شرق أوسط جديد – منذ أكثر من 100 عام

إذا سرنا وفق الترتيب الزمني – ففي بداية الأمر كان هناك الأوربيون، هم الأوروبيون – هم الذين رسموا حدوداً مصطنعة على الخرائط. لقد رسموها بغض النظر عن الجغرافيا والتاريخ والشعوب والأديان واللغات. حدود تفصل دون أي تفكير. أو بالذات بتفكير يخدم مصالح القوى الاستعمارية التي سيطرت بالاخص على أفريقيا والشرق الأوسط.
ويد التاريخ الطويلة لم تمت. فالقرارات التي تم اتخاذها في مؤتمر برلين 1884-1885، والذي قرر فيه ممثلو القوى الاستعمارية الأوروبية توزيع الغنيمة – وكانت غنيمة بالمعنى الكامل للكلمة في القارة الأفريقية – على خطوط حدود وفق خطوط الطول العرض بشكل رئيسي. أي أنهم أخذوا مؤشرا اخترعه الإنسان لتنظيم الأطالس والكرة الأرضية بشكل مريح وألبسوه على الصحاري والأدغال وأحواض الأنهار وكل شيء آخر. خط مستقيم امتد من مؤتمر برلين إلى المجازر التي جرت في تلك الأيام في شرق الكونغو (مؤتمر برلين سمي أيضاً بمؤتمر الكونغو، لأن استيلاء ملك بلجيكا على الكونغو كان السبب والحافز لعقد المؤتمر).
الشرق الأوسط بالطبع :
كانت الحدود حتى قبل حوالي مائة عام في الشرق الأوسط معقولة كما هي، أو كانت نتيجة للتاريخ: تم تحديد الخط الحدودي بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية من قبل سليمان القانوني بعد حروب بين القوى العظمى الإسلامية، وكذلك أيضا الخط الحدودي بين الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية.
وحينها جاءت الحرب العالمية الأولى. وعندما يكون السيف على رقبتك، فإنك تعد الجميع بكل شيء، وتفكر بشكل غير واضح ، هذا إذا فكرت، حول العواقب . وهكذا وزعت بريطانيا الوعود للهاشميين – حلفائها في الثورة العربية، ولليهود وبالطبع للحلفاء المهمين على الجبهة الغربية، فرنسا – اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة.
وفي نهاية الحرب، تم رسم حدود جديدة في الشرق الأوسط. نجح أتاتورك في إبقاء المزيد من الأراضي لتركيا، وأحدث نظام الانتداب تغييرات جذرية، وأقنعت غيرترود بيل – مغامرة بريطانية مشهورة، بريطانيا بضم ثلاث مقاطعات عثمانية انشأت منها دولة اسمتها العراق، وأبعد إبن سعود الهاشميين من وطنهم وحصلوا من بريطانيا، من بين أمور أخرى، على ماوراء الأردن وولدت سوريا ولبنان ولاحقًا إسرائيل، واليمن توحدت ومن ثم تفككت بعد ذلك توحدت و وتفككت مرة أخرى وأخرى .
“لم يعد هناك سايكس بيكو”:
أصبحت سايكس بيكو رمزا لدرجة أنه عندما اقيمت خلافة داعش الإسلامية التي كانت تسيطر في ذروتها على نحو 50 ألف كيلومتر مربع في سوريا والعراق، كان من أعمالها الرمزية التي لا تنسى إزالة الحجارة الحدودية بين العراق وسوريا وأعضائها يهتفون – “لم يعد هناك سايكس بيكو”. بعد مرور قرن من الزمان على اتفاقية سايكس بيكو، بدا الأمر وكأن الاتفاقية قد وصلت إلى نهايتها، وأصبحت من بقايا الحقبة الاستعمارية التي لم يعد لها مكان في العالم الحديث.
ولكن، مثل ذلك الشرير – أو البطل – في الأفلام السينمائية الذي يبدو وكأنه قد تم القضاء عليه ثم يقوم من جديد لخوض معركته الأخيرة، كذلك سايكس بيكو لم يقل كلمته الأخيرة بعد . وليس هو فقط، بل كل التسويات من الفترة الاستعمارية، سواء كانت تمثل حقا الواقع الحالي على الأرض أو لا.
هل تذكرون انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 ؟ تم قياس الخطوط الحدودية حتى السنتيمتر الأخير، تماماً وفقاً لخط الحدود الذي تم تحديده في اتفاقية سايكس بيكو. ولا يغير من الأمر شيئا أن الأمر الجديد ليس بين بريطانيا وفرنسا، بل بين لبنان وإسرائيل. هل تتذكرون قبل اتفاقية السلام مع مصر، والخلاف حول طابا ؟ لماذا نشأ الخلاف؟ لأن الخط الحدودي الموجود على الخريطة من عام 1906 (!!!) والذي رسم الحدود بين الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية لم يكن واضحا في هذه المنطقة. فراسمو الخرائط في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، ومفسريهم بالطبع هم الذين حددوا الحدود الدولية التي نعرفها اليوم.
والآن نفس اللحن مرة أخرى، أو نفس المسرحية مرة أخرى. إعادة رسم الخط الحدودي بين لبنان وإسرائيل. عندما أذكر أن خط الحدود يمر وسط قرية ويقسمها إلى نصفين، تذكرون ؟ ستقولون إن هذا غير مهم، فقد استولت إسرائيل على مناطق في سوريا، وأنشأت منطقة أمنية جديدة وموسعة. حقيقة. والحدود والتسويات الدولية تتغير ليس فقط بالدبلوماسية وإنما أيضاً بالحروب ـ وخاصة في اتفاقيات السلام التي تتبعها. صحيح .
ولكن كما يقولون: كلما تغيرت الأشياء، كلما بقيت على حالها. انعقد مؤتمر برلين قبل وجود السيارة، والطائرة، والتكييف، والراديو، والتلفزيون. و تم توقيع اتفاقية سايكس بيكو قبل وجود الحاسوب ورحلات الفضاء والإنترنت والبنسلين وانشطار الذرة وكل شيء آخر، إذا أخذنا امثلة فقط من المجال العلمي التكنولوجي . بريطانيا وفرنسا حاليا قوتان إقليميتان ، في أفضل الأحوال . ومع ذلك، مازالت إسرائيل ولبنان تناقشان نفس خطوط الحدود فهل تعرفون لماذا ؟ أيضا الحقبة الاستعمارية لم تنته فعلا .
تغير اللاعبون ، الاستعمار القديم تحول إلى استعمار حديث ، وربما يتحول هذه الأيام إلى إمبريالية وقحة. في الشرق الأوسط، تستمر القوى العظمى في التدخل، إلا أنه حاليا يتعلق الأمر بالولايات المتحدة وروسيا، والإمبراطوريتان الإقليميتان في الماضي – العثمانية والفارسية – خلعتا لباسهما ولبستا لباسا جديدا وهما حاليا تركيا وإيران وتستمران في الصدام مع بعضهما البعض على طول نفس الخطوط الحدودية وخطوط التماس الدقيقة، والشعوب كلها ما زالت تدفع الثمن.
المصدر: يديعوت احرونوت