شذرات من الذاكرة… قابيل يقتل هابيل مجددا
غادرت المعسكر قبيل انتهاء الاسبوع،حيث أن دفعي في حرج الشوك،ادى الى أصابتي بنوع نادر من الحساسية العالية.
خمسة أيام كاملة قضيتها في حرارة تجاوزت الأربعين،مع اسهال مدمى وقيء مدمى ايضا.حار الطبيب الذي أحضر من النبطية بعد تدهور صحتي في علاجي ،في اليوم السادس التفت إلى قائد المعسكر وقال :عليكم نقله إلا المستشفى فورا والا سيموت.بحاجة إلى علاج في غرفة العناية الفائقة ، وهكذا خرجت من المعسكر مطبقا المثل:تيتي تيتي ..متل ما رحتي متل ما جيتي..
لم اتدرب على اي شيء،ولم اخض اي معركة عسكرية،ولم ارفع سلاحا بوجه اي مقاتل من الطرف الاخر (القوات اللبنانية/الجيش السوري/جيش التحرير الفلسطيني)،ولم يحتاج احد للبحث عن صورة لي لطبعها في بوستر يعلق في زواريب بيروت او مخيماتها.
حينما غادرت المعسكر تلفت ورائي فلمحت عزرائيل يطوف حول المعسكر فاركا يديه فرحا بالوليمة الدسمة التي تنتظره بعد ايام قليلة.هذا الامر يجعلني الان استرجع اخر اللحظات قبيل المغادرة من دمشق الي لبنان ،حينها كان لا يترك البعض خلفه إلا صورة واستمارة معلومات شخصية.
كان الامر كأن الجميع بات ملصقا يحضر للطباعة واللصق في زواريب المخيمات.لقد كان الجنون في القرارات التنظيمية والعسكرية واضحا…وبدا الامر وكأن اهل اليسار واهل اليمين يتسابقون في ضخ الشهداء والتفاخر بمن قدم اكثر من الاخر من شهداء ومعطوبين وجرحي في ازقة الاسواق التجارية وبيروت القديمة وليس علي الحدود وفي الصراع مع اسرائيل.
قد يعتقد البعض ان في الامر مبالغة،لكن هذا ما لمسته من سؤال كان يتردد دوما وفي كل الكتائب العسكرية ومكاتب القادة:كم شهيدا سقط لنا وكم شهيدا سقط من كل فصيل.او من الأوامر العسكرية الغريبة والتي كانت تأتي باللاسلكي بضرورة احتلال هذا المبنى او ذاك حتي لو ابيدت دورية او مجموعات عدة،وكأن برج المر،ذلك الفندق الشاهق في الاسواق التجارية بيروت كان يطل علي القدس، والاستيلاء عليه وتحريره سيجعلنا ندك اخر فلول جيش الإحتلال فيها ونرفع رايات النصر فوق اسوارها.
لم يكن للفرد اي قيمة في حسابات القادة العسكريين لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، لكن الامر كان اكثر كارثية في فصائل اليسار.فقد كان همها الأكبر في الحرب الاهلية اللبنانية اثبات الوجود، وبالتالي المطالبة بحصة من الكعكة والغنائم علي كل الأصعدة.اي متصفح لقوائم شهداء اليسار سيصدم حينما يطالع تواريخ واماكن استشهادهم. سيجد ان عشرات الشهداء قد سقطوا في يوم واحد وفي محور واحد.ولازلت اذكر جيدا ان برج المر قد كلف فصيلا يساريا فلسطينيا في خلال يوم واحد اكثر من عشرة شهداء لاحتلاله،وكانت الاوامر القادمة باللاسلكي:عليكم تطهيره مهما كلف ذلك من ثمن.
وما يزال عالقا في ذاكرتي ان حرب البوسترات كانت مشتعلة في زواريب المخيمات وحارات بيروت، الكل يتسابق للصق صور شهدائه واكثر من اشتباك تم وسقط فيه قتلى وجرحى ،والسبب تعليق بوستر شهيد من فصيل فوق بوستر شهيد من فصيل اخر.كانت جدران المخيم باتت كانها سلسلة بشرية من الشهداء الشاخصين بالمارة والمحدقين نحو السماء بحزن ومرارة.
ما زلت اذكر مطبعة صنين حيث كانت تطبع مجلات ونشرات معظم فصائل اليسار في بيروت، وهي المطبعة الوحيدة في بيروت التي صمدت اثناء حصار اسرائيل لبيروت عام 1982 ،وبالتالي كانت كل الفصائل والاحزاب تطبع فيها فيما بعد،كان عمال المطبعة ينهمكون في صب احرف الرصاص لتدوين ملخصات سريعة عن كل شهيد،ومن كثر الشهداء وطلبات البوسترات كان عمال الطباعة يتهامسون:نخاف ان نصحو غدا ولا نجد احدا نطبع ملصقا له.
في تلك الحرب المجنونة والملعونة كان الموت في كل مكان،وكان عزرائيل يتجول مطمئنا في كل الارجاء،فمن لم يمت بقذيفة سيموت برصاص قناص او باشتباك مباشر او بسيارة ملغومة او علي حاجز طائفي بغيض.وكان الطلبة القادمون من الخارج الاقل خبرة في المعارك والذين باتوا وقودا لالة الحرب والتي يزج بهم في كل المواقع الامامية،باتت الخسارة في اوساطهم كبيرة وتزايدت حينما اصطدمت المقاومة مع الجيش السوري بعد دخوله الي لبنان.
في معارك التصدي للجيش السوري، تلك المعارك التي سيدونها اليسار واليمين فيما بعد بأنها كانت ملاحم الدفاع عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، ادت الى مجازر فعلية وشهداء بالمئات.
لقد دفع الطرفان في هذه المعارك مئات الشهداء والمعطوبين والجرحي في أتون معارك صبت بالكامل لصالح معسكر الاعداء،في تلك المعارك كان المواجهات تدور في احيان عدة بين جيش منظم ومتطوعين من الطلبة لا خبرة لهم إلا في فك وتركيب الكلاشينكوف واطلاق النار منه.ولعل الطامة الكبري التي لم يحس بها القادة السياسيون و العسكريون الفلسطينيون ان الخسائر من جراء المواجهات السورية/الفلسطينية الدموية كانت فلسطينية خالصة.وهو امر لم يكن يخطر ببال من اتخذ قرار الصدام،فالجيش السوري دفع في مقدمة قواته التي دخلت الى لبنان قوات من جيش التحرير الفلسطيني المرابطة في سوريا والتي تأتمر بأمرته وتتلقى قراراتها العسكرية من رئاسة الاركان السورية. وقوات جيش التحرير الفلسطيني كان يخدم بها الفلسطينيون ممن بلغوا سن الخدمة العسكرية وتضم خيرة الشباب من متعلمين وخريجي الجامعات والكوادر التقنية والمهنية الفلسطينية اللاجئة في سوريا..في حينها اصطدم الطرفان بمعارك موت او حياة،وكان الشهداء بالمئات من كلا الطرفين واتشحت شوارع مخيمات سوريا ولبنان بالسواد فقد كان قابيل وهابيل يقتتلان دون رحمة.وكأن لم يكف المخيمات عمليات التدمير الواسعة والابادة التي لحقت بها من جراء الحرب الاهلية خاصة في شرق بيروت وبعض مناطق الجنوب،انما اكتملت الدائرة بالحرب بين الاخوة الاعداء.
1 thought on “شذرات من الذاكرة… قابيل يقتل هابيل مجددا”