رواية فلسطين: هوية الشكل ومنفى المحتوى

في سنة 1958 كان الناقد والمنظّر الأدبي الإنكليزي ريموند وليامز قد أصدر كتابه الهامّ «الثقافة والمجتمع»، وضمّ إليه ملحقاً من 60 كلمة اعتبرها مفتاحية في دراسة الأدب؛ وفي عام 1976 نشر طبعة جديدة من الكتاب ذاته بعنوان «كلمات مفتاحية: معجم للثقافة والمجتمع»، توسّع فيه عدد الكلمات إلى 110؛ وأمّا طبعة 1983 فقد حظيت بـ21 كلمة جديدة. غير أنّ وليامز لم يكترث بتضمين هذه الطبعات المتعاقبة أياً من مفردتَي»الهوية» و»الشكل»، على أهمية كلّ منهما في تحليل الأدب وعلاقته بالمجتمع خصوصاً، ورغم كونه أحد كبار المنظّرين للاتجاه الماركسي في النقد الأدبي؛ ولسوف ننتظر حتى سنة 2005 حين سيعكف توني بنيت ولورنس غروسبرغ وميغان موريس على إنجاز عمل موسوعي مشترك يستوحي كتاب وليامز ويراجعه، صدر تحت عنوان «كلمات مفتاحية جديدة: معجم منقّح للثقافة والمجتمع»، وحمل تعريفاً مسهباً بمفردة «الهوية».

لم تعد الدراسات النقدية المتمركزة على الهوية تياراً سائداً ومشروعاً ومرّحباً به، فحسب؛ بل باتت الخيار الأنسب والشائع في مقاربة آداب بعينها، بسبب فرادة ما يعكسه من سمات على مستوى الهوية. وفي حدود ما أعلم شخصياً، لست أجد نتاجاً أدبياً، أو كتلة آداب بالأحرى، أكثر من الأدب الفلسطيني جدارة باستدعاء النقد الهوياتي

هذا مثال بليغ على أنّ حضور مفهوم الهوية لم يكن أمراً مسلّماً به على الدوام في تاريخ النقد الأدبي الحديث، حتى من جانب ماركسيّ عتيد مثل وليامز، تعنيه تماماً مسائل ربط الآداب والفنون بالظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وبالتالي كان نادراً، أو حتى مستنكَراً في قليل أو كثير، تلمّس صلات من أيّ نوع بين هوية عمل أدبي ما، أو هوياته المختلفة، من جانب أوّل؛ وبين شكله أو أشكاله، من جانب ثان. اليوم لم يعد التحليل الهوياتي، أو الدراسات النقدية المتمركزة على الهوية، تياراً سائداً ومشروعاً ومرّحباً به، فحسب؛ بل بات الخيار الأنسب والشائع في مقاربة آداب بعينها، بسبب فرادة ما يعكسه من سمات على مستوى الهوية. وفي حدود ما أعلم شخصياً، لست أجد نتاجاً أدبياً، أو كتلة آداب بالأحرى، أكثر من الأدب الفلسطيني جدارة باستدعاء النقد الهوياتي.
ومن حيث صلتها بالتماثل أو التشابه أو التشارك في جملة من العناصر، فإن مفهوم الهوية يحتوي تلقائياً على أكثر من طراز للتعدد والتباين أو حتى التناقض، إذْ أنّ ائتلاف اثنين أو أكثر تحت سقف أو أكثر من التشابه، يعني في الآن ذاته وجود طرازين أو أكثر من الذات المنفردة؛ الأمر الذي يحيل استطراداً إلى الشكل كواحد من مستويات تجلّي الهوية، لأنه في أبسط تعريفاته صورة التركيب الخارجية وأنساق وطرائق التعبير، كما يحيل إلى المحتوى بوصفه مرجعية تجسيد الشكل واحتواء المعنى؛ وكلاهما يقود إلى التوليفة الماركسية الأثيرة حول العلاقة العضوية بين الشكل والمحتوى.
المنفى، في سياقات هذه السطور تحديداً، ليس أحاديّ التوصيف ولا منحصراً في النأي عن الوطن والإقامة في مغترب ما، بل قد يحدث مراراً أن يتعدد ويتغاير جغرافياً وجسدياً وشعورياً؛ وهو، حسب توصيف شهير اقترحه إدوارد سعيد، تجربة يتوّجب عيشها بحيث تسمح بإحياء الهوية، وإحياء الحياة نفسها، والارتقاء بهما إلى وضعية أكثر اكتمالاً ومعنى؛ فيصبح شرطاً ضرورياً من أجل حالة أفضل، وهذا ما نعرفه عن نفي الأمم قبل أن تحرز كياناتها، ونعرفه أيضاً عن نفي أنبياء مثل موسى والمسيح ومحمد، قبل عودتهم الظافرة.
وعلى منوال موازٍ فإنّ مفهوم الهوية، في هذه السطور أيضاً، لا يقتصر على المستوى الضيّق الذي يخصّ الجنسية الوطنية؛ بل يتسع، كثيراً في الواقع، فيشتمل على أنماط التماثل – الفعلية أحياناً، والمتخيَّلة غالباً، أو الواقعة في منزلة وسيطة – لفرد بذاته أو لأفراد ضمن مجموعة، على مدى زمني غير قصير وفي ظروف وسياقات غير طارئة. والهوية بذلك هي المركز الجوهري للذات، حسب ستوارت هول، إذا اتصلت بالكائن الإنساني؛ وهي المركز الجوهري المكوّن، إذا اتصلت بكل ما يتمتع بنمط تماثل مادي أو مجرّد، فعلي أو مجازي هنا أيضاً.
وفي ورقة بعنوان «هوية الشكل ومنفى المحتوى في الرواية الفلسطينية المعاصرة»، قُدّمت خلال مؤتمر عن غسان كنفاني شهدته العاصمة الأردنية عمّان مؤخراً، ناقشت هذه السطور جدل الاشتباك بين المفردات الأربع، الهوية والشكل والمنفى والمحتوى، في ضوء التوصيفات آنفة الذكر؛ من خلال أربع روايات فلسطينية معاصرة، كُتبت خلال السنوات الستّ الأخيرة تحديداً: وليد الشرفا، وروايته «وارث الشواهد»، 2017؛ عدنية شبلي، في «تفصيل ثانوي»، 2017؛ أحمد رفيق عوض، في «الحياة كما ينبغي»، 2022؛ وإيزابيلا حمّاد، في «الباريسي»، 2019. وليس هنا المقام المناسب لعرض سلسلة خلاصات الورقة، التي سوف تُنشر ضمن كتاب خاص يضمّ الأوراق والمداخلات التي شهدها المؤتمر.
وفي حكم الرواية الفلسطينية المعاصرة أعمالٌ أخرى كثيرة، عكست تنويعات شتى للمسائل الأربع في هذه الورقة، وانشغلت بتظهير الهوية الوطنية داخل فلسطين أو في الشتات والمنافي، كما واصلت التعبير عن خصائص محلية فلسطينية ومنعكسات عربية أيضاً. وتلك الأعمال رسخت سلسلة خيارات انعتقت أكثر فأكثر من تقاليد رواية النكبة ورواية الانتفاضة الأولى في آن معاً، وكان ذلك الانعتاق بمثابة فعل تطوير عميق لم تكن آثاره الإيجابية، على مستوى الفنّ الروائي وأساليب السرد وعلاقات الشكل والمضمون عموماً، قد اقتصرت على المشهد الأدبي الفلسطيني وحده؛ بل شملت تيارات الرواية العربية المعاصرة عموماً ومدارسها ومراكز إنتاجها، هنا وهناك في العالم العربي والمهاجر أيضاً.

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *