ما حدث في حديقة البيت الأبيض، الثلاثاء، يغري بالمقارنة مع سوابق مشابهة حدثت في غضون السنوات الأربعين المنصرمة، بدءاً من توقيع «اتفاق السلام» بين مصر وإسرائيل في عام 1979، مروراً بوثيقة «إعلان المبادئ» بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية في عام 1993، واتفاق السلام الأردني ـ الإسرائيلي الذي تم توقيعه في وادي عربة في 1994. وفي المقارنة تفرض نفسها عبارة كارل ماركس الشهيرة بصدد أحداث التاريخ التي تحدث مرتين، الأولى كمأساة، والثانية كمسخرة.

فقد شكلت زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس، في العام 1977، صدمةً كبيرة في الرأي العام العربي، وأدى التوقيع على اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر إلى انقسام حاد بين الأنظمة العربية، وتمكن محور «الممانعة» في نسخته القديمة المسماة «جبهة الصمود والتصدي» من فرض رؤيتها على بقية الدول العربية، مما أدى إلى طرد مصر من جامعة الدول العربية. وقد كلفت هذه الاتفاقية المسماة بكامب ديفيد الرئيس المصري حياته حين أطلق عليه النار جندي مصري في العام 1981. في سوريا جند نظام الأسد تلاميذ المدارس والموظفين والعمال للخروج في مسيرات موجهة للتنديد بالرئيس المصري. كنت حينها في المرحلة الثانوية وشاركت في إحدى تلك المسيرات تحت تهديد الطرد من المدرسة لمن لا يلتحقون بها. كانت مسيرة بلا روح، تناقص عدد المشاركين فيها باطراد مع تقدمها، بسبب تسرب كثير منهم على الطريق.

لم يكن التسرب وانعدام الرغبة بالمشاركة بسبب مخالفة النظام في موقفه من معاهدات كامب ديفيد، بقدر ما كان بسبب أنها مفروضة من فوق على أناس لا يعنيهم الموضوع في كثير أو قليل. سأعرف لاحقاً أن أحزاب المعارضة، وكانت سرية وتتعرض لاعتقالات دورية، كان لها الموقف نفسه من معاهدات كامب ديفيد، ومن كثير من مفردات السياسة الخارجية للنظام بصورة عامة. ذلك أن مظلة أيديولوجية واحدة كانت تجمع تلك الأحزاب مع النظام هي تنويعات يسارية وقومية عربية وإسلامية. لعل فتور همة «الشعب» المسيّر في مسيرات النظام تلك يشير إلى أن كلاً من النظام ومعارضيه كانوا في حالة انفصال كامل عن «الشعب» الذي يزعمون جميعاً أنهم يمثلونه ويمثلون توجهاته وتطلعاته.

شكلت معاهدات السلام الثلاثة المذكورة أعلاه، وبالأخص منها الأولى بين مصر وإسرائيل، حالة المأساة التي تحدث عنها ماركس، سواء بسبب المفاعيل التراجيدية التي تسببت بها في العالم العربي، أو بسبب الفاعلين السياسيين الذين قاموا بها. فقد كان الرئيسان الديمقراطيان جيمي كارتر وبيل كلينتون، على التوالي، هما بطلي معاهدات السلام الثلاثة الأولى، مقابل دونالد ترامب في توقيعات البيت الأبيض يوم الثلاثاء 15 أيلول. صحيح أن كارتر يعتبر رئيساً ضعيفاً لم تشهد ولايته إنجازات مهمة وفشل في الفوز بولاية ثانية، لكنه يبقى في مرتبة الرؤساء الأمريكيين، ولا يمكن مقارنته بـ«كذاب البيت الأبيض» دونالد ترامب، فكم بالأحرى بالنسبة لبيل كلينتون. ويمكن سحب هذه المقارنة على الشركاء الإسرائيليين والعرب أيضاً: في الأمس أنور السادات، الملك حسين، ياسر عرفات، مناحيم بيغن، شيمون بيريز. أما اليوم فإن شركاء ترامب هم بنيامين نتنياهو الذي تلاحقه اتهامات بالفساد وقادة الإمارات والبحرين الذين يكاد اسماهما أن يكونا مجهولين.

يضاف إلى ذلك موضوع الاتفاقين الجديدين: السلام! مع أن الدولتين لم تخوضا أية حروب ضد إسرائيل! أما العلاقات «السرية» مع إسرائيل فكانت معروفة للقاصي والداني، ولن يكون التطبيع إلا إخراجها من السر إلى العلن وتتويجها بفتح سفارات وإقامة تحالف أمني ـ سياسي من المتوقع أن يشمل، في غضون أسابيع قليلة «خمس أو ست دول أخرى» حسب إحدى تغريدات ترامب. ويتضح من أجواء الجامعة العربية أن موقفها الجمعي السابق ضد التطبيع مع إسرائيل قد أصبح في خبر كان. حتى لبنان والعراق الواقعين تحت الهيمنة الإيرانية لم يصوتا ضد إعادة التموضع الجديدة لمجموع الأنظمة العربية. أما نظام الأسد الكيماوي فهو مطرود من الجامعة أصلاً، فلا محل لجعجعته الممانعة المعهودة.

المفارقة أن إيران وتركيا هما الأعلى صوتاً في مواجهة معاهدتي السلام والتطبيع بين كل من الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. مع العلم أن الأولى استعانت بالسلاح الإسرائيلي، فيما عرف بفضيحة «إيران غيت» إبان حربها مع العراق في الثمانينيات، في حين لتركيا علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل منذ عقود، وإن كانت العلاقات بين البلدين مرت بحالات توتر كبيرة في السنوات العشر الأخيرة. على رغم ذلك فإن للمعارضة الإيرانية والتركية لاتفاقيات السلام معنى، فهما دولتان كبيرتان وقويتان بالقياس إلى إسرائيل، الأمر الذي يؤدي إلى صراع إرادات موضوعي بين الدول الثلاث على «الرجل العربي المريض». بكلمات أخرى فإن الدول الثلاث تصارع لمد نفوذها في فراغ القوة الذي تشكله المنطقة العربية المبتلية بأنظمة فاسدة لعل انفجار مرفأ بيروت قد شكل نهاية رمزية لها جميعاً.

فتور الاعتراض الشعبي العربي على مسار التطبيع الجديد مع إسرائيل يشير أيضاً إلى نهاية حقبة كاملة من التاريخ العربي. كانت ثورات الربيع العربي محاولة شجاعة لهدم تلك الحقبة والانخراط في تاريخ جديد، تم إجهاضها من قبل نفس الأنظمة التي يوقع بعضها اليوم على معاهدات سلام مزعومة مع لإسرائيل، في حين رهن بعضها الآخر بلاده لاحتلالات دول أجنبية مقابل البقاء في السلطة.

القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *