شطرا برتقالة … عن الانفصال بين قطاع غزّة والضفة الغربية
في مثل هذه الأيام من عام 2007، كانت المعارك الدامية على أشدّها بين قوات الأمن الفلسطينية الرسمية وقوات حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؛ تلك المعارك التي انتهت قبيل منتصف يونيو/ حزيران بانفصال قطاع غزّة وسلطته عن الضفة الغربية وسلطتها. ومنذ العام 2009، والمحاولات السيزيفية لرأب الصدع تتوالى: لقاءات وحوارات وتفاهمات عديدة في عواصم دول عربية وغير عربية كثيرة، وبمساعدة وسطاء كثيرين، عربًا وغير عرب، كلها فشلت في إعادة توحيد ما انشطر في يونيو/ حزيران الحزين من ذلك العام، على رغم الرغبة الشعبية الجامحة في كلا الشطرين بذلك. ويعرف العارفون، وبعد التجربة على مدار 16 عامًا بالكمال والتمام، أن مردّ الفشل هو أساسًا هواجس ومخاوف كل من حركتي فتح وحماس: هواجس الثانية ومخاوفها من فقدان سيطرتها على قطاع غزّة، وهواجس الأولى ومخاوفها من فقدان سيطرتها على الضفّة الغربية. علمًا أن هناك عوامل إضافية، داخلية وأخرى خارجية، تعمل على إدامة الانقسام وتغذية تلك الهواجس والمخاوف المتبادلة. أمًا تلك العوامل التي تعمل على تكريس الانقسام أو إدامته فيمكن إجمالها بالتالي:
أولًا: ليس سرّاً أن حكومات إسرائيل المتعاقبة، في ما تعمله أو تحجم عن عمله، حريصة على تكريس واقع الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية، ولأسباب غير خافية، أمنية وسياسية وديمغرافية.
ثانيًا: منذ نكبة عام 1948، فإن فترة الانفصال القهري بين قطاع غزة والضفة الغربية تفوق فترة الاتصال والوحدة السياسية بينهما. فكما نعرف جيدًا، خضع القطاع للإدارة المصرية بعد النكبة بينما خضعت الضفة الغربية للحكم الأردني. ومنذ الانقسام عام 2007، يخضع القطاع لحكم حركة حماس، بينما تخضع الضفة لحكم السلطة الفلسطينية، برئاسة حركة فتح. هذا ناهيك عن الفصل القهري بين سكان الشطرين خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.
ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل بأنّ مزيداً من الحوارات واللقاءات والتفاهمات والوساطات بين “الإخوة الأعداء” سوف يؤدّي إلى المصالحة الحقيقية بينهما
ثالثًا: أوجد الفصل بين الشطرين، سواء بعد النكبة أو بعد الانقسام أو خلال الانتفاضتين، واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا وقانونيًا مختلفًا بين الشطرين، واقعًا يجعل إعادة الوحدة السياسية، وكما كان عليه الحال قبل الانفصال، أكثر تعقيدًا وصعوبة.
رابعًا: كما لا يعمل الصراع/ التنافس بين المحاور الإقليمية، والتي تتحيّز إليها سلطتا كلا الشطرين، على تجاوز واقع الانقسام (أقلّ ما يقال).
على ضوء ما ورد أعلاه، ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل بأن مزيدًا من الحوارات واللقاءات والتفاهمات والوساطات بين “الإخوة الأعداء” سوف يؤدّي إلى المصالحة الحقيقية بينهما، وبالتالي تجاوز واقع الانقسام السياسي البغيض. وإذا كان الأمر كذلك، يظلّ السؤال التالي يدقّ جدران الخزّان: كيف، وبأي الطرق البديلة، يتسنّى تجاوز مثل هذا الواقع؟ وفي اعتقادي، يتم، إذا تم، بإحدى الطريقتين التاليتين: ضغط شعبي بدرجة عالية من الحدّة والزخم، وتحت طائلة التمرّد أو التهديد به، لإلزام الطرفين بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه أو التفاهم بشأنه سابقًا. وهو ما لا أراه قادمًا في المدى القصير. تعديل النظام السياسي الفلسطيني، وباتجاه تبنّي نوع من الفيدرالية في العلاقة بين الشطرين، قطاع غزّة والضفة الغربية. هذا يعني، في ما يعنيه، تحويل كل من الشطرين إلى إقليم يحظى بالحكم الذاتي ويرتبط فيدراليًا مع الإقليم الآخر، والذي يحظى بدوره بالحكم الذاتي على المستوى نفسه، بينما يخضع الإقليمان إلى حكم مركزي، كما هو الحال في الدول التي تتبنّى النموذج الفيدرالي نظامًا للحكم.
منظمة التحرير هي البيت الوطني الجامع والواسع، وهي التي “يجب أن” تبتّ بشأن البرنامج السياسي كما بشأن أهداف النضال الوطني وأدواته ووسائله
جدير ذكره أن من أهم فضائل نظام الحكم الفيدرالي توزيع السلطة (عوضًا عن مركزتها واحتكارها) ومراعاة خصوصية الإقليم أو الأقاليم (وهي في العادة خصوصية اقتصادية/ اجتماعية وثقافية)؛ وفي حال قطاع غزّة، تتمثل هذه الخصوصية بخلوّه من المستوطنات وبالسيطرة الفلسطينية على كامل مساحته كما كانت قبل حرب 1967. ومن فضائله الهامة أيضًا تيسير إجراء الانتخابات العامة، سواء على مستوى الإقليم أو المستوى الفيدرالي. ومن شأن ذلك كله، إذا تحقّق، تبديد قدر كبير من هواجس ومخاوف كل من الحركتين الحاكمتين حاليًا، “حماس” في غزّة و”فتح” في رام الله. أما سلطات الحكم المركزي، الرئيس والحكومة والمجلس التشريعي والمحكمة العليا، فتتمحور أساسًا حول التشريعات ذات الطابع الدستوري، العلاقات مع الأطراف الخارجية للأغراض المختلفة، تعزير صمود الناس في أرض الوطن، حمايتهم والدفاع عن حقوقهم، توحيد رزمة القوانين النافذة، وهكذا. ولكن مثل هذا التحوّل نحو الفيدرالية لن يحدُث، وإذا حدث لن يفلح في رأب الصدع، في غياب التحوّل المنشود الآخر: إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإحياء دورها، وعلى أسس ديمقراطية وتشاركية. وإذا كان الأمر كذلك، الأهم والأجدر والأوْلى، والذي بدونه لا تتحقق المصالحة الحقيقية بين حركتي فتح وحماس وسلطتيهما وأنصارهما، هو المباشرة بإعادة بناء منظمة التحرير على الأسس المذكورة، فالمنظمة هي البيت الوطني الجامع والواسع، وهي التي “يجب أن” تبتّ بشأن البرنامج السياسي كما بشأن أهداف النضال الوطني وأدواته ووسائله، وهي أيضًا السقف السياسي لسلطة الحكم الذاتي. وما الانقسام الحالي، في اعتقادي، إلا عرضٌ من أعراض خراب هذا البيت الوطني. بكلمات أخرى، قضية المصالحة على مستوى السلطة ليست، ولا يمكنها أن تكون، منفصلة عن قضية إعادة بناء دور منظمة التحرير وإحيائها على الأسس المذكورة.
وللإجمال أقول: لإعادة بناء المنظمة على أسس ديمقراطية وتشاركية أولوية (من حيث الأهمية الوطنية) على تجاوز واقع الانقسام بين الشطرين. وفي اعتقادي، إعادة بناء المنظمة وإحياء دورها هو أيضًا شرط غير قابل لأن ينهزم لتحقيق تلك المصالحة المشتهاة. وإذا لم يكن هذا الشرط كافيًا، فقد يكون التحوّل نحو نوع من العلاقة الفيدرالية بين الشطرين عاملًا مساعدًا لتجاوز واقع الانقسام السياسي المقيت، فالشراكة على مستوى المنظمة المتجدّدة ديمقراطيًا ومقترح الفيدرالية المذكور كفيلان بتبديد هواجس (ومخاوف) كل من حركتي فتح وحماس وأنصارهما، مخاوف “حماس” من فقدان سيطرتها على قطاع غزة وتبعات ذلك، ومخاوف “فتح” من فقدان سيطرتها على الضفة الغربية وتبعات ذلك.
وختامًا، إذا كان واقع الانقسام حقًّا من أعراض خراب البيت الوطني الفلسطيني الذي كان واسعًا وجامعًا، أفليس من الحريّ المباشرة في إعادة إعمار هذا البيت تمهيدًا لإعادة لمّ شمل “الأحباب” الذين تفرّقوا قبل عام 2007 وخلاله، ومضى كلّ في طريق؟!
عن العربي الجديد