
سعدت جدا هذا المساء بالحضور، ومشاهدة العرض الأدبي- المسرحي “بيوت”، والذي عُرض على منصة مسرح الحنين في الناصرة وهو من إنتاج مسرح السرايا اليافي.
يأتي هذا العمل الإبداعي والراقي ثمرة تعاون بين مجموعة من الكتاب والكاتبات والشعراء الشباب من الداخل الفلسطيني الذين خاضوا تجربة عمل جماعي مشترك “راغبين في أن يوسّعوا حدود تجربتهم الكتابيّة عبر نقل نصوصهم إلى المنصّة وأدائها مسرحيًّا”.
وقد شارك في هذا العمل المهم والجميل كل من الكتاب والكاتبات:
إياد برغوثي، رجاء غانم، علي قادري، علي مواسي ، فردوس حبيب الله، محمود أبو عريشة، ميّ كالوتي.
لقد أعجبتني بداية الفكرة التي دمجت بين العمل الجماعي والجاد من جهة وبين الإبداع في كيفية أدائه، عرضه وتقديمه من جهة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، إن اختيار موضوعة ومفهوم واحد مشترك “البيت” ودراسته والتعمق به من جوانب فكرية وثقافية ونفسية ولغوية وتاريخية وفلسفية… ومن ثم كتابة نصوص شعرية ونثرية تعبر عن تصورات وأفكار ومشاعر وذكريات شخصية من قبل الكتاب بحميمية وصدق وجمالية هي موضع تقدير واحترام.
للبيت معانٍ ودلالات وتعريفات وتصورات مختلفة ومتعددة، كما تجلى من خلال العرض، فعلى سبيل المثال لا الحصر، هنالك البيت الحميمي والدافئ وهنالك البيت المادي (المبنى بكل ما يحتويه من نوافذ وأبواب وأثاث… إلخ)، وهنالك البيت الشخصي وهنالك البيت الوطني والقومي. البيوت تولد وتموت كما يولد ويموت سكانها ولكن تبقى الذكريات والحكايات والأشياء وتمر من جيل إلى جيل فيعاد إنتاج البيت إما كفكرة وإما كواقع محسوس وإما من خلال بيوت شعر في قصيدة تأثث البيت أو نص نثري يستحضر “الأمكنة وذاكرتها، الأمومة، ما تبقّى من الطفولة، الفوضى والترتيب، الحزن، الكراتين، مواسم الزيتون، ألبومات الصور القديمة”.
لقد أبدع الكتاب والكاتبات في سبك وصياغة نصوص غنية، عميقة وجميلة تعبر عما يجول في أفكارهم وما تشعر به نفوسهم إزاء بيوتهم بعد عملية حفر بإزميل دقيق في أرض الذاكرة وتصوير وتخييل الماضي والراهن بعدسة متقنة.
ما لفت انتباهي هو التمسك المعنوي والمادي بالبيت، فلم يغادر الكتاب البيوت التي حملوها أو حملتهم والتي احتضنوها أو احتوتهم والتي بقيت مضاءة كعلامة على على تأكيد الحضور ولم تُترك البيوت وحيدة فريدة بل تواصلت وارتبطت لتأكد مرة أخرة الحضور الجماعي والحياة.
من اللافت أن هنالك اختلافا حول كيفية استيعاب البيت عند كل واحد من المشاركين ومن الواضح أيضا أن هنالك اختلافا بين الرجال والنساء، الشيء الذي تجلى من خلال الزوايا والموضوعات والأشياء والاهتمامات التي اختاروا تسليط الأضواء عليها وإبرازها. لقد شرع الكتاب أبواب بيوتهم وخصوصيتهم لاستضافتنا ومشاركتنا بصدق وبلا مواربة بهمومهم وما يشغل بالهم وسرد جزء من سيرهم الذاتية وسير من يرتبطوا بهم فتوثيق السيرة الذاتية للفلسطيني أو لأي مقموع أو مظلوم هو بمثابة عمل مقاومة.
من اللافت هو العلاقة الوثيقة بين الجسد والبيت فالبيت جسد والجسد بيت.
لقد أعجبتني أيضا المقاطع الموسيقية وأغاني فيروز وأناشيد النقشبندي والحركات الصوفية التي مثلها الكتاب والشعراء والتي أضافت إلى العرض رونقا وجمالا وشعورا لطيفا.
أضف إلى ذلك، فإن الانتقال السلس من كاتب إلى آخر والتوق والشغف لمعرفة من سيكون المُلقي التالي؟ وحول ماذا سوف يتكلم؟ وكيف سيكون أدائه؟ أمور تثير الدهشة واللهفة.
إن العرض الأدبي- المسرحي بيوت تتداخل من خلاله الأجناس الأدبية والفنية بانسجام جميل. كما أنه يدمج بين الكلمة والصوت والحركة من أجل إثبات الوجود الواعي لذاته ولواقعه رغم ما يكتنف النصوص من وجع وألم.
لا يمكن في هذه العجالة وفي هذا السياق الضيق التطرق إلى مجمل مضامين وأشكال هذا العمل المهم والقيم والذي نثمنه جدا ونقدر المبادرين والعاملين عليه ونعتبرهم ذوي رؤية وإرادة وقدرة وكفاءة ونتمنى أن يعرض هذا العمل في جميع البلدات العربية وأن يُترجم للعبرية والإنجليزية ولغات أخرى وأن يتم عرضه ومناقشته في مواقع أخرى من دول العالم.
من الجدير بالآشارة إلى أنه من المناسب في المرات القادمة إجراء حوار بين الجمهور والكتاب. ومن الأهمية بمكان أيضا في حال توفر الوقت أن تقدم قراءات نقدية أو انطباعات شخصية أو تحليلات نفسية وفلسفية وأدبية وفنية من قبل مختصين من أجل استثمار هذا العمل في جوانب مختلفة من حياتنا ومستقبلنا وقضايانا الجمعية والفردية.
في مرحلة تهدم بها البيوت الفلسطينية من قبل السلطات الإسرائيلية وتقتحم البيوت من قبل المستوطنين وفي سياق اجتماعي تتواجد الكثير من البيوت العربية تحت طائلة التهديد من قبل عصابات الإجرام والعنف وفي مرحلة تزداد فيها الكثافة السكانية في بلداتنا العربية الشيء الذي يأشكل الحياة ويسبب التوترات وفي واقع نمر بالقرب من قرى مهدمة ومهجورة جراء النكبة…الخ يأتي هذا العمل” بيوت” ليبعث الأمل ويحث على الفكر ويحفز على العمل ويؤكد الثقة بالعمل الفني والجماعي الملتزم ودور المثقف العضوي والمشتبك.

