زكريا زبيدي: المعرفة، الإدراك، وعبور العلامات

النص الكامل:
مداخلات لجنة النقاش (2)
تعيد أطروحة زبيدي السؤال الأزلي حول المعرفة بصفتها استيهاماً ظاهراتياً، وحالة عبور ذهنية للتاريخ، بداية من الأسطورة إلى الجماليات، وما تراكم عبر كل ذلك من اجتهاد علاماتي – سيميائي – متشابك ومعقد في قراءة وراثة الصدمات عبر التاريخ، ووراثة الفن – السرد – عبر الجماليات.
يعبر زبيدي التاريخ بوعي مسبق بالتأكيد وقرار مراقب ومرصود، لكنه يؤسس ظاهريته الجديدة بالعبور من الاستيهام أو التأمل، إلى إدراك أكثر “صدمية”، يتجاوز ترف التأمل وحوار الجماليات، التشكيل والحبكة الأسطورية وحتى سؤال الجدوى والحقيقة، إلى حوار تاريخي بالجسد أيضاً، وهو المكانية الروحية النفسية القابلة للتحقق.
يعني ذلك وفق تنظيرات غابت أو غُيّبت حول جدوى الجدوى دون إدراك جسدي، وبالتالي ما المعرفة خارج هذا الإدراك، إنها إمّا معرفة الزمن بالتأمل والتفلسف والتنظير، وإمّا معرفة مكانية تلتحم بالجسد الذي ينقل التأمل إلى الإدراك، إذ لا إدراك خارج الجسد، حسب المشروع التنظيري التعارضي لموريس مييرلوبونتي (Maurice Merleau-Ponty).
ضمن هذا الحقل، يعبر زبيدي التاريخ بتأريخ خاص: ذهني وجسدي، فهو ابن تصور فلسطيني تحرري، ويتخذ موقعاً وظيفياً فيه على مستوى المؤسسة، وعلى مستوى الجسد يعرف زبيدي جيداً إدراك ألم الإصابة والشظايا والنوم بجانب جثامين الشهداء، وحتى تدخين سيجارة من جيب الشهيد، ويعرف معنى وجع اليتم والانفصال الأبدي عن جسد الأم وروحها، ويعرف كيف ينتظر حول المفارق والأزقة والمنعطفات على طريقة سبارتاكوس. لقد اختبر جسد زبيدي المعرفة بكل حواسه ووضع قوانين معمدة بالمكابدة، فهو يعرف طعم التعذيب جيداً ومعنى الجوع ومعنى غياب الجسد عن بيت العزاء، في محاولة أخيرة لاستعادة الراحلين والإمساك بهم عبر الصور والمحافظة على بهائهم عبر باقات الورود. يعرف ذلك جيداً عند سماعه نبأ استشهاد المدرك الآخر داود زبيدي، الشهيد الأسير الجريح المختطف جثمانه، في إمعان العدو بسادية ألم الاستغراق والاستدراك.
عبر كل ذلك يؤسس زبيدي سيميائيته الخاصة، فهو يعبر العلامات بعقله كما يعبرها بجسده، ويعرف تزامنها وتعاقبها وتمثلها وتمثيلها، منذ التقسيم الأول للعلامة، فهو يردد الحب والوطن والألم كما نرددها، ولكنه عبر بها إلى الثانية، فهو يعرف الجرح والنزف، ويهتف للثورة مثلنا، لكنه عبر إلى المستوى “الصدمي” الإدراكي للعلامة، فهو له وطن باهظ ويعرف طعم اليتم ويعيش أجواء الرثاء خارج انتظار صفقات أو تصفيق المشيعين. وحده مع داود والعارضة وكممجي، يعرفون أن كلمة شهيد وجريح وأسير ومطارَد لا تتكرر على سبيل الرثاء والمديح، لقد تمثلوها وتحملت أجسادهم تشوهات القوة والسلاح، لكن زبيدي يعلمنا أن نكون بشراً سوياً، ففي فلسفة الإدراك فاقد الشي يعطيه.
لم يمنح زكريا الفعل وحده، فقد كان دليلي الإدراكي في مرحلة التقمص عندما كتبتُ روايتي الثالثة، في رصد الخيبة الفلسطينية بالعلاقة مع البطولة التراجيدية. في روايتي “ليتني كنت أعمى” التي رصدت سردياً وجمالياً التقاء البصيرة والعمى في بيروت وجنين ونابلس، كان زكريا جسد النص الذي منحني القدرة على صناعة الحكاية وإدراك المعركة في مخيم جنين عبر سرده الجسدي الإدراكي للمعركة كصانع وشريك فيها. لقد منح الجغرافيا روح التاريخ، ومنح الخيبة القدرة على الاستشراف، ما زال يبكي ما زال يعيش. شكراً لزكريا ولجسده ولروحه، شكراً للصديق عبد الرحيم الشيخ على تتبّع مسار الظاهراتية الجديدة.
وليد الشرفا: أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت.
عن مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 132