احد اهم ابطال فرنسا خلال الحرب العالمية الاولى وذلك لمنحها شرعية وطنية كبيرة). طبعا هناك مسوغات تُساق للدفاع عن هذه السلطات وهي مصلحة الشعب، وانها مرحلة من المراحل، وانها، وانها. المهم فلسطينيا للحكم على نجاح او فشل السلطة هو الإنجاز عبر الزمن او عدمه. امامنا ٢٨ سنة مرت على هذه السلطة العتيدة من دون ان تحقق اي انجاز وطني على الارض من منظور التحرير يعني انها فشلت ويجب ان يتحول الفلسطينيون الى مشروع آخر، يعيد توحيد الشعب وفق بوصلة شعب واحد، ارض واحدة، مصير واحد. هل سننتظر ٢٨ سنة أخرى كي نتفق على هذه البدهية الواضحة؟ وما هي المؤشرات التي تقول بأن السلطة سوف تتحول الى شيء مختلف وعظيم مثلا؟
في مسيرة الفشل العتيد، اصبحت السلطة هي الممثل الشرعي للفلسطينيين من ناحية عملية برغم حصرها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي شرعنت تقطيع الشعب الفلسطيني، الى داخل متروك لإسرائيل، ولاجئين لم يعودوا على الاجندة الوطنية عمليا. لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية قائدة المشهد والتي من المفترض انها تمثل كل الفلسطينيين. تم تهميش وشل المنظمة، ومعها المجلس الوطني الفلسطيني، وتم تحويل حركة وطنية عريقة وحظيت بموقع اثير في وجدان الفلسطينيين مثل حركة فتح الى طوابير من منتظري الرواتب، وفُرغت منها الروح الثورية التي كانت جذرها المتوقد. تحولت السلطة ووفق شواهد وادلة ودراسات احصائية وتقارير لمؤسسات وطنية الى مفسدة حقيقية. هناك بالطبع افراد مخلصون كثيرون في مؤسسات السلطة وافراد وطنيون مخلصون في أجهزتها الامنية ارادوا بحق ان يخدموا شعبهم بإخلاص هنا وهناك ضمن نظام السلطة، لكن الحديث هنا عن المؤسسة بشموليتها ومشروعها الذي فشل مؤسساتيا ومشروعاتيا. في السنة الاخيرة هذه استمر تردي السلطة بشكل حاد من قاع الى قاع. ظننا ان القاع الاكثر دويا كان الغاء الانتخابات، لكن لحقه قاع تحداه في الدوي وهو الغياب التام اثناء هبة وسيف القدس، ثم تلا القاعين قاع ثالث فجع الجميع وتمثل في فضيحة مخزية هي لقاحات كورونا منتهية الصلاحية التي لفظتها إسرائيل علينا. وفي قلب ذلك القاع المُذهل ادهشنا أداء السلطة عندما حفرت قاعاً آخر هو جريمة القتل الدموية للناشط نزار بنات. في كل هذه القيعان لم يستقل مسؤول واحد من السلطة، والكل يلقي التهم على الآخرين. في البحث عن شماعة السقوط في تلك القيعان تفتقت عبقرية هذه السلطة واجهزتها الامنية عن خطاب مزدوج: يتهم الشعب باجندات مشبوهة لأنه يرفض هذه السلطة، ومن ناحية أخرى يدافع عن السلطة ويتمسك فيها لأنها “تحمي مشروعنا الوطني”. هذا خطاب معيب يحتقر ذكاء الفلسطينيين، ويحتقر تضحياتهم، ويحتقر ثوراتهم. كل كاتب او ناقد للسلطة اصبح “مأجور”، كل مظاهرة ضدها تأتمر بأوامر خارجية، وكل هتاف ضد السلطة يتم تحويره ليصبح وكأنه هتاف ضد فتح خلطا للأوراق.
فتح ذاتها تقف على مفترق طرق: اما ان تواصل الغرق مع السلطة الغارقة ورئيسها الفاشل الذي لم يحظ الا برضى ٨٪ من الفلسطينيين، او انها تثور على ذاتها وتصحح المسيرة وتقفز من السفينة الغارقة وتلفظ ربانها الفاشل. اين هي مؤسسات حركة فتح التي نضع امامها سؤال بيولوجي انساني بعيدا عن السياسة والجدل: هل سيموت أبو مازن يوما ما؟ هل تنطبق عليه قوانين الموت والحياة، بحيث تضطر الحركة للبحث عن بديل او خليفة؟ واذا كان الجواب نعم، فماذا ستفعل الحركة والمنظمة والشعب بعد ان يحل “اليتم والتيتم” بنا؟ هل سياسة الانتظار بكل ما قد تحمله من انفجارات هي السياسة الحكيمة؟
الاحزاب والشعوب التي لا تقبل ان تُداس كرامتها تُحيل حتى اكبر قادتها للتقاعد عندما يفشلون. هكذا فعل الفرنسيون بديغول والبريطانيون بتشرتشل بعد الحرب العالمية الثانية، وكلاهما كان بطلا من ابطالها في عيون شعبه. نتنياهو العنصري والمجرم بالنسبة لنا ازاحه الإسرائيليون اعداؤنا وهو في تقديري من اهم القادة الذين خدموا إسرائيل ومشروعها الصهيوني منذ ان تأسس الكيان. السؤال المذهل: ماذا قدم ابو مازن وماذا قدمت هذه السلطة من إنجازات وبطولات تستحق كل هذا التمسك بها وتستحق “الدم” الذي يتجهز كي يُراق؟ من منظور حركة تحرر وطني وخلال الثلاثين سنة الاوسلوية المشؤومة الماضية لم تقدم السلطة سوى تخليق صورة مُضللة وفرت لإسرائيل تعميق استيطانها واحتلالها، وادت الى تآكل الروح الثورية عند الشعب بسبب مزاعم “الإنجاز ولأن رئيسها لا يؤمن بالانتفاضات ضد المحتل ويقدس المفاوضات والتنسيق الأمني.
الاجندة المشبوهة الحقيقية هي الاجندة التي تقبل بقاء سلطة ورئيس تم تحويلهما الى سياق وظيفي دائم لا مستقبل له سوى خدمة الاحتلال وتخفيف العبء عنه، ولم يعد له علاقة بما يخدم قضية التحرير التي هي لب صراعنا الوجودي. سلطة قال عنها أبو مازن نفسه بأن اصغر جندي اسرائيلي يمنع رئيسها من السفر إن اراد.
قمع الفلسطينيين وما رأيناه من انحطاط في الممارسة الامنية يريد تحويل شعب ثائر ومتمرد ونبيل الى قطعان من الغنم التي تركع للمسؤول وتقبل اقدامه من اجل الراتب ولقمة العيش. الاجندة المشبوهة هي التي تريد قتل روح التمرد عن الناس، وعوض ان يكونوا فرسانا ذووي رؤوس عالية، تريدهم ان يكونوا خانعين يقبلوا الظلم ويصفقوا له. الاجندة المشبوهة هي التي تضحك على افراد مغررين يخرجون الى الشارع ليعتدوا على شباب وصبايا بلدهم، وللدفاع عن مسؤولين فاسدين، بدل ان يستقيلوا وينصرفوا ويُقدموا الى محاكم وطنية تحاسبهم على فشلهم وفسادهم وافسادهم.
1 thought on “شعب الاجندات المشبوهة!”