رهان إسرائيل على الجريمة المنظمة

بتنا على مفترق طرق خطير للغاية، فإما يتواصل نزيف المجتمع الفلسطيني في الداخل، وإما نحمل جراحنا وأحزاننا وننتقل إلى حالة من التصدي والمواجهة مع المنظومة الحاكمة، التي وحدها تمتلك كل القدرات والأجهزة والسطوة للقضاء على الجريمة المنظمة التي تفتك بنا كمجتمع، وتشوّش وتشوّه كل ما هو إيجابي ونهضوي فيه؛ وهي المنظومة التي توفر دفيئة للجريمة وسياسة حمايتها وإطلاق العنان لها.

لقد باتت الجريمة تلعب دورا وظيفيا بنيويا في ممارسات الدولة الخفية منها والجليّة على السواء، والتي تريد لنا، نحن العرب الفلسطينيين في الداخل، أن ننشغل فقط في قضايانا الداخلية، والتي تفرض حصارها علينا جميعا وتترك لنا خيارين باتجاه واحد: فإما اللجوء الى الدولة وخدمة أجيالنا الصاعدة في منظومة الأمن والعسكرة المعادية لوجودنا ولشعبنا، أي الهجرة السياسية والهوياتية إلى الدولة والولاء لسياساتها؛ وإما دفع هذه الأجيال، وتحديدا الأكثر كفاءة منها، إلى الهجرة من الوطن. وفي كلا الخيارين سنخسر أنفسنا وكيانيتنا، ونخسر دورنا تجاه بقائنا وتطورنا، وتجاه قضية شعبنا.

أحيانا تكون الوتيرة غدّارة وتغرّر بالضحايا؛ فلو نظرنا إلى عدد ضحايا الجريمة المنظمة في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، لأحصينا العشرات الكثيرة. ولو تزامن سقوط الضحايا معا، لاعتبرنا أننا أمام مجزرة، ولا يضاهيها سوى عدد شهداء شعبنا الذين يسقطون برصاص الاحتلال بوتيرة يومية موازية. يبدو أن الوتيرة تجعلنا نعتاد على إيقاع ردود الفعل، وتحوّل الغضب إلى حزن دفين بدلا من الفعل. إن ما تمارسه الدولة أبعد من أن يكون سياسة لتغيير قناعاتنا، وإنما لتغيير سلوكنا وفرض جدول أعمال قسري عنيف يقوم على تشوش قناعاتنا الوطنية ومن خلالها إحباط أية نهضة جماهيرية.

يعيش الفلسطينيون العرب في إسرائيل في حالة تناقض وفجوة في السلوك. فمن ناحية تتوفر في هذا المجتمع كل الطاقات النهضوية الخلاقة والمبدعة والمشرقة، التي تجعل وزنه الحقيقي النوعي أكبر من حجمه الكمّي، وهذا ما لا تريده إسرائيل. وفي المقابل، تعبث منظومة الجريمة المنظمة بكل الإنجازات والطاقات الخيّرة، حتى لو كان عدد أفراد منظومتها محدودا جدا، فإنّ أدوات سطوتها مسنودة بنيويا ووظيفيا من الدولة؛ فاقتصادها وأدواتها تحت رقابة الدولة بالكامل، ورؤساء هذه المنظمات مرتبطين بجهاز الأمن العام (الشاباك) الذي يوفر لهم الحماية والحصانة، وهو الجهاز الحاكم فعليا للعرب في الداخل، ويخصص للجريمة وظيفة تخدم سياساته بعيدة المدى.

الرهان

باعتقادي أنّ رهان الدولة وسياساتها الخبيثة على الجريمة قد نجح، فهناك معادلة إنه طالما كان القمع من قبل الدولة وأجهزتها مباشرا، اشتد عود جماهير الشعب ومقاومتها الشعبية، في حين أن الجريمة تستنزفها من داخلها وتحبط كل أمل حين تصبح أولويات الناس هي التفتيش عن الأمان الشخصي والأُسري المفقود. ولا يغيب للحظة عنا مخطط الدولة في تفتيت المجتمع الفلسطيني كونه أحد أكثر مجموعات الشعب الفلسطيني تنظيما وجهوزية لأخذ دوره والإسهام في قضية فلسطين بكل مركباتها. إنها تخلق أولوية واحدة ووحيدة، وهي الأمان الفردي، ومن يكون جل انشغاله في أمانه الشخصي لا يتضامن مع غيره ولا يتحمل مسؤولية تجاه أحد، فيذهب إلى الحلول الفردية. على سبيل المثال، فإن الهجرة السنوية الداخلية إلى حيفا تصل الى ألف مواطن عربي، وذلك في معظمه سعيا وراء الأمان وهربا من “الرصاصة الطائشة” التي تملأ فضاءات الناس في لبلداتنا. وإذا لم يكن التصدي جماعيا، فإن الناس ستهرب من الجريمة؛ ولا لوم على الناس في خياراتها إذا كان المجتمع ضعيفا ولا يوفر حماية لأبنائه وبناته؛ ولكن يجدر ألا يغيب عن بالنا إنه حتى ولو كان المجتمع أكثر تماسكا لما تخلّص من الجريمة، لأن أدوات التخلص من الجريمة في أيدي الدولة وليس المجتمع، كما هو الحال في كل مكان في العالم، وكما حدث مع المدن الاسرائيلية حين رأت الدولة بانتشار الجريمة المنظمة فيها مسألة أمن قومي وهاجسا ديمغرافيا، تؤدي إلى هجرة اليهود وإلى حلول العرب في أمكنتهم ليتغير الطابع السكاني لهذه المدن ويختلّ نقاء العِرق. لقد تخلصوا من المافيا الإسرائيلية بقرارات حكومية، وباتت معظم قياداتها في السجن وحطموا بنيتها واقتصادها، فيما الجريمة هي المجال الوحيد الذي يميزون فيه لصالح المافيا العربية وعلى حساب الجماهير العربية.

تتحفنا شرطة إسرائيل بالإحصائيات، وتطالب الشباب العرب بالانضمام لصفوفها، وتكاد تطالب القيادات العربية بأن تتقدّم لها بالشكر والامتنان بعد كل عملية ضبط أسلحة. إنهم يتحدثون عن عشرات وحتى مئات قطع السلاح، إلا أن معطياتها تؤكد أن سوق السلاح تتعدى النصف مليون قطعة. أما اقتصاد الجريمة فهو بالمليارات، ومن المفارقات أنها تسير على خارطة طريق علاقات إسرائيل الإقليمية؛ فبعد التطبيع مع النظامين في المغرب والإمارات، اعتمد أقطاب الجريمة المنظمة عاصمتي البلدين عاصمتين لهم. ومع تعزز العلاقات الإسرائيلية – التركية، تكون الجريمة قد وفّرت ملاجئ ضريبية وجنائية لقياداتها في هذه البلدان، وبإيعاز من أجهزة الدولة هنا. بناءً عليه، لن يكون مفاجئا إذا بلغت الجريمة دور التصفيات السياسية ودور صنع القيادات السياسية المعنية بها، وهي ظاهرة معروفة في ما يسمى تبييض الجريمة كما تبييض الأموال.

ظاهرة إسرائيلية

من الخطأ التعامل مع الجريمة باعتبارها ظاهرة مجتمعية عربية فلسطينية، بل هي ظاهرة إسرائيلية مرتبطة بمنظومة الدولة أولاً، وقد باتت سياسة دولة، فيما تستغل البنية الاجتماعية والبلدية والحالة الاجتماعية الاقتصادية لمجتمعنا لخدمة مصالحها. إنها تفرض سطوتها على المجتمع الذي لا يعرف فعليا ما يجري داخلها من تفاعلات، ولا كيف تتحرك، وأين ستكون ضربتها، ومن سيكون ضحيتها التالية، ليشعر كل فرد بأنه قد يكون ضحيتها ولا يملك أدوات حماية، مما يفقد الشعور بالأمان، وبات معروفا للناس بأن استهداف شخص ما لا يكون بمجرد تصفيته، بل تصفية أناس من الدوائر القريبة له كي يرضخ المستهدف لسطوة المافيا.

الأصعب في مخططات الدولة هي تلك القائمة للمدى البعيد، حيث من الصعوبة بمكان رؤية إلى أين تقود وكيف تسير السياسات السرية غير المعلنة. على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ هبّة الكرامة في أيار/ مايو 2021 التي اعتقدنا بسلوكنا السياسي أنها انتهت، لا تزال مسألة جوهرية على جدول أعمال الذهنية الأمنية الاستخباراتية الإسرائيلية، التي طوّرت عقيدتها في ضرورة منع أية إمكانية أن تتكرر الهبة في المستقبل، وإلى ضرورة “إخضاع العدو قبل المواجهة التالية”، مع التأكيد على ضرورة تعددّ الأذرع وتكاملها، وأنّ كل الوسائل متاحة، والنتيجة هي المسعى المتكامل لهدم بنية المجتمع.

ما العمل؟

لا توجد عصا سحرية في مثل هذه الحالات، ولا من حلول بنيوية في تغيير طابع الدولة، ولا في تغيير وضعية جماهير شعبنا باتجاه حكم ذاتي تحمي من خلاله أمانها. كما أن المسألة هي بالجوهر سياسية تتم معالجتها بالأدوات السياسية وضمن مشروع سياسي أولا.

في أواخر العام 2020 وأوائل العام 2021، قامت لجنة المتابعة وجماهير الشعب من حولها بعمل جبار، سواء في تحديد الرؤية بأن الجريمة هي سياسة دولة ونتاجها المباشر، ونتاج تراكم سياساتها، ونتاج وضعية الجماهير العربية الفلسطينية في الواقع الصهيوني العنصري الإسرائيلي؛ فيما كانت إستراتيجيات العمل المنبثقة من هذه الرؤية بأن العنوان لمواجهة الجريمة هو خلق وضع شعبي يفرض على الدولة أن تواجهها، حتى لو أدى الأمر إلى تشويش المرافق العامة للدولة والحيّز السكاني الإسرائيلي ذاته. ومن هنا كانت مظاهرات كفر كنا وتبعتها طمرة على الشارع الرئيسي وإغلاقه، ومن ثم المسيرة الجبارة في مجد الكروم وإغلاق شارع الشاغور الرئيسي بعشرات الآلاف من الناس، ومسيرات السيارات على الطريق السريع (شارع رقم 6) وصولا إلى القدس، وكذلك المظاهرات طويلة النفَس التي قام وتقوم بها اللجنة الشعبية والحراك في أم الفحم، والعديد من المبادرات الشعبية في مختلف البلدات.

لم نكن ننتظر تصريحات قيادات في الشرطة الإسرائيلية لتؤكد على أن الشاباك يوفر الحماية لرؤساء الجريمة المنظمة، ولا لدعوات رئيس بلدية اللد، يائير رفيفو، المسؤول مباشرة عن وضع العرب في المدينة بكل مناحيه، ودعوته لجماهير شعبنا بالتظاهر ولتأكيده أنه لو جرت جريمة قتل في شمالي تل أبيب لتحركت الدولة. قد تكون تصريحاتهما كاشفة أو محفّزة أو ضاغطة على الدولة، لكن لا تنقصنا رؤية هذه الأمور ودور الدولة،وليس هناك ما يحفّزنا للفعل أكثر من واقعنا النازف.

باعتقادي أن الخطوات المطلوبة حاليا تتطلب تحويل الحزن والإحباط إلى فعل جبار، والعنوان هو لجنة المتابعة العليا، سواء بمركباتها أو بإقامة إطار طوارئ كفاحي إلى جانبها ولكل القوى والعناصر المعنية، لتقود مسيرة الشعب لإرغام الدولة على القيام بمواجهة الجريمة والقضاء على بنيتها. حين تتحرك جماهير الشعب كل شيء يبدأ بالتغيّر.

عن عرب 48

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *