مساهمة في النقاش الفلسطيني حول ما يسمى “صفقة القرن”.. وما العمل؟
ماجد كيالي
“الحياة” 27 يوليو 2019
تنطلق معظم النقاشات الدائرة حول الترتيبات الأمريكية ـ الإسرائيلية للمنطقة، أو ما يسمى بخطة “صفقة القرن”، من مجرد الرفض دون تحديد معناه عملياً، أو دون تعريف ماهية هذه الخطة ـ الصفقة، بالضبط، كما من اعتبارها كأنها وليدة أفكار إدارة ترامب فقط، دون النظر إلى الوقائع التي تم فرضها منذ مؤتمر مدريد (1991) واتفاق أوسلو (1993)، كما في النظر إليها بطريقة هندسية، وفقا لتوصيفات مثل فصل الضفة عن غزة، وضم مناطق (ج) في الضفة لإسرائيل، وإنشاء جسر أو نفق بين غزة والضفة، وميناء في غزة، ومنطقة صناعية في سيناء، وانعاش الحال الاقتصادية للفلسطينيين، وعلى خلفية هذه النظرة يأتي الجدل حول مقترحات من نوع حلّ السلطة، أو استعادة وحدة الكيان الفلسطيني بين الضفة وغزة، أو سحب اعتراف المنظمة بإسرائيل، مثلاً.
على ذلك فإن أغلبية تلك النقاشات، على أهمية ومشروعية كل ما تطرحه، “تغمّس خارج الصحن” (بحسب المثل الشعبي)، إذ هي تتحدث غالباً في الهامش وليس في المتن، لأن تلك الخطة أكبر وأعقد وأكثر تأثيراً من كل ذلك، هذا أولاً. ثانياً، لأن ما يجري لا يتعلق بأخذ إذن من أحد بطرح ترتيبات معينة، بقدر ما يتعلق بالإعلان عن ترتيبات سياسية واقتصادية وأمنية جرت في أرض الواقع خلال ربع قرن (الماضي)، والأن حان التصريح عن تشريعها علناً. ثالثا، هذه النقاشات لا تأخذ في اعتبارها أن الوضع الفلسطيني (والعربي) السائد، هو الذي أتاح، ولا زال، القابلية لفرض تلك الترتيبات، سواء رفضت القيادة الفلسطينية أو قبلت، بقيت السلطة أم حلت نفسها، سحبت المنظمة اعترافها بإسرائيل أم أبقته، بالتوافق على استعادة وحدة النظام الفلسطيني من عدم ذلك.
المعنى من كل ما تقدم ضرورة إدراك ثلاثة مسائل في التعاطي مع تلك الخطة:
الأولى، مفادها أن الوضع الفلسطيني (الشعب والقضية والحركة الوطنية) في أزمة شاملة وعميقة، من مختلف النواحي، أزمة في الرؤى والبني وأشكال العمل، وأزمة إخفاق في مختلف الخيارات التي تم أخذها في المراحل السابقة، وأزمة شرعية وعجز وترهل وتكلّس وتقادم في مختلف البني الوطنية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل). وبديهي أن وضعا هو على تلك الحال يضعف من قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة التحديات التي تعترضه، أو يحدّ من قدرته، في التصدي لتداعيات “صفقة القرن” عليه.
الثانية، أنه يجب تعريف تلك الخطة أو “الصفقة”، لأنه من دون هذا سنضيع في الهامش، وفي التفاصيل، وذلك في محاورها الثلاث المتمثلة في الآتي، أولاً، تفكيك قضية فلسطين وتفكيك شعب فلسطين، وإبقاء الوضع على حاله، في واقع سلطة تحت الاحتلال، وهو ما أسهمت فيه القيادة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو، حيث بتنا نشهد أن شعب فلسطين، في الضفة وغزة، قبل إقامة السلطة، كان أكثر تحررا وقوة وصلابة في مواجهة الاحتلال منه الأن. ثانياً، مركز هذه الخطة يتعلق بفكّ الارتباط العربي بقضية فلسطين وتطبيع علاقة إسرائيل بالأنظمة العربية سرا أو علناً، إلى هذه الدرجة أو تلك. ثالثاً، تكريس إسرائيل كفاعل وكشريك في الترتيبات الجارية في الشرق الأوسط، بهذه الحجة أو تلك.
الثالثة، أن لنا أن ندرك أن الرفض والتحليل والتوصيف لا تجدي وحدها، على أهميتها، إذ المفروض الخروج من قواعد اللعب السائدة، أو المعتادة، التي أوصلت شعب فلسطين وقضيته إلى هذا الدرك، فإذا كان من المتعذر مواجهة الترتيبات الأمريكية ـ الإسرائيلية ـ الروسية ـ العربية (الرسمية)، التي تم ذكرها في البنود الثلاثة السابقة، في هذه الظروف الدولية والعربية والفلسطينية، القاهرة والمختلّة والصعبة، فإنه على الأقل يمكن للفلسطينيين بذل الجهود لمحاولة تقليل الأخطار والأكلاف، وتاليا قيام القيادة الفلسطينية بفعل ما لم تفعله سابقا، لبناء الكيانات السياسية والمجتمعية والاقتصادية لشعبها. وتلك بعض مقترحات يمكن البناء عليها لتغيير قواعد الصراع، التي أوصلت إلى هذا الدرك:
أولاً، مقابل تفكيك القضية والشعب ينبغي على الفلسطينيين، كفصائل وكأشخاص، التمسّك بوحدة الشعب والقضية والرواية، وانتهاج رؤى وكيانات وأشكال كفاحية وعلاقات وطنية على أساس هذا المفهوم.
ثانياً، مقابل مصارعة إسرائيل لشعب فلسطين حتى على جزء من الأرض (الضفة مثلا) وجزء من الحقوق، يفترض صوغ رؤى تستعيد التطابق بين الشعب والقضية والأرض، أي مصارعة إسرائيل على كل الأرض وعلى كل الحقوق، الفردية والجمعية والوطنية.
ثالثاً، التصرف باعتبار أن للعملية الوطنية بعدين: الأول، مقاومة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية. والثاني، بناء الكيانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعب فلسطين، وتعزيز اجماعاته الوطنية، وتنمية موارده البشرية، وترسيخ صموده في الداخل.
رابعاً، اعتماد أشكال النضال التي تعزز صمود فلسطينيي الداخل (48 ـ الضفة ـ غزة)، وانتهاج سبل المقاومة الشعبية، لا انتهاج أشكال تستنزف شعبنا بدل استنزاف إسرائيل، أو تتيح لها زعزعة ذلك وجود شعب فلسطين في أرضه، بشن الاعتداءات عليه بين فترة وأخرى.
خامسا، التركيز على إعادة بناء البيت الداخلي، فهذا رغم صعوبته وتعقيداته، في ظل توزع شعب فلسطين، وفي ظل موات او ركود حركته الوطنية، إلا انه هو الحل الوحيد لمواجهة تحديات المستقبل، وبناء الأدوات التي تمكن من استنهاض القدرات، وذلك يتطلب رؤى وطنية جديدة جامعة، كما يتطلب إعادة بناء الحركة الوطنية (منظمة وسلطة وفصائل ومؤسسات جمعية)، على أسس وطنية وكفاحية ومؤسسية وديمقراطية.
تلك مجرد مساهمة في النقاش حتى نعرف عن ماذا نتحدث، أو كي نوحد مفاهيمنا ورؤيتنا لماهية صفقة القرن، ولما يمكن عمله وما لا يمكن، وهي دعوة للانتقال إلى الحديث عن خطوات عملية وممكنة، بدل الاكتفاء بمجرد التحليل والتوصيف والرفض.