سردية الإبادة الجماعية بغزة: أَنْ تَرى… أو لا ترى

(إيناس أبو معمر تحتضن جثمان ابنة شقيقتها التي قُتلت في هجوم إسرائيلي على مستشفى ناصر في خان يونس، 17 أكتوبر 2023، صورة محمد سالم – رويترز)

يمكن للصور الصحافية اليوم أن تربط بيننا وتثير تعاطفنا تجاه أحداث معينة، كما يمكنها أيضًا أن تتلاعب بنا أو تهدئنا لننام، ولكن ماذا عن الصور التي لا يتسنّى لنا رؤيتها أبدًا، أو تلك التي يُمنع إيصالها إلى عيون الآخرين، كما يحدث للصور القادمة من غزة، مثلًا؟
كتب الشاعر والممثل المسرحي الهولندي الفلسطيني رمزي نصر مقالًا لافتًا في بداية العدوان الإسرائيلي على غزة عن الكرامة الإنسانية، مهاجمًا فيه وسائل الإعلام الغربية لانحيازها السافر إلى جانب إسرائيل، رغم الجرائم والمجازر اليومية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد سكان غزة العزل، واليوم يكتب مقالًا جديدًا حول سردية الإبادة الجماعية في غزة، ودور التصوير الفوتوغرافي الصحافي في توثيق جرائم ستبقى وصمة عار على جبين البشرية لأجيال قادمة… والمقال الذي نترجمه هنا عن اللغة الهولندية، كان في الأصل نص محاضرة ألقاها رمزي نصر في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي خلال مؤتمر “مكافحة الاستقطاب عبر الحوار والتواصل” الذي استضافته العاصمة الهولندية أمستردام، وأعادت مجلة “ده خرونه أمستردامر” نشره مؤخرًا.

*****

منذ صغري وأنا مفتون بالصور، اعتراف مؤلم إلى حدٍّ ما بالنسبة لشاعر؛ ففي البدء كانت الكلمة، ولكننا لم نعد نحيا “في البدء” منذ زمن بعيد، ولم نعد في عصر القراءة، بل في عصر الرؤية، الصور في كل مكان. وخير مثال على ذلك تطبيق إنستغرام، الذي يضم ما يقرب من 2 ونصف مليار مستخدم، عليَّ أن أعترف أنني أتصفحه باستمرار، والأسوأ أني أتلقّى الأخبار من خلاله أيضًا، عبر متابعتي لصفحات وفيديوهات الصحف الهولندية والعالمية، من nos، وbbc، وcnn، وكذلك تقارير مصورة من منظمة العفو الدولية، وميدل إيست آي، والجزيرة. العالم كلّه يمرّ من هنا، كل شيء متصلّ بعضه ببعض، لتندمج الكلمة والصورة في زواج سعيد.
نعم، وسائل التواصل الاجتماعي تربطنا، أنت تنتمي إلى مجموعة، لكنها تطلب منا أيضًا أن نصدر أحكامًا بشكل مستمر: الإعجاب أو النفور، المتابعة أو التجاهل، المشاركة أو الحذف؟ ربما يؤثّر هذا النظام الاستقطابي علينا، وعلى أي حال، فهو يؤثّر على ما أشعر به منذ اللحظة التي أستيقظ فيها وأفتح هاتفي، فأرى المجاعة في غزة، وعمليات بتر الأطفال التي تجرى دون تخدير بسبب الحصار، أرى راكونًا راقصًا وكلبًا يرتدي قبّعة، ثم الكشف عن زنازين التعذيب السورية، بما في ذلك رجل نُسِيَ في زنزانته هناك لمدة 40 عامًا كاملة، بعد كل هذا يكون عليَّ تناول وجبة الإفطار!
إنستغرام، تيك توك…، واللقطات التي لا تتوقف أبدًا، ربما هذا بالضبط ما يجعلك منفصلًا عني، فالخوارزميات تتولّى ذلك؛ تتعقّب سلوكنا في النقر وتتأكد من أنك تشاهد حسابات ومنشورات مختلفة تمامًا عما أشاهده أنا، الخوارزميات تفاجئنا، ولكن بطرق ندركها بالفعل، لتخلق فينا تلك العزلة الترابطية، كما أنها مخيفة أيضًا، لم يحدث من قبل أن تابعنا حربًا مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي كما يحدث اليوم، يمكننا مشاهدة القصف في غزة أثناء حدوثه، ألا يجعلنا هذا ننفصل عن الواقع؟ البعض يفعل ذلك، ويفكر: ليس الآن، يجب أن آخذ طفلي إلى المدرسة أولًا، والبعض الآخر يغوص في الصور وينغمس فيها ولا يستطيع الهروب منها. بعضنا يحدق فيها بقوة، والبعض الآخر لا يستطيع الاقتراب منها، لكل واقعه الخاص.
كيف نخرج من هذه الدوامة؟ كيف نكتشف ما يدور في ذهن الآخر؟ شخص من لون سياسي مغاير، طبقة اجتماعية مختلفة، جيل آخر؟
أَنْ نرى… أو نغضّ الطّرف كي لا نرى؟
هذا هو السؤال، هذا هو زمن الضمير، زمن التأمّل…

تجميد الواقع

لا بدّ أنني كنت في العشرين من عمري تقريبًا، عندما اشتريت من مدخراتي أحد تلك الأطالس التشريحية التي يستخدمها طلاب الطب. تفتحه وتنظر إلى نفسك، مختزلًا إلى أكثر الأشياء حميمية: عين، كُلْيَة، رحم. إنه الإنسان مجردًا من كل شيء؛ ترى تروس الآلة البشرية مكشوفة في طبقات من العضلات والدم والمسارات العصبية، وأخيرًا الهيكل العظمي. الإنسان في حدِّه الأدنى. كنت مهتمًا بشكل خاص بعمل العين: شبكية العين والعصب البصري والثقب الدمعي… يمكنني التحديق في العين لساعات. يتساءل شباب اليوم أحيانًا عما كنّا نفعله حين كنا صغارًا في زمن ليس به إنترنت؟ حسنًا، بشكل أساسي: كنا نتصفح الموسوعات التشريحية، أيام ذهبية!
خلال الفترة العمرية ذاتها، اشتريت كتب الصور الصحافية العالمية القديمة من متاجر الكتب المستخدمة، كل ما استطعت العثور عليه من الطبعات القديمة. كما عثرت هناك على سلسلة كتب للصور الفوتوغرافية، كانت رخيصة الثمن لكن رائعة، صدرت في عدة مجلدات: عشرينيات القرن العشرين، ثلاثينيات القرن العشرين، وهكذا. لديَّ الآن قرن كامل مرئي فوق رفوق مكتبتي، أحبُّ هذا الترتيب، الصور الصحافية، إنها التاريخ المدون الذي لا يُمحى للزمن. أعني، يمكنك أن تقرأ في الصحف القديمة عن المجاعة في دارفور، والخطوات الأولى على سطح القمر، وسقوط سربرنيتسا، لكن كيف يتم تخزين تلك الأحداث في ذاكرتي من خلال الصور التي وجدتها لها؟ صور “أيقونية” كما يقولون، “Icoon” كلمة يونانية تعني “صورة” أو “تجسيد”، واستُخدم المصطلح كثيرًا لدرجة أنه لا يعني اليوم أكثر من “مشهور” أو “متفرد” أو “نهائي”، لكن لا علاقة له في الحقيقة بذلك كله، لا بد من وجود صور “أيقونية” مخزّنة في مجلّدات لم يشاهدها أحد منّا على الإطلاق، لكنها موجودة تنتظر من يكتشفها، كل مصور يقوم بمحاولة للوصول إلى العين، أما متى وكيف يحدث ذلك، فأمر متروك للمشاهد.
في صمت، نما حبي للتصوير الفوتوغرافي بشكل كبير، لدرجة أنني بدأت جمع الصور الفوتوغرافية والمطبوعات الصحافية التاريخية، والتصوير المجسد، وبالتالي فإن كلمة “أيقونة” بالنسبة لي تعني شيئًا مثل “مميزًا، متفردًا”، الصورة الصحافية الجيدة هي التي تميز الحدث وتحدد صورته، لذلك بدأت في اقتناء كل أنواع التصوير الفوتوغرافي، بدءًا مما هو عليه اليوم، رجوعًا إلى السلالات المنسية من تطور التصوير: الصور الفوتوغرافية الداغريوتية، والكالوتيب، والأمبروتيب، والتينتيب، والتصوير الفوتوغرافي المجسم، سواء كان على الورق المقوى أو على ألواح الزجاج، وكذلك صور الجيلاتين الفضي، والألبومين، والأوتوكرومات، والفوتوكروم. Give it to me!
كما أنني أجمع صور الحرب أيضًا، ولهذا قصة أخرى، بعض الصور لا تريد أن تراها، أول رد فعل لك هو أن تشيح بنظرك عنها، بل وتنكرها. لكن الحرب أيضًا تريد أن ننظر إليها، فالحرب بالتحديد هي التي تستحق أن ننظر إليها، لأنه بخلاف ذلك سيتلاشى ضميرنا. تشكل مجموعتي الكاملة من الصور بالنسبة لي الجمال والرعب معًا، محفوظة بأمان في أدراج وصناديق خالية من الأحماض، إنها ذاكرتي الخارجية، هكذا أخزّن الواقع.
التصوير الفوتوغرافي يخزن الواقع، كان هذا بالضبط سبب السخرية منه وعدم الثقة به حال ظهوره الأول عام 1839. نعم، بالمقارنة مع الرسم، بدا التصوير وكأنه “التقليعة الميكانيكية” المتخلّفة، كان للرسام مدخلات شخصية عن طريق الخيال، أو “يد الخالق” كما يقولون. أما المصورون الفوتوغرافيون فيتركون الضوء يقوم بعمل كل شيء، على الورق أو على لوح من النحاس المطلي بالفضة. هكذا أستطيع أنا أيضًا! كان هناك شيء غير طبيعي في التصوير الفوتوغرافي، وذلك تحديدًا لأنه كان يلتقط كل شيء بـ”شكل طبيعي”. لذلك تم النظر إليه باعتباره خدعة كيميائية ونشاطا ممتعا للكيميائيين؛ ذكيا جدًا في كل شيء، لكنه لم يضف شيئًا، بل أخذ ما هو أهم: الحياة نفسها. بدا التصوير الفوتوغرافي مجرد طريقة معقدة للغاية لالتقاط ما رآه الجميع، جميعنا، ثم يثبته على أي حال باللونين الأبيض والأسود فقط، من دون عمق… ومجمد إلى الأبد.


لذلك كان على المصورين الفوتوغرافيين أن يثبتوا أنفسهم ليطالبوا بمكانتهم في الوسيط الجديد، وكان الأميركي ماثيو برادي Mathew Brady في منتصف القرن التاسع عشر من أوائل المصورين الذين استخدموا نقطة ضعفهم هذه كمتكئ للقوة، فإذا كان التصوير الفوتوغرافي يعكس الواقع، فمن الآن فصاعدًا يمكنه أيضًا إظهار الواقع لأولئك الذين كانوا غائبين عنه في تلك اللحظة أو ذلك المكان، بعبارة أخرى، يمكنك توجيه الواقع وإعطائه الاتجاه الذي تريده، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، كان برادي ثوريًا، فصوره الشهيرة لساحات المعارك في الحرب الأهلية الأميركية جعلته أول مصور صحافي بالمعنى الذي نفهمه اليوم، إذ نقل الحرب ذاتها إلى غرف معيشة الأميركيين.

الأرض المحروقة

تغير التصوير الفوتوغرافي من الالتقاط إلى الإزاحة، وهو شرط أساسي لإثارة التعاطف، وهنا تكمن قوة التصوير الصحافي. عاجلًا أم آجلًا بالطبع تبرز مسألة الموضوعية. لأنه: ما هو الواقع أصلًا؟ هل يمكنك تصويره كما هو… أم أنك فقط تعرض جزءًا منه؟ وهل تتساوى الكاميرا والعين؟ هل هناك شيء أكثر موضوعية من الإحساس؟ الموضوعية وهم…

“تغير التصوير الفوتوغرافي من الالتقاط إلى الإزاحة، وهو شرط أساسي لإثارة التعاطف، وهنا تكمن قوة التصوير الصحافي”




لأن الواقع متحيز عن عمد، فهو يتحدّد بحسب رغبات من يستخدمه أو ينظر إليه ويوجّهه، ومهما ادعى المرء في القرن التاسع عشر أن التصوير الفوتوغرافي ينطوي دائمًا على خيارات وتدخلات، إلا أنه أصبح اليوم أكثر تعقيدًا، حيث الاختيار من عدة لقطات لتحديد السردية التي تريدها لقصتك، وأخيرًا التحرير، على هذا النحو يقوم المصورون بتحويل الواقع وتوجيهه، وبالتالي تغييره. واليوم لا يزال المصورون محطّ اتّهام وعدم ثقة الآخرين، ولكن هذه المرة ليس لأنهم يلتقطون عالمنا، ولكن لأنهم يتلاعبون به كما يزعم البعض.
هل هذا أمر سيء؟ تصفح موقع إنستغرام وسترى: كل شيء معدّل بالفوتوشوب، مُركّب، مُصفّى. نحن نعيش في عصر تُستخدم فيه الصور أكثر من أي وقت مضى للتلاعب والإقناع، سواء كان الأمر يتعلّق بالإعلانات أو بالحرب، بالمكنسة الجديدة أو بالإبادة الجماعية: الأساليب هي ذاتها، فلا بد من بيع شيء ما.
وبالنظر إلى الاستقطاب الذي يسيطر على عالمنا اليوم، يبدو أن واقعنا يتألّف من أضداد متناقضة لا همّ لها سوى إقصاء بعضها البعض، وتفضيل طمس الآخر على التحاور معه، وإذا ما تركنا تلك القوى على هواها، سنجد أنفسنا أمام عالم مقفر وفارغ، ممتلئ بقوى التدمير الذاتي، سفر التكوين على الأرض المحروقة، لم يكن علاج ذلك أبدًا هو الموضوعية، بل السماح بظهور سردية مختلفة، الصحافة توفر ذلك من خلال الصور والمقالات، أولئك الذين يحصلون على صورة… يحصلون على فرصة لسرد روايتهم.
كتبتُ مقالًا منذ أكثر من عام، نُشر في صحيفة “فولكس كرانت” الهولندية في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. كان المقال عن الكرامة الإنسانية، وعن غياب الأسماء والوجوه لسنوات طويلة في وسائل الإعلام الغربية عن عدد لا يحصى من القتلى الفلسطينيين. عادةً ما كانت الصحف ونشرات الأخبار تتحدث عن الفلسطينيين بالأرقام: 14 قتيلًا و1200 جريح، في حين كان الضحايا الإسرائيليون والغربيون يُذكرون دائمًا بالأسماء؛ نرى وجوههم ونقرأ عن حياتهم وأحلامهم، ونفكر: “كان من الممكن أن أكون أنا أو طفلي”. فيما بقي الفلسطينيون مجهولي الهوية، مغلَّفين بالفراغ. تحسّن هذا الوضع في هولندا الآن مقارنة بهذه الفترة السابقة، ولكن تبقى الحقيقة: غياب السردية يعني غياب التعاطف، ثم سرعان ما تصبح المذبحة “مأساة” وليست “جريمة”، في حين أنها “مأساة” نشاهدها… وجريمة ندينها، ذلك لأن “المسافة” مقابل “المشاركة”… و”المشاهدة” مقابل “الحل”.
أعرف من خلال تجربتي، كوني نصف فلسطيني، مدى تأثير الرواية الإسرائيلية على صورة هولندا، وكذلك على سياستنا تجاه الشرق الأوسط بأكمله لعقود. فالدعم الهولندي لإسرائيل غير مشروط، على حد تعبير رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، وبالكاد تم أخذ وجهة النظر الفلسطينية في الاعتبار. على الرغم من أن هولندا تحب أن تتظاهر بأنها وسيط موضوعي، إلا أن بلادنا من الناحية العملية منحازة للغاية، ما أدى إلى العمى والشلل، ونعرف أن الأعمى والمشلول أيضًا يمكنهما ارتكاب أبشع الجرائم، ففي الوقت الذي تتزايد فيه أعداد المؤسسات الموثوقة التي تحقق في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، مثل محكمة العدل الدولية في لاهاي، أو حتى تتحدث عنها، مثل عشرات الخبراء المستقلين من الأمم المتحدة، ومعهد ليمكين لمنع الإبادة الجماعية Lemkin Institute for Genocide Prevention، ومنظمة العفو الدولية، بعد كل هذا، نشاهد هولندا وهي تحاول، عبر مسارات لولبية، الاستمرار في توريد قطع غيار مقاتلات F-35 إلى إسرائيل، من أجل تسهيل ارتكاب جرائمها في غزة.
من منظور انتهاكات حقوق الإنسان، فإن مثل هذا التوريد والاستيراد أصبح مستحيلًا بأمر من المحكمة العليا، ومع ذلك لا توجد قيود حقوقية على استيراد الأسلحة الإسرائيلية، وهكذا تستورد هولندا الآن الأسلحة من إسرائيل في صفقات ضخمة، فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، أبرمت حكومتنا صفقات أسلحة بقيمة ملياري يورو مع إسرائيل، والأكثر إثارة للدهشة: نصف تلك الصفقات تم إبرامها بعد السابع من أكتوبر 2023، عندما يتعلق الأمر بالاستقطاب والحرب والتطهير العرقي، فإن هولندا سعيدة بالقيام بدورها.


ما الذي نتوقعه إذًا من حكومة تضم نوابًا للشعب مثل ريموند دي رون، ممثلًا لحزب PVV في مجلس النواب منذ عام 2006، وقد صرح في هذا المجلس قبل بضعة أشهر قائلًا: “أي فلسطينيين؟ هذا شعب مزيف، لم يكن موجودًا أبدًا، ولا وجود له الآن أيضًا”. بهذا التصريح، أعاد دي رون صياغة ما قالته رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير، التي صرحت في عامي 1969 و 1970: “لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني”.
الطريف في الأمر أنه ليس عليك أن تهتم بشعب “غير موجود”، لكن يمكنك أن تتسامح مع تجويعه، وتقطع المساعدات عن “الأونروا”، المنظمة الوحيدة التي تبقيه على قيد الحياة، يمكنك أن تساعد في تدمير شعب “غير موجود” من خلال الدعم السياسي والعسكري، ولن يمنعك أحد. إذا لم يكونوا أناسًا حقيقيين، فهم “غير موجودين” بالفعل. إن إنكار وجود شخص ما هو أكثر الطرق دناءة ودهاءً لحرمانه من تعاطف الآخرين، من يستخدم هذه الحيلة قادر على فعل الأسوأ، هنا الإنسان أيضًا في حدّه الأدنى.

اذهب إلى النوم بسلام…

كثيرًا ما يُقال إن فلسطين وإسرائيل تخوضان معركة صور، لقد انتهى ذلك منذ زمن طويل، الأمر يتعلق اليوم بالسردية، صار التوضيح والتأكيد هو المهمة الأساسية للمادة المرئية في الغالب الأعمّ، أولئك الذين يتقنون السردية يمكنهم الاستغناء عن الصور أو الأدلة، ولنأخذ غزة مثالًا، حيث جميع المستشفيات الآن مدمرة، عندما قُصفت المراكز الطبية الأولى، كان ذلك خبرًا كبيرًا، وانتشرت الصور في جميع أنحاء العالم لأطفال رضّع يرقدون متحلّلين في حاضناتهم الطبية، بعد أن عثر عليهم موتى بعد مغادرة الجيش الإسرائيلي المكان.

“كثيرًا ما يُقال إن فلسطين وإسرائيل تخوضان معركة صور، لقد انتهى ذلك منذ زمن طويل، الأمر يتعلق اليوم بالسردية، صار التوضيح والتأكيد هو المهمة الأساسية للمادة المرئية في الغالب الأعمّ”




ادعت إسرائيل طوال الوقت أن هناك مراكز قيادة لحماس تحت هذه المستشفيات، وطالب الصحافيون والحكومات إسرائيل بإثبات ذلك، وهكذا تم تصوير فيديو من قبل الجيش الإسرائيلي يظهر فيه الناطق الرسمي باسم الجيش في غرفة تحت الأرض، لم يكن هناك ما يشير إلى وجود مركز قيادة من أي نوع، بل بدا الأمر أشبه بغرفة قهوة للطاقم الطبي، مع طاولات ونباتات. كانت هناك ورقة بحجم A4 معلقة على الحائط في هذه الغرفة، رُسم عليها رسم تخطيطي في أعمدة، مكتوبة بخط اليد باستخدام القلم، حيث يمكن قراءة الكلمات العربية بسهولة، وقف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي هناك وتحدث إلى الكاميرا بخطورة: “هذه هي أسماء رهائننا، هذا هو مكان احتجازهم”!
لم تعرف وسائل الإعلام العربية ماذا تقول، كان بإمكان كل عربي قراءة ما وضعته إسرائيل كدليل، وكانت أسماء الرهائن هي: الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء… أيام الأسبوع، مجرد تقويم! لم تتبع الفضيحة الإعلامية أية أسئلة، وتم تدمير جميع المستشفيات بعد ذلك، ودائمًا: “حماس”. لم يكن هناك أي دليل، ولست مضطرًا لذلك عندما تعلم أن الدعم غير مشروط، فالناس يريدون صورة، إذًا أعطهم صورة. مهما كان الواقع، فإن أكاذيبنا تلقي ضوءًا مختلفًا عليه. هذه هي قوة السردية السائدة، حيث يصبح الاتهام نفسه هو الحجة، فإما أن تؤكد السردية ما يعتقده مؤيدوك على أية حال، أو على الأقل تجعل الآخرين يعتقدون أن هناك حتمًا سرًّا ما في مستشفيات غزة… إذا سمحت دولة صديقة بموت الكثير من المسنين، ومرضى السرطان والمصابين بجروح خطيرة، والرضع والأطفال المقعدين على كراسٍ متحركة هناك، فلا بد أن هناك خطبًا ما حقًا! إسرائيل لا تكتفي بسجن الأطباء، ولا تكتفي بإعدام الممرضات، ولا تكتفي بتعذيب كبار الجراحين حتى الموت، كان الدكتور عدنان البرش من كبار الجراحين المعروفين عالميًا، وقد استسلم ومات تحت التعذيب، لم تكن هناك لائحة اتهام ولم يتم الإفراج عن الجثة، لكن بالتأكيد: “لا بد أن هناك سببًا ما”.
ومهما كانت الصور التي تصلنا من غزة اليوم غير قابلة للتصديق، إلا أنها تجعلنا نألف الدمار، إنها تمنحنا المنظر الواضح من المسافة المناسبة، التي تقول: “مأساوي”. كانت الصور الصحافية ذات يوم وسيلة لإيقاظ العالم؛ أما اليوم فهي مخدرة أيضًا: اذهب إلى النوم بسلام. منذ السابع من أكتوبر 2023، قُتل ألف وخمسون طبيبًا وممرضًا في غزة، وتم اعتقال المئات منهم وتعذيبهم وإعدامهم في السجون الإسرائيلية، ومع ذلك، أحيانًا ما تنتصر الصورة على التعتيم، وتنجح في اختراق الحواجز من تلقاء نفسها لتروي سرديتها الخاصة، والعالمية.

أيقونة مريم

في المقال الذي كتبته لصحيفة “فولكس كرانت”، العام الماضي، نشر المحررون صورة، وجاء في التعليق تحتها: “امرأة تحتضن جثمان طفلة قُتلت في هجوم إسرائيلي على أحد مستشفيات خان يونس جنوب قطاع غزة”. المصور: محمد سالم.
رأيت الصورة وتهاويت.
لخصت هذه الصورة لمحمد سالم (أنظر الصورة أعلاه- المحرّر) المقال بأكمله، ما استغرق مني ثلاثة آلاف كلمة، تم تجسيده في صورة واحدة: الكرامة مقابل العدم.
في الصورة الأيقونية ترتدي المرأة رداءً باللون الأزرق مع غطاء رأس باللون الرملي: تراها ولا تراها، هي ليست محجبة فحسب، بل محجوب عنا وجهها أيضًا، مُنحن على مرفقها، كما لو كان ذلك الحضن هو المكان الآمن الوحيد المتبقي في غزة، يداها فقط ظاهرتان، تحتضنان وجه الطفلة الميّتة، في محاولة لإبقائها في أمان حتى بعد موتها، كل شيء في الصورة ينضح بالأمان الزائف وعدم الكشف عن الهوية، الطفلة ملفوفة في كفن أبيض من رأسها إلى أخمص قدميها، ومن أسفل الكفن يظهر الكيس الطبي المصنوع من البلاستيك الأزرق، يتشارك لون رداء المرأة.
نحن لا نرى شيئًا، وفي الوقت عينه، نرى كل شيء.
لا تكشف الصورة عن أي شيء يمكن التعرف عليه، إنها أشكال وألوان، أيقونة وليست أشخاصًا، ومع ذلك، فإن “أيقونة مريم” هذه تحكي قصة كل الفلسطينيين، تميّز الصورة واقع غزة، بل فلسطين كلها، أتذكر الآن ما فكرت به حين رأيت الصورة للمرة الأولى؛ ستكون هذه الأيقونة صورة العام الصحافية بلا منازع، محمد سالم لا يقدم لنا وجهًا، بل سردية أخرى وفرصة للتعرف على الهوية، بالمناسبة، اسم المرأة هو إيناس أبو معمر، وبين ذراعيها جثمان ابنة أخيها سالي ذات الأعوام الخمسة، بعد مقتلها إثر قصف إسرائيلي لمستشفى ناصر في خان يونس.
صحافيون مثل سالم يقدمون لنا نافذة على العالم، يمنحون الضحية صوتًا، ولهذا السبب أيضًا لم يسمح الجيش الإسرائيلي لوسائل الإعلام الأجنبية بالدخول إلى غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تحرم إسرائيل العالم من فرصة التعرف على ما يحدث هناك، لكنها قبل كل شيء تحرمه من فرصة التماهي مع الفلسطينيين، فالجيش الإسرائيلي لا يسمح بوجود عيون قريبة، ولا حتى سردية أو رواية أخرى إلى جانب سرديته وروايته هو، ومع ذلك، يحاول الصحافيون والمصورون الفلسطينيون المحليون منذ أكثر من عام نقل تقاريرهم عن المجازر وعمليات التطهير والتجويع، يمكنك القول إننا نعتمد على ما يرونه وينقلونه إلينا من هناك، كما يمكنك القول أيضًا إننا “نرى”… بفضلهم.
هؤلاء الناس يخاطرون بحياتهم من خلال عملهم هذا، ليس لأنهم مضطرون للعمل في حالة حرب، بل لأنهم أهداف رئيسية للجيش الإسرائيلي، إذ قُتل حتى اليوم ما لا يقل عن 137 صحافيًا ومصورًا وعاملًا في مجال الإعلام في غزة، كانوا يرتدون جميعهم معداتهم الصحافية، ويمكن التعرف عليهم بسهولة من مسافات بعيدة، وبدلًا من توفير الحماية لهم، جعلتهم إمكانية التعرف عليهم أهدافًا سهلة المنال، وسواء كنت أمًا فلسطينية تلوح بعلم أبيض وهي تحمل طفلها على ذراعيها، أو صحافيًا يرتدي سترة مزينة بكلمة “PRESS” بأحرف ضخمة، فالجميع معرض لإطلاق النار، “أهداف سهلة”، كما يقولون.

إنكار جماعي

كنت أود التحدث عن السلام والحوار والتواصل، لكن كيف لي أن أشيح بنظري عن واقع غزة اليوم، إن الدعوة إلى الحوار بعد كل ما حدث ليست سوى ضحك على الذات، طالما أننا لا ندرك أن إسرائيل تقتل عمدًا أولئك الذين يمكنهم خلق الحوار والتفاهم، من خلال تقديم سرديات مختلفة، قتل الأطباء والممرضات والصحافيين ليست جرائم صغيرة، لأن الأمر يتعلق بالإبادة الجماعية لأشخاص شجعان يقدمون لنا درسًا تشريحيًا في ظروف وصفها مسؤولو الأمم المتحدة بأنها “أسوأ من الجحيم نفسه”، أشخاص يكشفون لنا الحد الأدنى من المأساة التي تتعرض لها غزة منذ ما يزيد عن العام.
يحاول الصحافيون والمصورون على الأرض في غزة أن يصلوا إلى أعيننا ليلفتوا انتباهنا، الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها أن نشكرهم، هي كسر حصانة أولئك الذين يهددون وجودهم ووجود عائلاتهم وشعبهم، لأنه نعم، الفلسطينيون موجودون، ووجودهم على المحك، الصحافيون يقومون بعملهم من خلال إظهار هذا الواقع لنا، وظيفتنا هي تغيير هذا الواقع، والتغيير يعني التمرد، يجب أن نفعل شيئًا بمجرد أن نسمع وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي يدعي أنه “لا يوجد صحافيون في غزة”، كما فعل في مجلس العموم البريطاني أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2024. كان يقصد: لا يوجد صحافيون “حقيقيون”، فكما أن الفلسطينيين شعب مزيف، فإن الصحافيين الفلسطينيين مزيفون أيضًا.
وائل الدحدوح هو أحد هؤلاء “الصحافيين المزيفين”، إنه غير معروف إلى حد كبير في الغرب، أما بالنسبة لنصف مليار إنسان في العالم العربي فهو نجم يعرفه الجميع، على مدى سنوات، وحربًا تلو أخرى، ظل هذا الرجل ينقل الأخبار من غزة بإخلاص، ما جعله وجهًا إعلاميًا لغزة. وبينما كان الدحدوح يقدم تقاريره في أكتوبر 2023، استُهدفت شقة عائلته بغارة جوية، ما أسفر عن مقتل زوجته وابنته البالغة من العمر سبع سنوات وابنه البالغ من العمر 15 عامًا وحفيده وثمانية أفراد آخرين من العائلة. كانت الشقة تقع في منطقة حددتها إسرائيل كمنطقة آمنة، ولهذا السبب فرت العائلة إليها، نعلم اليوم أن العملية كانت مقصودة لأن صحافيًا إسرائيليًا تفاخر بها على التلفزيون الإسرائيلي قائلًا: “نحن نعرف أهدافنا بشكل عام، اليوم مثلًا كان الهدف عائلة صحافي الجزيرة”. بعد بضعة أشهر، وبهجوم قامت به طائرة بدون طيار، قُتل ابن وائل الدحدوح الأكبر البالغ من العمر 27 عامًا، والذي كان صحافيًا أيضًا.
مع ازدياد وضوح ما تقوم به إسرائيل، حيث لا يتم تدمير شعب كامل فحسب، بل تدمير نسيج مجتمع بأكمله؛ من مستشفيات وجامعات ومكتبات ومدارس ومخابز ومساجد وكنائس ومنازل، ومحطات تنقية المياه وحقول وأراضٍ زراعية، مع تدمير كل شيء، ومع استهداف آخر الصحافيين المتبقين في غزة واحدًا تلو الآخر، حتى لا تخرج تقارير أخرى من تحت الأنقاض، يبرز السؤال: ألا يشكل السعي المدروس للموضوعية مزيلًا للجرائم ضد الإنسانية؟ على حد تعبير الفيلسوف السياسي الشهير فرانتز فانون: “إن الانشغال بالموضوعية يشكل الذريعة المشروعة لسياسة الجمود هذه”.
أحيانًا يكون الواقع مجرد تحزّب أعمى، إنه ما هو عليه، ولا يمكنك أن تطالب بالابتعاد عن الموضوع إذا كان المراسل نفسه محاصرًا، أحد الصحافيين القلائل الذين لا يزالون على قيد الحياة ومثابرًا في غزة هو أنس الشريف، وهو لا يزال شابًا، شاهدته يقرأ قائمة بالقتلى على الهواء مباشرة أمام الكاميرا، ضحايا جدد لمجزرة أخرى، وبينما كان يفعل، وجد أنه يقرأ أسماء عائلته، لكنه لم يصمت، لقد واصل القراءة… قام بعمله.
المسافة امتياز، ولكنها أكثر من ذلك: المسافة غير ضرورية عندما يتعلق الأمر بالإبادة الجماعية. هذا هو المكان الذي يكون فيه الالتزام مهمًا، يتحدث البروفيسور الإسرائيلي عاموس غولدبرغ بوضوح في هذا الصدد. يعمل غولدبرغ باحثًا في الهولوكوست منذ ما يقرب من 30 عامًا، وخبيرًا مشهورًا في مجال عنف الدولة والإبادة الجماعية، وقد صرح مؤخرًا: “كنت بحاجة إلى بعض الوقت لاستيعاب ما كان يتكشف أمام عيني، كان من المؤلم مواجهة هذا الواقع، وكنت مترددًا في وصف ما يحدث بالإبادة الجماعية، (…) يسود في المجتمع الإسرائيلي اليوم جو راديكالي من التجرد من الإنسانية تجاه الفلسطينيين، إلى حد لا أتذكر أني رأيت شبيهًا له خلال ما يقرب من 58 عامًا عشتها هنا، وقد تم التعبير عن هذا الرأي الآن: غزة لم تعد موجودة، لقد تم تدميرها بالكامل! لذلك توصلت إلى استنتاج مفاده أن هذا هو بالضبط ما تبدو عليه الإبادة الجماعية، نحن لا نتدارس الإبادة الجماعية لكي نعايشها بعد ذلك، بل ندرّسها لمنع تكرار حدوثها، وكما هي الحال في كل حالة إبادة جماعية في التاريخ، هناك إنكار جماعي في الوقت الحالي، لكن الواقع لا يمكن إنكاره، وبمجرد التوصل إلى هذا الاستنتاج، لا يمكن السكوت عنه”.
يمكننا أن نمنح الكاميرا الفضية لصقر خضر عن صوره التي التقطها في غزة، وجائزة الصورة الصحافية العالمية لمحمد سالم، ولكن إذا لم نفعل شيئًا حقيقيًا على أرض الواقع، فإن كلماتنا وجوائزنا لا تعني شيئًا، إذا لم نكرمهما بحمايتهما أيضًا، فستكون حريتنا كلها فارغة.
عقارب الساعة تتحرك، فانظروا… أو أشيحوا بأبصاركم، ماذا نفعل؟ إذا بقينا صامتين اليوم، سيصبح صمتنا فيما بعد “أيقونة” للعار، ستحفظ إلى الأبد في أرشيف الأجيال القادمة. 

عن ضفة ثالثة

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *