شذرات من الذاكرة..العودة إلى الجذور

الضياع بين سامر الفلسطيني وعماد اللبناني(1)

حين عدت من النبطية باتجاه بيروت، لم احمل اي رسالة تفيد بتسريحي، لم يكترث أحد إن كنت ما زلت في المعسكر، الذي علمت لاحقا انه أصبح مقر كتيبة باسم الشهيد الذي حملت له رسالتي الأولى، ابن صيدا القائد الشهيد بهيج مجذوب/مراد، الذي لم التق به إلا ذلك اللقاء العابر، في يومي الأول، من الاسبوع الوحيد الذي قضيته كمتطوع. لن افتعل بطولات وهمية، اوانتصارات في معارك لم اخضها، ربما لحسن حظي.

عودتي كانت عبر المصنع، وهي كانت بدء ميلاد شخصية سامر عبدالله، الفلسطيني، وبدء موت  عماد ابو حطب /اللبناني،الذي اكتشف فلسطينيته الحقيقية  أثناء رحلة العودة.

هنا قفزة كبيرة للوراء يتداخل فيها الشخصي مع العام، وقد يتضمن بوحا شخصيا لم أجرؤ طيلة 65 عاما أن أتطرق إليه حول سنواتي الأولى، والتشظي الذي عشته بفعل عوامل متعددة. وعلي أن اعتذر لعائلتي عن ذكر بعض مما يعتقد البعض أن لا داعي لذكره.

نظريا انا ابن جمهورية الفاكهاني، فعائلتي تتوزع من شارع ابو سهل وهو ممتد شمالا ليصل محيط المدينة الرياضية مرورا بكراج درويش والجامعة العربية ومحطة الدنا، وهو اول مداخل مخيم صبرا الذي يمتد طولا إلى سوق الخضرة، الذي بقي جدي حارسه الليلي حتى رحيله عام1983، ولعلي ورثت منه، او أسير على دربه بعملي العضلي الليلي الآن وانا في سن الخامسة والستين، و سوق الخضرة يقع في ساحة صبرا، ملاصقا للبناية، التي تكدست فيها العائلة بعد لجوئها، في شقة صغيرة غرفتين ومطبخ وسقيفة، حوت جدي وجدتي في غرفة، ووالدي واعمامي الأربعة وعمتي في الغرفة الثانية والكوريدور، إضافة إلى جدي وجدتي وامي المقيمين في السقيفة، والمطبخ هو  المكان الذي ولدت فيه لكني لم اعش في صبرا  فعلا. ولمجرد اني ولدت في هذا المكان، فقد حملت تشظي الشخصية معي منذ لحظة ولادتي، لم يبدأ التشظي مع سامر وانما كانت جذوره الأولى في عماد ذاته.

لفهم هذا التشظي علي أن أشير إلى أن والدة امي هي قبرصية، عرفت يافا وهي عروس حينما تزوجها جدي في احدى سفراته.

جدتي كانت تجيد التركية والإنجليزية حديثا وكتابة وتعلمت العربية بعد زواجها. كانت عروسا سمراء وحيدة، في بلد غريبة، لا تعرف لغته، وسط عائلة اعتبرتها غريبة عنها، فتعلمت الصمت، ولاحقا علمته لابنتها، وما زاد من وحدتها وجعل صمتها مزمنا أنها لم تنجب إلا والدتي، التي جاءت إلى الدنيا وحيدة لوالدة تنخر روحها الغربة والحنين الى وطنها، فورثت والدتي الصمت عن امها، وفاقم من  صمت جدتي النزوح من يافا واللجوء إلى مخيم صبرا وشظف العيش في سنوات اللجوء الاولى. ولعل عمل جدي الليلي زاد الطين بلة، وجعلها تحادث ظلها وذكرياتها، ومنها  ومن والدتي، التي عاشت وحيدة دون أخوة اوأخوات،  ولاحقا حتى من والدي تعلمت الصمت ومحادثة الظلال. وليت التشظي كان هنا فقط، فقد كان التشظي مزدوجا، فحين كانت عائلة ابي في يافا كانت تكنى بالغرابلي، و فجأة  تحول اسم العائلة إلى ابو حطب، لأسباب لم أستطع الوصول اليها، والغريب أن كلتا عائلتي الغرابلي وابو حطب سكنتا يافا  قبيل النكبة أحدها في المنشية والأخرى في العجمي وفي حي النزهة…

 تغيير الاسم من غرابلي إلى أبوحطب تم عند إصدار شهادة ميلاد ثم لاحقا جواز سفر فلسطيني لجدي  والد والدتي باسم أبو حطب، بينما أوراق وجواز سفر جدي والد والدي كانت كلها باسم غرابلي. وهذا عنى ان أسم أبو حطب عاد أو استجد مع الحكم الانجليزي وبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. ولم يستطع احد معرفة السبب ولماذا بدل الإنجليز الإسم على أوراق أحد الأخوين دون الآخر، وهكذا وصل بيروت اخوان أحدهما غرابلي والأخر ابو حطب. والأغرب  ان من حمل اسم الغرابلي نال الجنسية اللبنانية، وحملها اولاده واحفاده من بعده ولكن تحت اسم ابو حطب واختفى الغرابلي من الوجود. او تم اعدامه، بينما من وصل بيروت بإسم ابو حطب بقي بهوية اللاجئين الفلسطينيين. وحملها هو وزوجته وابنته الوحيدة.

هذه احدى نتائج النكبة تفرق الأسر وتمزقها وغربة  وانقطاع لصلات الرحم. هكذا ضعت انا بين الغرابلي الفلسطيني الذي تحول لأبو حطب اللبناني، وبين ابو حطب الذي لم يتغير اسمه و الذي بقي فلسطينيا. فهل حملت جينات إزدواجية الإسم وانعكاساتها على ما تهيئه الأيام لنا؟….

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *