شذرات على هامش الأزمة الأوكرانية
مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب أنهم اعتقدوا أن انهيار الثنائية القطبية في أواخر ثمانينات القرن الماضي سيمكنهم من استئناف ذات المسيرة التي بدؤوها بعد انتصارهم الساحق في الحرب العالمية الأولى، عندما سعوا لاجتثاث الحضارات الأصيلة لإحلال الحضارة الغربية وعولمتها على الكون .
روسيا أفلتت ،آنذاك ، بعد الثورة البلشفية ، وانغلقت على نفسها وركزت على تعديل ميزان القوى في الداخل لصالح الأغلبية . ما جعلها مثالا يمكن محاكاته خارج حدودها. وأهلها ،ذلك، بعيد الحرب العالمية الثانية لفرض الثنائية القطبية على النظام الدولي .
واجتهد الغرب الاستعماري القائم على الرأسمالية وسطوة الأقلية التي تتحكم بالموارد ، للسعي لتغيير الواقع الناشىء منخلال الحرب الباردة . فنجح في تفجير صراعات داخلية وإقليمية على امتداد العالم ، وفي الترويج للنماذج الديموقراطية التيتمكن من إقامتها في بلاده بالإفادة من عوائد استعماره للشعوب الاخرى . واقتصرت تطبيقاتها على دوله ،ولم يمتد تأثيرها للبلاد التي خضعت لاستعماره الطويل في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية .
وبالتوازي مع ذلك أسهمت مثالب ذاتية عديدة عرفها النظام الاشتراكي، ربما أهمها : الجمود الفكري ، وتكلس الطبقات السياسية وفسادها، وغياب الحريات، واتساع الفجوة بين النظرية والتطبيق .ما أسهم في تقويض الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي من الداخل ، وأدى إلى تفككهم وانهيار المنظومة الاشتراكية بدون حروب . وأسفر ذلك عن انتهاء الثنائية القطبية من النظام الدولي فوز النظام الرأسمالي بالتزكية وتفرده بالقيادة .
وعوضا عن حل حلف الناتو بعد انتفاء مبرر وجوده في أعقاب تحلل حلف وارسو واندثاره . اعتقدت الولايات المتحدة الأمريكية التي نجحت في إخضاع الغرب الأوروبي وإلحاقه بها وتسليمه بتفردها بالقيادة العالمية ، وتحالفوا سويا لإخضاع عموم العالم . فأمعنوا في تمزيقه إربا وفقا لمصالحهم لإدامة الهيمنة الاستعمارية الغربية / زاد عدد دول العالم منذ الحرب العالميةالثانية من 52 دولة إلى 193 دولة حاليا/.
وبإمعان النظر في الجغرافيا السياسية لدول العالم – والدول العربية ال 22 نموذجا صارخا- يتعذر إيجاد دولة واحدة ليستلديها مشكلات كامنة مع جيرانها، بسبب تداخلات حدودية أو إثنية أو عرقية أو قبلية أو طائفية أو مذهبية إلخ… بانتظارانفجارها عندما تتوفر الظروف وتتغير موازين القوى .
الأزمة الاوكرانية الراهنة إحدى تمثلات تصويب نتائج الحرب العالمية الأولى . سبقها قبل أربعة عقود استعادة ألمانيا للجزءالشرقي- والذي ما كانت ستسمح به الولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب الاستعماري لولا ضرورته،آنذاك، لتفكيك المعسكرالاشتراكي/ .ما يزال لدى ألمانيا أراض كثيرة مقتطعة تسيطر عليها دول أخرى، وما يزال هناك تواجد لقواعد عسكرية أمريكيةعلى أراضيها/.
وفي ضوء نتائج ما يجري في أوكرانيا، ستتوالى محاولات التصويب في مناطق أخرى على امتداد العالم، وقد تتشجع الصين على تسوية حدودها مع تايوان وهونغ كونغ. وربما لن تنتظر اليابان طويلا. وستواجه تركيا هزات في العام القادم مع انتهاء القيود على استخدام مواردها في أعقاب انهيار الامبراطورية العثمانية ، وهكذا …
يشير التاريخ الإنساني المدون إلى أن الفاصل الزمني بين صعود الحضارات والدول وأفولها يرتبط بالعلاقة بين ميزان القوة والعدالة، اللذان يرتبطان بعلاقة عكسية. فتفوق القوة الذي يؤدي إلى الجموح وتخطي كل الحدود . هو ذاته الذي يؤسس للأفول . ولا يقتصر ذلك على العلاقات الدولية فحسب، بل يمتد لعلاقات أنظمة الحكم بالشعوب، ولمجمل العلاقات بين البشر.