رصاصة واحدة في الرأس

يكاد لا يمر أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر إلا وتسمع أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أطلق النار على مواطن، هنا أو هناك، في فلسطين المحتلة فارداه قتيلا. وتتكرر هذه الحوادث بصورة دائمة، تكاد تصبح “طبيعية”، ولا من حسيب أو رقيب. وعادة يطلق جنود الاحتلال على الفلسطيني المستهدف رصاصة واحدة، فيردونه قتيلا.

السماح بالاستخفاف بحياة الأفراد الفلسطينيين وخيم العواقب، ونتيجته الاستخفاف بالفلسطينيين بأسرهم وبكل أمانيهم.

مؤخرا ناقش مجلس الأمن هذه الممارسات الإسرائيلية، دون اتخاذ إي قرار بشأنها، كالعادة. وعلقّت وزارة الخارجية الفلسطينية، في بيان لها على ذلك بقولها ” إن الجلسات التي يعقدها مجلس الأمن الدولي، لا تشكل رادعا أمام استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين بحق” الفلسطينيين. وأردفت الوزارة، منوهة في بيانها، أنه لا يمكن ” وصف حجم الوحشية في استهداف المواطنين الفلسطينيين، خاصة وأن جميع التقارير والصور والمقاطع المصورة التي صدرت وتصدر عن عديد الجهات والمنظمات المختصة بما فيها الإسرائيلية، والتي توثق تفاصيل تلك الجرائم تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الشهداء لم يشكلوا أي خطر على حياة جنود الاحتلال، بما يسقط أي مبرر لاستخدام القوة وإطلاق النار الحي”. وختمت الخارجية الفلسطينية بيانها بالقول أن ” التعليمات التي يصدرها المستوى السياسي لقواته تسهل على عناصرها عملية إطلاق النار، وتتعامل مع [الفلسطينيين] كأهداف للرماية في ميدان للتدريب”.

تجدر الإشادة بهذه الجهود التي تبذلها الخارجية الفلسطينية في فضح تلك الممارسات الإسرائيلية الإجرامية، ولكن ذلك يجب أن يتم بصوت خافت، دون كيل المديح لأحد. فهذا النشاط في حقيقته ليس إلا كلام حق يراد به باطل، يستغل كورقة توت للتغطية على تخثر وتقاعس وتواني النظام الفلسطيني بأسره في القيام بواجباته.

جرائم اغتيال الفلسطينيين في الضفة الغربية هي، أساسا، مشكلة أمنية قبل أن تكون سياسية، وبالتالي ينبغي أن تعالج من قبل الأجهزة الأمنية، وهناك – ما شاء الله – 15 (خمسة عشر) جهازا منها في فلسطين (!)، فـ”الإمبراطورية” بحاجة لها كلها لحماية مصالحها المتشعبة. ولهذه الأجهزة، كما يليق بمثيلاتها في عالم التخلف الثالث، وضع خاص للغاية، باعتبار أنها تعمل – إذا شئنا استعمال مصطلحات وكالة الإنباء الفلسطينية، وفا – على تنفيذ “سياسة (والحقيقة أنها “لا سياسة”) الرئيس” محمود عباس. وهذه الأجهزة مرتبطة بـ”تنسيق امني” مع إسرائيل، وفق حكمة ورؤية عباس، الذي وصف ذلك “التنسيق”  مرة، في حديث تلفزيوني بأنه “مقدس”، ولا اقل من ذلك، مكملا كلامه في المقابلة ذاتها، وكأنه يريد توضيح إحدى مسارات “رؤيته” و”حكمته” السياسية بأن هذا ضروري لـ”حماية شعبنا”.

وان كان هذا كنه سياسة عباس “التنسيقية” فلماذا لا تقوم الأجهزة المنسقة، مثلا، باستنكار جرائم الاغتيال تلك وإدانتها علنا وعلى رؤوس الأشهاد، ومن ثم طلب إقامة لجنة تحقيق في كل حادث، وعلى أن يشارك فيها دائما ممثل عن “المنسقين” – وبعكس ذلك تُعلّق عمليات التنسيق مع الاحتلال؟ مثل هذه الإجراءات البسيطة والمنطقية لم تُتخذ مرة، ولا يبدو أنها ستُتخذ مستقبلا. وسبب ذلك واضح للغاية، فهذا التنسيق ليس ضروريا لحماية “أبناء شعبنا”، بل لحماية نظام عباس وصحبه، وعلى الطريق تقديم الخدمات للاحتلال والوشاية بالمناضلين واعتقال المعارضين وقمع الحريات. والنتيجة كانت إقامة نظام يعمل على حماية المستوطنين، وبالتالي تمهيد الطريق لتحويل الضفة الغربية إلى نواة لمستعمرة إسرائيلية.

والواضح أن خدمات الأمن والوشاية التي تقدمها الأجهزة الفلسطينية للمحتلين ثمينة للغاية، ونكفي حادثة بسيطة للتدليل عليها. فعندما كان الأهبل ترامب يشن حربه على الفلسطينيين، ويقطع عنهم المساعدات، في مجال تلو الآخر، ثار خلاف بينه وبين إسرائيل على مبلغ 15 مليون دولار مخصص للخدمات الأمنية، كان ترامب قد أوعز يايقاف صرفه، فيما طلبت إسرائيل الاستمرار في ذلك، بينما طالب ترامب أن تتحمل إسرائيل تلك المصاريف وليس امبركا.

ولا ينبغي أن يعتقد احد أن هذه السياسات الفلسطينية “الحكيمة”عادت بشعور إسرائيلي من الاحترام والتقدير والامتنان على الرئيس الفلسطيني ونظامه وصحبه، بل أن ما حدث عكس ذلك تماما. فخلال السنوات العشر الأخيرة، مثلا، لم يهاتف رئيس وزراء إسرائيل السابق نتنياهو الرئيس عباس أو يتبادل معه كلمة واحدة، وعندما يحتاج لشيء ما منه يرسل إليه مسؤولا امنيا إسرائيليا، لا وزيرا على الأقل، الذي يسارع عباس دوما لاستقباله، دون أن يبدي اهتماما كبيرا بما ينطوي عليه ذلك من مس بمركزه. فإسرائيل تتعامل معه على اعتبار انه ليس إلا مجرد عميل امني لها.

السكوت على هذه الممارسات الإسرائيلية-الفلسطينية المزدوجة بات خطيرا وغير مقبول، ولا يؤدي إلا إلى تعميق صنوف الاضطهاد الفلسرالية، ولا بد من التصدي له. لقد اعتاد الأهالي الفلسطينيون، عندما يسقط شهيد منهم على  القيام بمظاهرات احتجاج  والاشتباك مع الجنود الإسرائيليين، وأحيانا يسقط منهم شهيد آخر أو أكثر خلال مثل تلك الاحتجاجات. ويبدو أن هذا بات غير كاف، إذ لا بد من المواجهة مع الطرفين المجرمين، الإسرائيلي والفلسطيني. فمع مجابهة المحتل ينبغي أيضا تقريع “الحارس” الفلسطيني، وذلك بالتظاهر أمام مقار الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وخصوصا الأمن الوقائي – وان شئتم الوبائي – احتجاجا على تقاعسهم في القيام بواجباتهم، وان دعت الحاجة الاشتباك معهم. وان تطورت الأمور واشتدت لا بأس من الصعود إلى المقاطعة والاحتجاج هناك. لا ضرورة للتعامل بلطف، أو باحترام كبير، مع من لا يبذلون حتى أي جهد لحماية شعبهم.

ولا يعتقدن احد  أن الأوضاع أحسن حالا لدى الرأس الفلسطيني الثاني، ونقصد حماس، إن لم تكن حتى أكثر سوءا. فحماس تعيب على السلطة تمسكها بآفة “التنسيق الأمني” مع إسرائيل، ولا تنفك عن المطالبة بالتخلي عنه، وهي في هذا المطلب المحدد قد تكون على صواب. إلا أن حماس على استعداد للقيام بما هو أكثر رذالة من ذلك.

لقد ضحك الاستعراضي نتنياهو على حماس غزه ولعب بعقول شيوخها، موهما إياهم أنهم قوة تكاد تكون “عظيمة”، ولذلك فانه على استعداد للتعامل معهم مباشرة. وهدف هذا السرسري من ذلك هو شق الصف الفلسطيني بصورة دائمة، لكي يدّعي انه ليست هناك قيادة فلسطينية موحدة، وبالتالي لا يمكن التعاطي مع حلول سياسية إسرائيلية فلسطينية. ولقد ابتلع “المفكرون” الحمساويون الطعم، وراحوا يتحدثون ويعملون على “تهدئة طويلة الأمد” مع إسرائيل، لم ينجم عنها شيء حتى الآن.

إذا كان “التنسيق الأمني” خطيئة نستحق عقوبة السجن فان “التهدئة طويلة الأمد” خيانة عظمى للوطن تستوجب الإعدام، ولا اقل من ذلك. فمثل هذه “التهدئة” تعني ببساطة تقسيم فلسطين والقضاء على أي أمل في تحررها واستقلالها. ,ليس ذلك غريبا على العقل الحمساوي المتأسلم، المتحجر والمتخثر، الذي يعيش في عالم 400 سنة إلى الوراء، يلوك خرافة الخلافة ويتغنى بأمجاد المسلمين القدامى المتبخرة. ومن هذه المنطلقات الهلامية تُلحق حماس بالفلسطينيين إضرارا نكاد خطايا السلطة تضمحل معها. فلدى السلطة يتم قتل الفلسطينيين فرادى، إما لدى حماس فانه بالجملة. خذوا، مثلا، فضيحة “مسيرات العودة” الغزاوية، التي أسفرت عن سقوط عشرات القتلى الفلسطينيين واصابة المئات منهم بعاهات دائمة. هذا الجهد كله توقف فجأة عندما أبلغت حماس بموافقة إسرائيل على دخول حقائب الدولارات القطرية إلى القطاع. فهل يمكن الركون إلى مثل هذا النوع من البشر أو الاعتماد على رجاحة عقولهم؟

ولكن من حسن الحظ، على أي حال، أن الفهلوي نتنياهو عُزل عن سدة الحكم وأرسل للمعارضة. وحكومة إسرائيل الجديدة لا تحب نتنياهو ولا من أحبه نتنياهو، وعلى رأس أولئك حماس؛ وهي بالتالي تميل إلى التعامل مع سلطة عباس وتضييق الخناق على حماس. ولن يمر وقت طويل حتى يدرك الحمساويون المتحمسون أن الدنيا راحت تتغير، مثل تقلبات المناخ الحديثة في زمن الكورونا.

قول قديم يفيد “إن السمكة تتعفن من رأسها”، والرؤوس “القيادية” الفلسطينية تعفنت باكثريتها، وينبغي التفتيش عن من يحل محلها، أو حتى العمل على “إنتاجه”.

بات من الضروري الإعداد لمرحلة ما بعد فتح وحماس. هذه “الكرسته” لن تحرر وطنا أو ترسي لحياة كريمة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *