سوريا كمركز ثقل ناشئ في الشرق الأوسط الموسع

شكل سقوط نظام الأسد وسيطرة الجبهات الإسلامية بقيادة الجولاني على أجزاء واسعة من سوريا ( لم تصبح السيطرة كاملة بعد ) ، بمساعدة تركيا، نقطة تحول في توازنات القوى والنفوذ الإقليميين .ساهمت عمليات إسرائيل في لبنان ضد حزب الله والهزيمة الاستراتيجية للحزب ، في سقوط نظام الأسد، الذي خسر دعم حزب الله وإيران ومن ثم تخلت عنه روسيا التي مازالت تركز جهودها على أوكرانيا.
لم يكن بمقدور التنظيمات الجهادية بقيادة الجولاني إكمال عملية السيطرة على سوريا لولا المساعدة النشطة من تركيا، التي شخصت وجود فرصة تاريخية لتعزيز سيطرتها في سوريا كنوع من حجر العقد في عملية توسيع نفوذها في الشرق الأوسط الموسع ، الذي تحدده تاريخيا واستراتيجيا كمنطقة نفوذ ضرورية لتثبيت مكانتها كقوة عظمى إقليمية .
من المؤكد أن شخصية أردوغان ومميزات سلوكه خلال فترة رئاسته تؤكد الفرضية بشأن رغبته في إحياء الإمبراطورية العثمانية، وظهرت سوريا كفرصة قد تساعده على تحقيق رؤيته.
تنظر تركيا إلى نفسها كزعيمة للعالم السني، وتقود المحور المعارض لمحور إيران والمملكة العربية السعودية كمنافس على اللقب والمكانة. و قطر الحليفة الموثوقة لتركيا والتي يقودها أنصار جماعة الإخوان المسلمين تدعم الجهود التركية كجزء من رؤية الإسلام السياسي الذي يسعى إلى إعادة تأسيس الخلافة العربية .
تقف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على الجانب الآخر من السياج ، وتعارضان الجهود التركية والقطرية الرامية إلى ترسيخ الهيمنة التركية في المنطقة ، وتحاولان الوصول إلى الجولاني وجرّه وسوريا بقيادته إلى صفهم. الا أن كل هؤلاء ليسوا لوحدهم في معركة معقدة كثيرة اللاعبين والمصالح .
أثار انهيار النظام السوري مخاوف كبيرة في الجانب الإسرائيلي بسبب تواجد عناصر جهادية في جنوب سوريا بالقرب من الحدود الإسرائيلية . وسارعت إسرائيل إلى السيطرة على المنطقة العازلة، وأعلنت أنها ستستمر في السيطرة على هذه المنطقة حتى يستقر النظام وتصبح الأمور أكثر وضوحاً، وذلك لمنع أي محاولة لتكرار هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من جنوب سوريا .
وبالإضافة إلى ذلك، وطالما أن إسرائيل لا تستطيع أن تقدر بشكل مضمون إلى أين يتجه الجولاني ، وعلى ضوء دروس السابع من أكتوبر/تشرين الأول وانعدام الثقة الأساسي في الاوساط الجهادية الإسلامية أينما كانت، فقد عملت إسرائيل على تدمير البني التحتية للجيش السوري لمنع وقوعها في أيدي المتمردين واستخدامها ضد إسرائيل. ولا تقتصر المخاوف الإسرائيلية على الاوساط الجهادية فقط بل تمتد أيضاً إلى تركيا ونيتها تكريس وجودها في الارض السورية.
فالتمركز العسكري التركي في سوريا يعني تضييق مجال العمل الإسرائيلي ، وتهديد حرية العمل الجوي في المنطقة بشكل عام ، والتأثير على التحضيرات لهجوم أو عمل ضد العدوان الإيراني، على غرار الهجومين الصاروخيين من الأراضي الإيرانية في نيسان وتشرين الثاني 2024. ومن أجل منع التواجد العسكري التركي في سوريا بواسطة السيطرة على المطارات والبني التحتية العسكرية السورية، تعمل إسرائيل بقوة استثنائية من أجل تدمير كل هذه البني التحتية وتحدد لتركيا حدود المنطقة وقواعد اللعب الجديدة.
أيضا يوجد للأميركيين والروس والصينيين مصالح مهمة في سوريا، وهي ليست متوافقة بالضرورة وقد تؤدي إلى زيادة التوترات بينهم.
لهذه الأسباب تتحول سوريا إلى ساحة للصراع بين لاعبين إقليميين ودوليين في واقع لا يزال فيه غير واضح إلى أين يتجه النظام الجديد، الذي يحاول كسب دعم العالم وتعاطفه بوعود وإيماءات غير مقنعة بما فيه الكفاية حتى الآن. ولم ينجح النظام الجديد حتى الآن في ترسيخ سيطرة سلطوية وسيادة فعلية على كامل الارض السورية، ولا يحظى بثقة كل الطوائف والأقليات. فعلى سبيل المثال، يبدو التوتر واضح بين النظام والعلويين في شمال غرب البلاد، وبين النظام والدروز في جنوب سوريا، وبين النظام وبين الأكراد الذين يسيطرون على نحو ثلث أراضي البلاد في الجزء الشمالي الشرقي من الدولة .
وإن عدم الاستقرار في الدولة يفتح الباب حتماً أمام تعميق تدخل اللاعبين الإقليميين والدوليين، حيث تلعب تركيا وإسرائيل الدور الأكثر أهمية وتأثيراً .
خسرت إيران سيطرتها على سوريا، وبهذا المعنى فقدت أهم ثروة لها في المنطقة. كما أنها تحاول الحفاظ على نفوذ ما بواسطة دعم لاعبين سوريين مثل العلويين، ولكن نفوذها ضعيف ومحدود.
إن الأهمية الجيواستراتيجية لسوريا والواقع الاستراتيجي الذي سيتشكل فيها سوف يؤثر حتما على منطقة الشرق الأوسط وما وراء الشرق الأوسط . فإذا نجحت تركيا في ترسيخ نفوذها وهيمنتها في سوريا، فإنه سيكون بمقدورها توسيع هذا النفوذ إلى ماوراء سوريا ، وقد تجد نفسها في صراع، حتى لو لم يكن عسكري بشكل مباشر، مع لاعبين إقليميين آخرين، مع التأكيد على إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. إلا أن التهديد الأبرز سيكون على استقرار المملكة الأردنية التي قد تسقط بسبب شهية التوسع لدى تركيا التي قد تشجع الإخوان المسلمين في الأردن على السيطرة على المملكة والانضمام إلى رؤية الخلافة.
إن مفتاح تحقيق الاستقرار في سوريا يقع في يدي إسرائيل وتركيا، اللتين تدهورت العلاقات بينهما منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى أخطر أدنى مستوى شهدته الدولتان منذ إقامة العلاقات بينهما. وكانت تركيا أول دولة إسلامية اعترفت بدولة إسرائيل، وشهدت العلاقات بين البلدين حالات صعود وهبوط، بل وعصراً ذهبياً في العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية القرن الحالي. وفي الواقع الحالي للعلاقات، من الصعب افتراض قدرة البلدين على التوصل إلى اتفاقيات بينهما دون مساعدة خارجية . وهذه المساعدة لا يمكن أن تأتي إلا من جانب الولايات المتحدة، التي تتمتع بعلاقات وثيقة للغاية مع البلدين، ويحظى رئيسها ترامب بثقة قادة البلدين .
ويجب العمل على ضم الولايات المتحدة إلى هذه المهمة لكي تجد سوية مع تركيا وإسرائيل، طريقة لتقسيم نفوذهما في سوريا بطريقة تضمن المصالح الحيوية لكلا البلدين وتساعد في استقرار وتشكيل الواقع المستقبلي في سوريا . كما أن القدرة على التوصل إلى اتفاقيات وتفاهمات قد تساعد أيضاً في إعادة بناء العلاقات بين الدول، وتهدىء من الطموحات التوسعية التركية، وتهدئ من مخاوف السعودية والإمارات والأردن، وربما تؤدي لاحقاً إلى توسيع اتفاقيات إبراهام في مجال التطبيع مع السعودية، وبعد استقرار سوريا وتخلي الجولاني عن الفكر الجهادي، ربما حتى قد تؤدي إلى إعادة بناء سوريا وإلى تطبيع العلاقات بينها وبين إسرائيل.
من شأن مثل هذا التطور أن يغير وجه الشرق الأوسط برمته، وأن يخفف من التوترات ، وأن يتيح المجال لبناء بني إقليمية جديدة بروح رؤية الرئيس ترامب. وحتى أنه سيكون بمقدور القائمين على المسألة الفلسطينية العمل بعد انهيار حماس وظهور بديل سلطوي مدني ، وبعد تنفيذ اصلاحات كبيرة في السلطة الفلسطينية، على تغيير الإتجاه باعتبارهم جزءا من هذه البنية الإقليمية الجديدة . أما الخيار الآخر فهو أسوأ وأكثر خطورة بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها وبالنسبة لما وراءها .
المصدر: هآرتس