شذرات من الذاكرة.. رائحة الموت ما زالت ترافقني

ما بين 31.08 و15.09 ،كنت أتلمس خطواتي الاولى،في تجربة لا أعلم اين ستصل بي.واحاول تجميع نفسي،أن تعتاد أن تكون وحيدا..لا رفاق حولك…لا تعرف احدا،تبحث عن مكان تبيت  فيه،وتعيد ترتيب حياتك…عدت إلى حضن العائلة .فانا لا املك شقة ،لهذا عدت إلى بيت عمي في شارع ابو سهل في الفاكهاني،بعد عودتهم هم أيضا إلى العمارة شبه المدمرة.وجعلت من صوفا متهالكة في شقة الطابق الرابع مكانا لاقامتي المؤقتة،وجعلت من محلات اعمامي في ساحة صبرا ،بداية لحياة جديدة،اعيد تشكيلها من تحت الصفر،في امتحان جديد لا ينتهي.محاولا فهم ما جرى،ولماذا انا هنا؟

كان اليوم هو الخامس عشر من سبتمبر….ما زلت أذكره جيدا…كنت قد خرجت من مخيم شاتيلا  بإتجاه الفاكهاني بعد إستدعاء الرفاق لي…كان الاسرائيليون قد احاطوا ببيروت ونخروا شوارعها كالسوس وبدأوا حملات إعتقال وتفتيش بمعونة المقنعين…اخبرت ان لا اذهب إلى الشقة التي تركها الشاعر ز.م  ،جهة خلية حمد ،والتي كان على أن أقيم بها مؤقتا حتى لا أعتقل،فقد علموا  أن  صاحب البيت،،وهو فلسطيني قد وشي بي ، للحاجز الاسرائيلي/الكتائبي ،الواقع على راس الزاروب مزودا اياهم بهوية الحرية التي تحمل صورتي وكان قد استولى عليها مع كل ما احتواه المنزل ،وكان من ضمنها حقيبة يد بها الهويةبعد أن غير قفل الباب مستقويا بالإحتلال المجنزر.

خرجت في الصباح الباكر من منزل جدتي…ودعتها هي وجدي على امل لقائهم ليلا…لم يكن يدور بخلد اكثر المتشائمين منا أن الاحتلال سينكث بوعوده لفيليب حبيب والتي على اساسها غادر المقاتلون بيروت…وبقينا نحن/بضعة افراد مدنيين مع العجائز والنسوة والاطفال لإنجاز الخدمات الإجتماعية والإغاثية لما تبقى من سكان المخيمات شبه المدمرة…

كنا في الايام السابقة متعبين من كثرة ما تنقلنا بين شاتيلا وصبرا والداعوق وبرج البراجنة ومار الياس واماكن المهجرين في الحمراء والروشه والأسواق…سالكين طرقا التفافية حتى لا يمسكنا جنود الاحتلال المتمترسين وراء حواجزهم أو المزودين بقوائم وعناوين يتم مداهمتها بصحبة المقنعين…

خرجت يومها إلى شقة صغيرة مجاورة للمخيم للقاء أمير الناطور حامل الرسالة لي، رائحة الموت كانت تحوم حول المخيم وفي الأزقة…كان الكثير يتوقع إعتقالات وحمل من يقع في ايديهم باتجاه معسكر انصار…لكننا لم نتوقع أن تمتد يد القتلة بسكين باردة لقتل الاطفال والعجز والمدنيين…

منذ الصباح الباكر احاطوا بالمخيم من كل حدب…كل من كان يخرج كان يعتقل وينقل بإتجاه المدينة الرياضية على اطراف المخيم…كانت حواجزهم لا تسمح حتى لنملة ان تمر….عندئذ فهنا ان امرا كبيرا يجرى التحضير له…لكن السيف كان قد سبق العدل ولم يعد بالإمكان فعل شيء…لم يكن في المخيم سلاح إلا بضعة مسدسات …كله قد تم إخراجه تحضيرا لمرحلة الإحتلال القادمة..حتى الشباب غادر معظمهم، خاصة من كان له علاقة بالمقاومة وتاهوا في حواري وزواريب  بيروت…

اي ادعاء بأن م.ت.ف. أو الفصائل  قد تركت مجموعات  أو تشكيلات مسلحة لحماية المخيمات هو ادعاء كاذب، وعنطزات اعلامية.لقد انسحبوا بقضهم وقضيضهم ،قيادة وكوادر ومقاتلين،وكما حصل في أحداث ايلول ترك المدنيون ليدفعوا ثمن نصر كاذب،وليسددوا حسابات جمهورية الفاكهاني التي تهاوت كنمر من  ورق.

لم يكن في صبرا وشاتيلا أو حتى في محيطها وصولا إلى الفاكهاني ودوار الكولا وحتى إلى المزرعة اي قائداو مسؤول ممن بقي في بيروت يسكن هنا ،كان معظمهم قد رتبت لهم أماكن إقامة آمنة ومجهزة بكل شيء بما فيهاالمرافقين والحراس المدنيين،ووسائل التنقل السريعة إن أحاط بهم اي خطر. كانوا مختبئين  في أماكن آمنة مثل راس بيروت وبير حسن وعائشة بكار والمصيطبة ومحيط الجامعة الأميركية .

ما ان هل المساء حتى فلت القتلة من عقالهم دون رقيب او حسيب36ساعة اتموا فيه مجزرتهم …الحارات الاولى لم يتركوا فيها حيا حتى الرضع لم ينجوا من الجزارين والقتلة…مثل بالعديد من الجثث واغتصبت العديدات من الفتيات…اما الشباب فقد رحلوا حيث اعدموا بدم بارد او دفنوا احياء في حفرة ضخمة كانت البلدوزرات قد حفرتها على عجل….في الحارات الخلفية المطلة على مستديرة المطار تم الشيء نفسه…قتل بدم بارد….

لم ندرك حجم ما تم إلا بعد ثلاثة ايام حينما إنسحبوا فجأة وحضرت اول صحافية وهي مذهولة لتخبرنا انه لم يبق احياء في صبرا وشاتيلا …الجثث تملأ الحارات والزواريب والبيوت…الجميع ما بين قتيل او مفقود او مثخن بالالام من جراحه….كفر قاسم القرن العشرين…إبادة جماعية لمدنيين لا ذنب لهم إلا انهم فلسطينيون او فقراء لبنانيون لم يكن لدى القتلة وقت لفرز الضحايا ….اعتبروا الجميع لاجئين يجب ترحيلهم إلى الرب والخلاص منهم…

حين دخلنا المخيم الساعة الثامنة من حارات فرعية كان المنظر مرعبا…لقد تجول عزرائيل بين العزل بوحشية وسادية…جثث يغطيها الذباب وسط برك من الدماء…جثث نهشتها كلاب مسعورة اطلق لها العنان…نساء حوامل بقرت بطونهن ورمي بالأجنة بالقرب منهن….اطفال قتلوا بدم بارد في الأزقة…منهم من قتل بجانب امه او اخته ومنهم من قتل بعد ان عري بالكامل….نساء عذبن وإغتصبن قبل اطلاق رصاصات الرحمة عليهن….

من دخل منا المخيم إنهار في اللحظات الأولى وبكى العمر كله فيما بعد …لماذا لم نبق معهم لندفع القتلة عنهم….لماذا بقينا على قيد الحياة بعد ان ابادوا المخيمين ….

منذ ذالك اليوم لم تغب عن انفي رائحة الموت والدم في صبرا وشاتيلا…للموت رائحة لا يعرفها إلا من كان في ميدان القتل والإبادة ذاك المسمى خطأ صبرا وشاتيلا….

لم يصدق أحد أن القتلة قد احتسوا الأنخاب فوق جثث الضحايا….عام جديد والضحايا يئنون والقتلة ما زالوا طليقون دون حساب …عام جديد ولم يسامحني جدي أو جدتي لتركهما تلك الليلة يواجهان عزرائيل وحدهما …ورغم نجاتهما من المذبحة إلا انهما لم يسامحاني حتى مماتهما وربما حتى الآن…..

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *