رشيد الخالدي: “أنتم تعيشون في فقاعة من الوعي الزائف، والساعة تدقّ. خلقتم سيناريو رُعب”

القصة ليست حماس، ولا الدين، ولا هي الإرهاب أيضًا. بروفيسور الخالدي، المثقف الفلسطيني الأبرز في أيامنا، مقتنع بأنّ الإسرائيليين، بكل بساطة، لا يفهمون الصراع. مقابلة.
في 1.5.24، بعد يوم واحد من اقتحام شرطة نيويورك، وسط استخدام القنابل الصوتية، بناية كان يتحصن فيها متظاهرون مناصرون للقضية الفلسطينية في حرم جامعة كولومبيا، خرج بروفيسور رشيد الخالدي إلى بوابة الجامعة لكي يتحدث إلى المتظاهرين. بنظّارتيّ طيّارين ومكبر صوت صغير في يده، بدا المؤرخ المسنّ كأنه في مكانه وملعبه الطبيعيين. “عندما كنتُ طالبًا جامعيًا في الستينات وعارضنا حرب فيتنام والعنصرية، كنا ضمير هذه الأمّة”، يقول للطلاب. “اليوم، لا أحد يذكر أسماء أعضاء الإدارة الذين أدخلوا الشرطة إلى حرم الجامعة في العام 1968. اليوم، تشيد كولومبيا بالطلاب الذين عارضوا الحرب الوحشية. ما فعله طلابنا هنا سيبقى محفورًا في الذاكرة بالطريقة ذاتها. إنهم على الجانب الصحيح من التاريخ”.
يُعتبر الخالدي المثقف الفلسطيني الأكثر أهمية في عصرنا، خليفة إدوارد سعيد ومؤرخ فلسطين الأبرز على قيد الحياة. في الشهر الماضي، اعتزل العمل في جامعة كولومبيا بعد 22 سنة أشغل خلالها، أيضًا، محرر مجلة الدراسات الفلسطينية. في كتابه “حرب المائة عام على فلسطين”، الذي صدر في العام 2020، لخّص الخالدي الصراع من خلال “إعلانات الحرب” الستة على الفلسطينيين. بعض هذه لا يُعتبَر حروبًا في نظر القارئ الإسرائيلي، مثل “وعد بلفور” و”اتفاقية أوسلو”. يصف الكتابُ الدولَ التي أعلنت الحروب ـ بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل، بشكل أساسي ـ بأنها قمعية عظيمة القوة تدوس الفلسطينيين وحقوقهم، المرة تلو الأخرى. هل يجري الحديث، مرة أخرى، عن الفلسطينيين الذين “يتخبطون في ضحويّتهم” (بحسب تعبير الخالدي نفسه، مُدركًا تمامًا للنقد الذي سيثيره وصفه هذا)، أو بمنظور آخر على الأمور؟ إن أردنا الحكم وفقًا لحجم مبيعات لكتاب، فيجدر الانتباه إليه. منذ يوم 7 تشرين الأول 2023، قفز إلى قائمة “نيويورك تايمز” للكتب الأكثر مبيعًا وبقي متربعًا هناك طوال معظم فترة الحرب، على مدى 39 أسبوعًا.
يقول خالدي إن الحرب الحالية ليست 11 أيلول الإسرائيلي ولا هي نكبة جديدة. بالرغم من هول الصدمة وحجم العنف غير العاديين، إلا أنها ليست خارج مسار التاريخ. العكس هو الصحيح: الطريق الوحيدة لفهمها هو في إطار سياق الحرب الدائرة هنا منذ مائة سنة.
الخالدي هو سليل إحدى العائلات الفلسطينية العريقة والمحترمة في القدس. من بين أبنائها سياسيون، قضاة ومتعلمون كثيرون، وتمتد سلالة أنسابها حتى القرن الرابع عشر. في مكتبة العائلة الشهيرة التي أسسها جدّه في العام 1900، في بناية مملوكية من القرن الثالث عشر في الحي الإسلامي، أكبر مجموعة خاصة من المخطوطات العربية في فلسطين: أقدمها يبلغ عمرها نحو ألف سنة. في الشارع نفسه، لا يزال قائمًا منزل آخر تعود ملكيته للعائلة، من المفترض أن يشكل امتدادًا للمكتبة. في الشهر الماضي، اقتحمه مستوطنون واستولوا عليه.
يدمج الخالدي قصص أبناء عائلته في التاريخ الذي يكتبه ويمنح نشاطهم، في بعض الأحيان، دلالة واسعة (كان بيني موريس قد وصف ذلك بأنه “نوع من المحسوبية الفكرية”). أشغل عمّه منصب رئيس بلدية القدس خلال فترة الانتداب البريطاني ثم تم نفيه إلى جزر سيشل في أعقاب الثورة الكبرى. ورفض جدّه في البداية مغادرة منزله في تل الريش في العام 1948. بقي المنزل قائمًا على حاله، عند مشارف حي نفيه عوفر في تل أبيب، بفضل حقيقة استئجار مجموعة “بيلوييم” بعض الغرف فيه في العام 1882 (“بيلو” هي حركة يهودية تأسست نشطت في أواخر القرن التاسع عشر، غذّتها في الغالب هجرة اليهود الروس وكان هدفها الاستيطان الزراعي في فلسطين. كان أعضاؤها معروفين باسم “بيلوييم”، وسعت الحركة إلى إلهام اليهود بالهجرة إلى فلسطين العثمانية ـ ويكبيديا).
إبان “حرب الاستقلال” (1948) كان والده طالبًا جامعيًا في نيويورك والخالدي نفسه وُلد في العام 1948. في مفاصل ومفترقات مختلفة، انضفرت مجريات حياته بمجريات الصراع، موضوع أبحاثه. كان يدرّس في الجامعة الأمريكية في بيروت حين حاصر الجيش الإسرائيلي المدينة؛ بحكم علاقاته مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية، اقتبس مراسلون أجانب غير مرّة تصريحات له بوصفه “مصدرًا مطّلعًا”. بعد وقف إطلاق النار، نظر بارتباك إلى “مشهد سوريالي: قنابل ضوئية إسرائيلية تسقط في العتمة بصمت مطبق فوق جنوب بيروت، وكأنه مشهد أبديّ لا ينتهي”. في الغداة تبيّن أن القصف كان مُعدّا لإضاءة الطريق أمام “الكتائب” في صبرا وشاتيلا.
بين 1991 و1993 أشغل الخالدي منصب مستشار للوفد الفلسطيني إلى مباحثات السلام في مدريد وواشنطن. في وقت لاحق، سجّل انتقاداته على الدور الأمريكي في تلك الاتصالات طيّ كتابه “Brokers of Deceit” (وسطاء الخداع)، حيث قال هناك إن الجهود الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط لم تسفر سوى عن إبعاد فرص السلام. “كان الأمريكيون إسرائيليين أكثر من الإسرائيليين أنفسهم”، يقول الآن. “ان قال الإسرائيليون الأمن، يسجد الأمريكيون ويضربون الرأس بالأرض. والصيغة الأكثر تطرفًا لذلك هي جو ‘الدعاية’ بايدن، الذي يتحدث وكأنه دانيئيل هجاري” (المتحدث الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي). وفي حينه، في العام 1993، رفض حضور مراسم التوقيع على اتفاقيات أوسلو في باحة البيت الأبيض. “لم أكن أعتقد أن من شأنها أن تؤدي إلى أي مكان جيد”، يقول.

وقد أثارت مواقفه المدروسة منذ 7 تشرين الأول (2023) انتقادات بين أوساط الجيل الأصغر سنًّا والأكثر تشددَا بين النشطاء المناصرين للفلسطينيين. “اعتقد أن كثيرين منهم سيختلفون معي حول تشخيصاتي بما يخص العنف”، يقول. “هذا لا يعنيني”. مع بداية الحرب، أوضح بصورة حازمة أن هجوم حماس على مدنيين إسرائيليين هو جريمة حرب؛ في كانون الأول قال لمراسل “نيويوركر” إنه “إذا ما أطلقت حركة لتحرير الأمريكيين الأصلانيين قذيفة آر. بي. جي على البناية التي أعيش فيها لأنني أقيم على أرض مسروقة، فهل يكون هذا عادلًا؟ إمّا إنك تتقبل قوانين الحرب وإمّا لا”.
الخالدي غاضب. أشخاص كانوا على اتصال معه في الأيام التي تلت 7 تشرين الأول قالوا إنه كان مصدومًا. “لقد أثّر هذا عليّ كما على أيّ إنسان لديه علاقات شخصية في المنطقة”، قال لي. “أنا متأثر بهذا على جميع المستويات”. لديه عائلة في غزة، في الضفة الغربية وفي بيروت وطلاب وأصدقاء كثيرون في داخل إسرائيل. عندما سألته إن كان قد فوجئ بمستوى العنف، توقف لبرهة للتفكير. “نعم، فوجئت”، قال، وأضاف: “بردّ الفعل الإسرائيلي، أقلّ من ذلك”. طوال المحادثة معه، برزت الأهمية التي يوليها للمحافظة على قناة اتصال مفتوحة مع الإسرائيليين. لذلك، أيضًا، كانت موافقته على إجراء هذه المقابلة معه. فهذا، في رأيه، جزء لا يتجزأ من الطريق نحو الانتصار.
ما هو الشعور السائد في المجتمع الفلسطيني الآن، حسب رأيك؟
“ثمة درجة كبيرة من الفجيعة والوجع لا تزول، ببساطة. ثمة الكثير من الأشخاص الذين قُتلوا، الأشخاص الذين دمّرت حيواتهم إلى الأبد، الذين حتى لو نجوا فسيعانون من صدمة غير قابلة للعلاج والشفاء. لكن هذا حدث في الماضي أيضًا. 19,000 لبناني وفلسطيني قُتلوا في 1982. إنه لأمر فظيع قول هذا، لكن المجتمع الفلسطيني معتاد على المعاناة والفقدان. كل واحد من الأجيال الفلسطينية ذاق ذلك. أنا لا أعتقد أن هذا يخفف الألم، ولا الغضب والمرارة بالتأكيد. كل شخص من الذين أعرفهم يدأب على مواكبة مستجدات الفظائع والاطلاع عليها في كل صباح بعد استيقاظه وفي المساء قبل خلوده إلى النوم. هذا يرافقنا في حياتنا كل يوم، كل الوقت، بل وحتى عندما نحاول تجنّب التفكير به”.

يقول الخالدي إن “الإسرائيليين يعيشون في داخل فقاعة صغيرة من الوعي الكاذب والزائف الذي يُنتجه لهم الإعلام الإسرائيلي والساسة الإسرائيليون، ولهذا فهم لا يفهمون الرأي العام العالمي. التغيير في الرأي العام يحصل لأن الناس يرون ما يحدث على أرض الواقع فعليًا ويتفاعلون بردود الفعل، مثلما يتفاعل الأشخاص الطبيعيون ويردّون على موت الأطفال”، يقول. “الإسرائيليون لا يرون أطفالًا ميتين. لا يسمحون لكم برؤيتهم. إمّا أنه يجري تأطير الأمر وكأنما هو ذنبُهم هم أو ذنْبُ حماس وإما بكونهم “دروعًا بشرية” أو بأي تفسير كاذب آخر. لكن معظم الناس في العالم يرون ذلك كما هو، على حقيقته. وهم ليسوا في حاجة إلى أكاذيب الجنرال هجاري ليخبرهم بأنّ ما يرونه ليس حقيقيًا”.
ما الذي فاجأك في مستوى العنف في 7 تشرين الأول؟
“على غرار الاستخبارات الإسرائيلية، أنا أيضًا لم أكن أعتقد أن هجومًا كبيرًا وواسعًا إلى هذا الحد كان أمرًا ممكنًا وواردًا في الحسبان. لكن هذا مثل طنجرة الضغط. تزيد الضغط أكثر فأكثر، ليس على مدى عقود من السنين بل على امتداد أجيال. سوف ينفجر هذا، عاجلًا أم آجلًا. يمكن لأي مؤرخ أن يخبرك بأن قطاع غزة هو المكان الذي كانت الوطنية الفلسطينية فيه هي الأكثر تطورًا، وهو المكان الذي أقيمت فيه الحركة السياسية تلو الأخرى. حيال الضغط الذي مورس على الناس الذين تم حشرهم في هذه المنطقة، وبينما يرون قراهم القديمة، تلك التي هُجّروا منها، قبالة أعينهم خلف الخط الأخضر مباشرة، كان من المفترض أن يكون أي مؤرخ قادرًا على أن يتوقع ذلك. وكما تعلم، إنه السبب والنتيجة. لكنني، شخصيًا، لم أتوقع مثل هذا المستوى”.
هل أتيحت لإسرائيل، في يوم من الأيام، فرصة حقيقية للخروج من دائرة إراقة الدماء هذه؟
“لقد سارت إسرائيل في الاتجاه ذاته طوال معظم سنوات القرن الحالي. الإشارة الأخيرة التي صدرت عن حكومة إسرائيلية حول استعدادها للقيام بشيء آخر غير استخدام القوة كانت في عهد إيهود أولمرت، وأنا لا أدّعي بأنها كانت نقطة انطلاق. لكن كل ما عدا هذا الاستثناء، هو الجدار الحديدي منذ جابوتنسكي. القوة والمزيد من القوة. أنت تحاولون إرغام الناس على قبول الواقع الذي عصف بالشرق الأوسط منذ عشرينات القرن الماضي. إنك تقرأ الصحف في مصر، في سوريا وفي العراق في 1910، فتجد أن الناس كانوا قلقين بشأن الصهيونية”.
تستهل كتابك برسالة من أحد أفراد عائلتك، وهو مثقف مقدسي متعدد الأنشطة في القدس، إلى هرتسل في العام 1899. الصهيونية طبيعية ومُحقّة، كتب له، “من يستطيع الاعتراض على حقوق اليهود في فلسطين؟” لكنها أصبحت مأهولة بآخرين، أضاف، لن يقبلوا أبدًا بمحاولة استبدالهم. “باسم الربّ”، كتب، “دعكم من فلسطين”.
“كان يرى ذلك بالوضوح نفسه الذي أراك به أنا الآن. هذا الواقع هو الذي سبب الصدمة، منذ البداية. منذ الثلاثينات، جاء متطوعون من سوريا، من لبنان ومن مصر للقتال. وهذا ما حدث في 1948 أيضًا. أنا أرى ذلك كله هو سلسلة متصلة. بصراحة، أنا لا أعتقد أنه بالإمكان رؤية ذلك بصورة مغايرة. ينبغي أن تتظاهر بأنّ التاريخ بدأ في 7 تشرين الأول 2023، أو في 7 حزيران 1967، أو في 15 أيار 1948. لكنّ التاريخ لا يسير على هذا النحو”.
ومع ذلك، أنت تصف سنة 2006 باعتبارها إمكانية، فرصة، للخروج من دائرة إراقة الدماء هذه. حسب ادعائك، فقد قامت حركة حماس باستدارة مفاجئة إلى الخلف، شاركت في الانتخابات لمؤسسات السلطة الفلسطينية وقادت خلالها حملة معتدلة، الأمر الذي يعني اعترافها، غير المباشر، بحل الدولتين. “وثيقة الأسرى” من تلك الفترة، والتي دعت إلى انضمام “حماس” و”الجهاد الإسلامي” إلى منظمة التحرير الفلسطينية وتركيز النضال في المناطق الواقعة خلف الخط الأخضر، عبّرت عن روح مماثلة. هل تؤمن أنت بأن حماس كانت آنذاك في ذروة عملية تحوّل صادقة كان بإمكانها أن تؤدي، مستقبلًا، إلى وقف العنف وإنهائه؟
“لا سبيل لديّ للوصول إلى قلوب وعقول قادة حماس. ما أستطيع قوله هو أنه في إطار تشكيلة واسعة من الآراء، كان لذلك صدى انعكس في عدد من التصريحات ولدى عدد من القادة. وفي رأيي، هذا يشمل، أيضًا، فترة ما قبل “وثيقة الأسرى” وحكومة الوحدة الوطنية في العام 2007، أو ربما حتى الشيخ أحمد ياسين الذي تحدث عن مائة عام من الهدوء. هل كان هذا يمثل الجميع؟ لا أعلم. ما الذي كان في قلوبهم؟ لا أعلم. لكن يبدو أنه كان هنالك شيء ما اختارت إسرائيل أن تسحقه بعناية”.
“لقد وضع الأيرلنديون استراتيجية. وكذلك فعل الجزائريون والفيتناميون. لكنّ الفلسطينيين لم يفعلوا ذلك. عدم التعامل مع الجمهور الإسرائيلي من فوق رأس قيادته، وعدم التعامل مع الولايات المتحدة وأوروبا. الأيرلنديون لامعون. الجزائريون أذكياء جدًا. الفيتناميون عباقرة. الفلسطينيون ليسوا أذكياء تمامًا”.
كيف تفسّر ذلك؟
“من الواضح تمامًا أنه ضمن التشكيلة السياسية الإسرائيلية، من النقيض إلى النقيض، لم يكن هنالك قبول لسيادة واستقلال فلسطينيين كاملين. من جانب نتنياهو ومعسكره، كان هذا واضحًا، لكن حتى رابين، في خطابه الأخير في الكنيست، تحدث عن “أقل من دولة” مع سيطرة على منطقة غور الأردن. ما معنى هذا؟ استمرار الاحتلال بصورة أخرى، مختلفة. من حيث المبدأ، هذا هو ما عرَضَه براك وأولمرت أيضًا، مع تعديلات طفيفة”.
في المراحل النهائية، في طابا، في أنابوليس، جرى الحديث عن سيادة.
“اعذرني، في دولة سيادية لا تتحكم قوة خارجية، أجنبية، بسجلّ السكان. ولا بالمجال الجوّي أيضًا، أو بمصادر المياه. هذه ليست سيادة، هذا بانتوستان، محميّة للهنود الحمر (الهنود الأمريكيين/ الأمريكيين الأصليين)، يمكنك أن تسمّه ما تشاء. دولة مصغَّرَة، دولة جزئية، أو ‘أقل من دولة'”.
لعلّ الاستعداد كان سيتطور لاحقًا. خطاب رابين جاء تحت ضغط سياسي هائل.
“ربما، لو لم يكن هناك 750,000 مستوطن، ولم يتم اغتيال رابين، والظروف السياسية كانت مختلفة، ومنظمة التحرير الفلسطينية كانت أكثر حزمًا. في واشنطن، قلنا للأمريكيين إننا نجري مفاوضات حول الكعكة بينما يقوم الإسرائيليون بالتهامها، بواسطة الاستمرار في بناء المستوطنات. لقد قدمتم ضمانات للمحافظة على الوضع القائم، وها هم يسرقون. لم يفعل الأمريكيون أي شيء. في هذه النقطة، كان ينبغي أن يكون واضحًا أننا إن لم ندافع عن موقفنا، فسيستمر الاستعمار والاحتلال بصورة أخرى، مختلفة، وهذا ما فعلته اتفاقيات أوسلو. يكمن جزء من المشكلة في أن الفلسطينيين قبلوا في أوسلو الأمور الفظيعة ذاتها التي عُرضت علينا في واشنطن. لقد أعطوا إسرائيل 60 بالمائة من الضفة الغربية، في إطار منطقة C. كانت تلك تنازلات قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية وهذا ليس ذنْب إسرائيل. لم يكن يتعين على أية قيادة فلسطينية القبول بمثل تلك الاتفاقيات”.
أحد زملائك، بروفيسور شلومو بن عامي، تحدث عن قمة كامب ديفيد باعتبارها فشلًا للقيادة الفلسطينية. في مقابلة من العام 2001، قال إن الفلسطينيين لم يتمكنوا من التحرر من الضحوية، إن عرفات لم يكن يقول سوى الخرافات وإنّه “أكثر من رغبتهم في أن تكون لهم دولة خاصة بهم، كانوا يرغبون في إدانة دولتنا”. هل من المحتمل أنه قد تم في نهاية المطاف، في لحظة الحقيقة، إهدار الفرصة التاريخية بسبب قيادة عرفات؟
“أنت تريد النزول معي إلى الحشائش، بينما أنا أريد النهوض والنظر إلى الحديقة العفنة. هنالك رئيس أضاع سبع سنوات ونصف السنة من فترة ولايته الرئاسية وفي شهر أيلول، قبل شهرين من موعد الانتخابات، جلبَ أشخاصًا إلى كامب ديفيد. لم يكن بطة عرجاء، بل كان بطّة ميتة. تريد أن تكون وسيطًا؟ فلتفعل ذلك في نطاق الوقت الذي حدّدته الاتفاقية التي وقعتَ عليها في العام 1993. كان براك قد فقد الأغلبية التي كانت تتوفر له في الكنيست، بطة أخرى تحتضر. وعرفات، أين كان في سنة 2000؟ أنا كنت أعيش في القدس في بداية التسعينات. كان بإمكانك أن تسافر إلى أي مكان بسيارة تحمل لوحة ترخيص خضراء اللون، إلى الجولان، إلى إيلات وإلى غزة. كان هنالك 100,000 عامل في إسرائيل. كثيرون من الإسرائيليين كانوا يشترون بضائعهم من مختلف أنحاء الضفة الغربية. في العام 1999، توقف الاقتصاد الإسرائيلي. تصاريح، حواجز، أسوار، حظر تجول، فصل، تحطمت شعبية عرفات”.
“السؤال ‘لماذا لم يستغل الفلسطينيون الفرصة التي أتاحها الانفصال’ هو سؤال غبي يطرحه أشخاص يحاولون تبرير رواية كاذبة. لقد بقي قطاع غزة خاضعًا للاحتلال. المجال الجوي، البحري، جميع المداخل والمخارج، أي تصدير وأي استيراد، سِجِلّ السكان ـ جميعها بقيت في أيدي إسرائيل! ما الذي تغير؟ إخراج المستوطنين؟ دوف فايسغلاس، مستشار شارون، قال إن الهدف كان وضع العملية السياسية في حالة تجميد تامة. هل تحسبون أننا لا نستطيع قراءة ما يُكتَب بالعبرية، بحق الله؟”
أنت تتحدث عن تدهور أوضاع الفلسطينيين خلال التسعينات، لكنّ فصلًا مهمًا ومؤلمًا في تلك السنوات، والذي تصفه أنت أيضا في كتابك بصورة عَرَضيّة، هو التفجيرات الانتحارية التي وقعت في 1994-1996.
“لقد بدأ الفصل قبل التفجير الانتحاري الأول. كانت فكرة الفصل محورية في الطريقة التي فهم بها رابين وبيرس العملية منذ بدايتها، وكان الفصل يعني تسييج الفلسطينيين في جيوب صغيرة وفصلهم عن الاقتصاد الإسرائيلي. لقد تم التخطيط لهذه الأمور كلها مسبقًا، مع سبق الإصرار. أما عذر التفجيرات الانتحارية، فهو يفسر التفاصيل، وليس الفكرة”.
وشكّلَت عاملًا هامًّا في إحباط العملية.
“تذكّر ما سبق التفجيرات الانتحارية”.
باروخ غولدشطاين؟
“تعم، وما فعله رابين أيضًا عقب المجزرة. فهو لم يقتلع كريات أربع ولم يُخرج المستوطنين من الخليل ولم يعاقب المذنبين، بل عاقب الفلسطينيين، فاتضح معنى أوسلو: توسيع الاحتلال وتعزيزه. استغلت حماس الوضع، إذ رأت أن كل الرزمة التي حاول عرفات تسويقها بين الفلسطينيين لم تسِر في الاتجاه الصحيح والمرغوب. وهذا منح حماس ورقة عظيمة الأهمية، بالإضافة إلى جميع الأمور الأخرى التي حصلت. تردّت أحوال الفلسطينيين من سيء إلى أسوأ خلال التسعينات، الأمر الذي زوّد حماس بذخيرة هائلة. ولو عدنا إلى الوراء فسوف نجد أنه منذ 1973 حتى 1988 تراجعت منظمة التحرير الفلسطينية عن موقفها بشأن تحرير كل فلسطين وابتعدت عن استخدام العنف. هذا كله تجده مُلخَّصًا في بيان المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر في العام 1988. كان ثمة من عارض ذلك، وجدوا أنفسهم لاحقًا في صفوف حماس، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما. كيف يمكن للمجموعة الأولى أن تفوز؟ كان لزامًا عليهم تقديم شيء ما لمؤيديهم، دليل ملموس ما على أن نهجهم فعال ويؤتي ثمارًا. لكنهم لم يقدموا لجمهورهم أي شيء. لا شيء، على الإطلاق. وازداد الوضع سوءًا وأصبح أسوأ حتى من الوضع الذي كانوا يعيشونه في أوائل التسعينات. وعندئذ، سيحظى أولئك الداعون إلى الكفاح المسلح والتحرير الكامل بالتأييد، بالطبع. من جانب إسرائيل، يبدو أنها ليست على استعداد للإفراج عن الأرض، السكان، سجلّات السكان، الأمن، الجسور، والشاباك الذي يدفع أصابعه في أنوف الجميع. هذه هي الأشياء التي لن يتخلوا عنها، وهذا أكثر أهمية من هذه الخرافات والأساطير أو تلك التي لم يطلقها عرفات”.
السؤال هو ما إذا كانت القيادة الوطنية الفلسطينية في التسعينات قد فهمت أن “التحرير” بحاجة إلى سيرورة سياسية ـ حزبية إسرائيلية داخلية تتطلب مزيدًا من الوقت، وعندما يحصل تفجير في قلب تل أبيب، يخسر هذا الخيار الانتخابات.
“أعلم أن التفجيرات أثّرت بصورة عميقة على الرأي العام الإسرائيلي، لكن هذا ليس الموضوع حقًا. إذا كان المُحتلّ يريد تفكيك الاستعمار، فينبغي عليه أن يقرر أن يفعل ذلك. ثمة طريقان لدفعه لأن يفهم هذا. عندما يصبح الثمن باهظًا جدًا ويتغير الرأي العام الداخلي، أو عندما يجد الواقع تحت الاحتلال استراتيجية تعمل على عدة مستويات. الإيرلنديون وجدوا استراتيجية كهذه. وكذلك الجزائريون والفيتناميون. أما الفلسطينيون، فلم يجدوا، لأسفي. لا للتعامل مع الجمهور الإسرائيلي من فوق رأس قيادته، ولا للتعامل مع تجمعكم الحضري، الذي يتمثل في الولايات المتحدة وأوروبا، التي بدونها لا وجود لكم كدولة مستقلة. الإيرلنديون لامعون. الجزائريون أذكياء جدًا والفيتناميون عباقرة. الفلسطينيون ليسوا أذكياء تمامًا. إن كنتَ تريد نقدي للقيادة الفلسطينية، فهذا هو النقد”.
تفسيرك لصعود حماس هو مادي بالأساس: لقد تسبب البديل الدبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بتدهور الظروف المعيشية وازديادها سوءًا، ترك فراغًا في المعسكر المتشدد، إليه دخلت حماس. لكن ما هو مكان الدين وتطلعات الإسلامية في المجتمع الفلسطيني؟
“الدين هو عنصر هام في الوطنية الفلسطينية منذ بداياتها، غير أن شعبيته تتغير. في الفترة التي شهدت ذروة منظمة التحرير الفلسطينية، كان الإسلاميون ضعفاء جدًا، ولم يكونوا موجودين تقريبًا من الناحية السياسية الداخلية. وعليه، لكي تقول إن المجتمع الفلسطيني هو إسلاميّ أو إسلامويّ بشكل عميق، ينبغي عليك أن تحكي عن عقود عديدة لم يكن هذا هو الوضع السائد فيه. لم تفز حماس يومًا، ولا مرة، بأغلبية بين الفلسطينيين. في العام 2006 فازت بـ 43 بالمائة. أعرف مسيحيين في بيت لحم صوتوا لها، فقط لأنهم ملّوا من “فتح”. ولهذا، أنا أعتقد أنه حتى هذه النسبة لا تمثل شعبيتهم في حينه”.
أنت تنتقد إسرائيل بسبب تغاضيها عن إمكانية أن تكون حماس قد تغيرت خلال تلك السنوات. لكنّ إسرائيليين كثيرين يسألون أنفسهم، لماذا لم يستغل الفلسطينيون الفرصة التي هيّأتها لهم عملية الانفصال للتحقيق تطور اجتماعي ولخلق بديل سلميّ؟
“لأن الاحتلال لم ينته. هذا سؤال غبي جدًا يطرحه أشخاص يحاولون تبرير رواية كاذبة تمامًا. لم يكن قطاع غزة مفتوحًا يومًا، أبدًا، بل كان محتلًا على الدوام. المجال الجوي، المجال البحري، كل المداخل والمخارج، أي استيراد وأي تصدير، سجل السكان ـ كلها بقيت في أيدي إسرائيل! ما الذي تغير؟ تم إخراج بضعة آلاف من المستوطنين، وبدلًا من أن يكون الفلسطينيون في سجون صغيرة في داخل القطاع، انتقلوا إلى سجن واحد كبير. هذه ليست نهاية الاحتلال، بل هي عملية تعديل/ تحوير للاحتلال. هذه ليست نهاية الاستعمار. تركوا غزة لكي يعززوا الضفة الغربية. دوف فايسغلاس، مستشار شارون، قال إن الانفصال كان يعني وضع العملية السياسية في حالة تجميد. هل تحسبون أننا لا نستطيع قراءة العبرية، بحق الله؟”.
“فوجئت في السابع من تشرين الأول. كان يتعين عليّ أن أكون قادرًا على توقع العدد الهائل من القتلى. مع الضغط الذي مورس على الناس الذين حُشروا في هذه المنطقة، بينما هم يرون قراهم القديمة خلف الخط الأخضر. هذا هو السبب والنتيجة، كما تعلم. لكنني لم أتوقع مثل هذا المستوى من العنف”
“الدولة تعني السيادة. ومعنى السيادة هو ليس أن يتحكّم جيش غريب بسِجِلّ السكان الخاص بك. فكِّر في الأمر لحظة. هذا أشبه بأن تكون موسكو هي المتحكّمة بالمسح السكاني في الولايات المتحدة. بجدّية؟ أن القرار بشأن التصدير والاستيراد يُتَّخَذ من قبل جندي برتبة عريف أول أو موظف ما في تل أبيب؟ هل هذا جدّيّ؟ ومن المفترض بالفلسطينيين أن يقولوا هيا بنا نبني هنا مدينة فاضلة مثالية ولطيفة في داخل السجن؟ ما هذا الهراء؟”.
ما رأيك بالكفاح المسلح، من الناحية الأخلاقية؟
“تعال نبدأ من أنّ العنف هو عنف. سواء كان عنف دولة أو عنف منظمة غير دولتية. إن لم نقبل بهذه المبادئ ونتفق عليها، فلن يكون بإمكاننا التحدث. عنف المُحتل هو أكثر كثافة وقوة، بعشرات الأضعاف، من عنف الخاضع للاحتلال. فإن كنا نريد الحديث عن العنف، فلنتحدث عن العنف إذًا. وإن كنا نريد التركيز على إرهاب الفلسطينيين وعنفهم فقط، فنحن لا نتكلم باللغة ذاتها إذًا. نقطة الانطلاق الثانية هي أنه منذ الحرب العالمية الثانية، من المتفق عليه ـ من الناحية القانونية ـ أن من حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال استخدام كل الوسائل من أجل التحرر، ضمن حدود القانون الإنساني الدولي. والقصد هنا هو التناسبية والتمييز ما بين المقاتلين والمدنيين. هذه ليست الأخلاق، بل هو القانون الدولي. لكنه يسري على الطرفين. عندما تهدم بناية بأكملها لكي تقتل ناشط حماس واحدًا في جباليا، فقد ألقيت مبادئ التمييز والتناسبية من النافذة، بكل وضوح. من الذي بدأ؟ ليست هذه هي المسألة. هذه المبادئ لا تقول إنك معفيٌّ من الالتزام بهذه القوانين، إذا كان الطرف الآخر هو الذي بدأ. وفي النهاية، هنالك الجانب السياسي من العنف، وهو يتعلق بالطريقة الأمثل والأكثر حكمة لتحقيق أهدافك”.
في هذا الصدد، أنت تقتبس في كتابك ما قاله إقبال أحمد، المثقف الباكستاني الذي عمل سوية مع فرانتز فانون وجبهة التحرير الوطني الجزائرية (FLN). فقد طلبت منه منظمة التحرير الفلسطينية في بداية الثمانينات تقييم استراتيجيتها العسكرية فقال إنه خلافًا لحالة الجزائر، استخدام القوة من جانب الفلسطينيين من شأنه فقط أن يعمق من شعور الضحية لدى الإسرائيليين وأن يساهم في توحيد مجتمعهم ورص صفوفه.
“صحيح، وهذا أمر في غاية الأهمية. أنا أدّعي بأنّ وضع قنبلة في مقهى فرنسي هو انتهاك للقانون، الأخلاقي والقانوني على حد سواء. وقد فعلت ذلك جميلة بوحيرد وزهرة ظريف، بطلتان من أبطال الثورة الجزائرية. على الصعيد السياسي، الأمر قابل للنقاش. لأنه في نهاية المطاف، ثمة للمستوطنين الفرنسيين مكان يعودون إليه. هم يعانون ممّا أسمّيه “الخوف الاستعماري”: إنهم مرعوبون من “السكان الأصليين”، لأن السكان الأصليين أكثر منهم بكثير وهم يعلمون أنهم يكرهونهم. لكنهم لا يعانون من خوف الملاحَقة والاضطهاد الموروث. ليست لديهم سردية مُجنَّدَة يُفهم أي هجوم عليهم، بموجبها، في هذا السياق، بدلًا من السياق الجزائري المحلي. وفي نهاية المطاف، ينجح ها العنف. من الناحيتين الأخلاقية والقانونية، الموقف تجاه العنف العشوائي ـ الذي لا يميز بين المقاتلين والمدنيين ـ هو أسود وأبيض، لكنه رماديّ من الناحية السياسية. يقول إقبال أحمد إنه بسبب طبيعة التاريخ اليهودي، استراتيجية العنف العشوائي تعود بالضرر من الناحية السياسية”.
كيف تقيّم نجاح “حركة المقاطعة، سحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (BDS)؟
“قبل عشرين عامًا، كان من الصعب جدًا تمرير قرارات مؤيدة لحركة BDS في الجامعات الأمريكية. أما اليوم، فهي تُقرّ بسهولة. ثمة تغيير، إذًا. لكن، تم فرض القليل جدًا من المقاطعات، ولم تُتخَذ أية عقوبات وتم تحويل القليل جدًا من الاستثمارات”.
هو فَشَلٌ، إذًا.
“كلّا! المسألة هنا هي أن الرأي العام قد تغير. كان هدف الـ BDS فتح موضوع لم يكن الطرف الآخر يرغب في فتحه. لماذا يصف الإسرائيليون كل من يجرؤ على الحديث عن الإبادة الجماعية بأنه معادٍ للسامية؟ لأنهم لا يملكون الحجج، لذلك يغلقون للطرف الآخر فمه بأكثر الاتهامات سمّيّة في العالم الغربي. الفكرة، كما رأيتها أنا، لم تكن بقصد تحقيق العقوبات والمقاطعات فعليًا، وإنما كرافعة لمناقشة الموضوع ومعالجته. من هذه الناحية، هو نجاح عظيم. وقد بدأنا نرى الآن أن الهولنديين، الألمان، الإسبان والكنديين يفرضون قيودًا على إمداد إسرائيل بالذخيرة. هذه نتيجة للتغيير في الرأي العام في الغرب. وقد حدث هذا، إلى حد كبير، في أعقاب الـ BDS.

كداعمٍ لـ BDS، ألم يكن إشكاليًا بالنسبة لك إجراء مقابلة مع صحيفة إسرائيلية؟
“كلا، فقد نشرتُ كتبًا في إسرائيل، وفي رأيي، إنه من المهم الوصول إلى الجمهور الإسرائيلي. لا يمكن الانتصار، لا يمكن إحداث التغيير، بدون فهم كيفية التوجه إلى الرأي العام ومخاطبته من فوق رؤوس الحكومات وماكينة البروباغندا، سواء في الولايات المتحدة أو في إسرائيل”.
أنت تورد أمثلة الجزائريين والفيتناميين الذين لم يتخلوا عن فرصة إقناع الرأي العام في دولة العدو بعدالة قضيتهم، وتدّعي بأنّ هذا الأمر كان حاسمًا في انتصارهم. ما الذي ينبغي على الفلسطينيين القيام به من أجل إقناع الإسرائيليين، إن كان هذا ممكنًا أصلًا؟
“هذه إجابة سيتعين على حركة وطنية فلسطينية موحدة ذات استراتيجية واضحة أن تقدمها. إحدى المشاكل التي تواجهنا اليوم هي الانقسام وغياب حركة واستراتيجية موحدتين. لا يمكن تحرير أي شيء بدون هذين العنصرين. الدبلوماسية العامة هي أمر ضروري بالتأكيد ـ يمكنك تسميتها إعلامًا أو بروباغندا. لا ينجح أي نضال تحرري إلا بفضل هذا. لو لم يكن هذا متوفرًا لجنوب أفريقيا، لكان الأبارتهايد مازال مستمرًا حتى الآن”.
أين مكان المغتربين الفلسطينيين في الفراغ القيادي، وخاصة المثقفين من أمثالك؟
“أعتقد بأنه سيكون للمغتربين وللجيل الشاب، الذي انخرط تمامًا ويفهم الثقافة السياسية الخاصة بالدول التي يعيش فيها، دور هامّ في المستقبل. أما دور جيلي أنا، فقد انتهى إلى حدّ ما، بمن في ذلك أنا شخصيًا. ما زلنا غير قادرين على الاستفادة من المواهب والقدرات السياسية المتوفرة لدى الجيل الشاب. سوف يحصل هذا قريبًا، كما آمل. لكن هذا يتطلب وجود حركة وطنية منظمة وموحدة”.
ماذا عن حكومة في الشتات؟
“تاريخيًا، كانت القيادة في الشتات بشكل دائم. أحد الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها عرفات كان أخذ منظمة التحرير الفلسطينية بأكملها ووضعها في قفص الاحتلال. مَن يفعل أمرًا كهذا؟ كانوا يائسين جدًا يتوقون إلى الخروج من تونس بسبب الخطأ الذي ارتكبوه بدعمهم صدام حسين في 1990- 1991، لدرجة أنهم كانوا مستعدين للقفز من المقلاة إلى قلب النار. كان ذلك خطأ فادحًا. من الذي يضع كل القيادة تحت سيطرة جيش إسرائيل وأجهزتها الأمنية ـ الاستخبارية؟ هذا عصيٌّ على الفهم، حقًا. نعم، إذًا، ستكون هنالك حاجة إلى الشتات ويمكن الافتراض أن القيادة ستكون، في نهاية المطاف، موزعة بين الداخل وبين الخارج، كما كان في الجزائر”.

في حركة معارضة الأبارتهايد، كان التعاون مع البيض الجنوب أفريقيين عاملًا حاسمًا. ما الذي يمكن فعله من أجل توسيع التحالف بين اليهود والفلسطينيين؟
“هذا سؤال صعب. بين كثير من الفلسطينيين، وخصوصًا من الشباب، هنالك معارضة لما يسمّونه “التطبيع”، وهذه المعارضة تمنعهم من العثور على حلفاء في الطرف الآخر. في نهاية المطاف، لا يمكن الانتصار بدون حدوث هذا. إنه نضال أشدّ صعوبة من أي نضال تحرري آخر، لأنّ هذا ليس مشروعًا استعماريًا يمكن للناس فيه أن يعودوا إلى ديارهم. ليس ثمة بيت. اليهود في إسرائيل منذ ثلاثة أو أربعة أجيال. لن يذهبوا إلى أي مكان. فالأمر، إذًا، ليس مثل أن تتوجه إلى الفرنسيين فيقومون بإعادة مستوطنيهم إلى ديارهم. إنه يشبه حالة إيرلندا وجنوب أفريقيا أكثر، بحيث أنّه ينبغي عليك تقبّل ما تراه مجموعة سكانية منفصلة قد ضربت جذورها في المكان وطوّرت هوية جماعية”.
ومع ذلك، أنت تحلل هذا الصراع باعتباره من حالات الاستعمار الاستيطانيّ.
“أنت تسمع ما يقوله اليمينيون في الحكومة الحالية عن غزة وترى ما يفعلون في الضفة الغربية، كيف نهبوا أراضي السكان وكيف حاصروها في الجليل والمثلث بعد 1948. إن لم يكن هذا استعمارًا استيطانيًا، فأنا لا أعرف ما هذا. لكنّ الصهيونية بدأت كمشروع قومي، ثم وجدت لها راعيًا واستخدمت وسائل الاستعمار الاستيطاني. هذا فريد من نوعه. لم يبدأ أي من المشاريع الأخرى كمشروع قومي. يكون نموذج الاستعمار الاستيطاني مفيدًا حتى نقطة معينة فقط، وإسرائيل هي الحالة الأكثر فرادة التي يمكن تخيّلها: بدون دولة أم، جاء كل السكان تقريبًا نتيجةً للملاحقة والاضطهاد، وهنالك الصلة بالأرض المقدسة، التوراة، في سبيل الله”.
أنت تبحث، ضمن ما تبحث، نقل المعرفة حول طرق القمع والاضطهاد بين المستعمَرات، وتصف كيف تبنى القادة الصهيونيون ممارسات استعمارية من البريطانيين. ماذا وجدتَ هناك؟
“هذا ما أعمل عليه الآن. في الواقع، ينقل البريطانيون إلى فلسطين كامل الشرطة البريطانية من إيرلندا، بعد حصولها على استقلالها. وعنما تبدأ الانتفاضات، يُحضرون خبراء من أماكن أخرى أيضًا. الجنرال مونتغومري، الذي تولى قيادة اللواء في كورك في العام 1929 (حيث تم تنفيذ عمليات انتقامية ضد المتمردين الإيرلنديين)، كان يقود لواء في فلسطين في العام 1938. وهم يأتون بالسير تشارلز تيجارت، الذي كان قد خدم في الهند وفي إيرلندا، وأنشأ مراكز للتعذيب هناك. وأحضروا أيضًا شابًا يعرفه كل خبير عسكري إسرائيلي عن كثب: أورد وينغيت، والد العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
“أورد وينغيت هو والد العقيدة العسكرية الإسرائيلية. وبحسب الشهادات، كان مختلًا عقليًا دمويًا. قاد غارات ليلية، إطلاق نيران على الأسرى، أعمال تعذيب، تفجير منازل على ساكنيها، أمور فظيعة. درّب ضباطًا كبارًا كثيرين في الجيش الإسرائيلي، فكان موشي ديان أحد تلاميذه. وكذلك يتسحاق سديه ويغئال ألون. أي خبير عسكري إسرائيلي يعرفه عن كثب”
في مقابلة مع “New Left Review” وصفتَهُ بأنه قاتل استعماري متوحّش.
“لقد خدم في السودان والله وحده يعلم ماذا فعل هناك. أحتاج إلى البحث والدراسة أكثر لمعرفة ذلك. في فلسطين، أقام السرايا الليلية الخاصة وأخرج إلى حيز التنفيذ حملة من الاقتحامات الليلية. الهجمات على القرى. إطلاق النيران على الأسرى، أعمال التعذيب، تفجير المنازل على ساكنيها. أمور فظيعة. ووفقًا للشهادات المتوفرة، فقد كان مختلًا عقليًا دمويًا. موشي ديان هو أحد تلاميذه. وكذلك يتسحاق سديه ويغئال ألون. نحو 12 ضابطًا كبيرًا في الجيش الإسرائيلي، معظمهم برتبة لواء، تدربوا على يديّ هذا الشخص. عقيدة الجيش الإسرائيلي ـ وينغيت هو مصدرها”.
تختُم كتابك بالاستنتاج الجازم بأنّ الصراعات مع الاستعمار الاستيطاني انتهت، حتى الآن، بثلاث طرق فقط: إبادة السكان الأصليين، أو استعبادهم التام، كما حصل في أمريكا الشمالية، هزْم المُحتل وطرده من البلاد، كما حصل في الجزائر، والتنازل عن الفوقية الاستعمارية في إطار تسوية ومصالحة، كما حصل في جنوب أفريقيا، زيمبابوي وإيرلندا. في أي اتجاه نسير نحن؟
“إبادة طرفٍ لطرف آخر هو أمر مستحيل. بالنسبة للطرد، أعتقد أن هذا ممكن، لكنه غير مُرجّح. ثمة هنا شعبان. إما أن تستمر الحرب وإمّا أن يتوصلا إلى تفاهم بأنّه يتعين عليهما العيش على قاعدة المساواة التامة. هذا ليس جوابًا متفائلًا جدًا، لكنه الجواب الوحيد. وأريد أن أضيف أن الحرب الحالية قرّبَت هذا الحلّ، لأن الرأي العام العالمي انقلب ضد إسرائيل بشكل لم نشهده منذ وعد بلفور. لقد كان الجمهور الغربي داعمًا لإسرائيل على الدوام، باستثناءات معدودة: في 1982، حين رأى الكثير من المباني المُدمَّرة والأطفال المقتولين، وفي الانتفاضة الأولى، حين رأى الكثير من الدبابات في مواجهة أطفال يرشقون الحجارة. وما عدا ذلك، كان الدعم شاملًا مطلقًا طوال أكثر من مائة سنة. لكن هذا تغير الآن. هذا ليس وضعًا غير قابل للعكس ولا ردعة عنه، لكنّ الساعة تدق والوقت يمرّ. لقد خلقت إسرائيل لنفسها سيناريو رُعب”.
ثمة أجنحة في اليسار الإسرائيلي تتخيّل وتشتهي حلًا مفروضًا بالإكراه، من الخارج. هل هذا ممكن؟
“سيصبح هذا ممكنًا عندما تتبدّل المصالح الأمريكية في فلسطين. فقد فرضت الولايات المتحدة على إسرائيل في السابق العديد من الأمور حين كان ذلك يمس مصالحها الاستراتيجية، الوطنية أو الاقتصادية”.
كما في الحرب الباردة، على سبيل المثال.
“صحيح. لقد فرض كيسنجر اتفاقيات على الحكومة الإسرائيلية. وفرض جيمس بيكر (وزير الخارجية في إدارة جورد بوش الأب) على يتسحاق شمير المشاركة في مؤتمر مدريد. وفرض باراك أوباما الاتفاق النووي مع إيران، وفرض أيزنهاور الانسحاب من سيناء. إنه مجرد سوء حظ أن فلسطين لا تمثل مصلحة وطنية أمريكية ذات أهمية. الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي تقمع الرأي العام لديها وتضطهد مواطنيها وتخنع أمام الولايات المتحدة، لأنها بحاجة إلى حمايتها من شعوبها ومن أعداء خارجيين. إن تغير شيء ما وأصبح الوضع في إسرائيل مُضرّا للمصالح الأمريكية، فقد يؤدي ذلك إلى فرض حل. لا أستطيع حبس أنفاسي”.

الجيل الشاب من النشطاء المناصرين للفلسطينيين في الولايات المتحدة وجّه إليك انتقادات على آرائك بشأن العنف. ماذا تقول عن ذلك؟
“ليس لديّ أي تعاطف مع العنف، لكن من الواضح لي أن العنف شكّل عنصرًا إلزاميًا وضروريًا في أي نضال من أجل التحرر. وجهة النظر السائدة في إسرائيل تقول إنه إذا لم تنجح بالقوة، فعليك أن تحاول باستخدام المزيد من القوة. أنت تطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان فيأتيك بدلًا منها حزب الله. تقوم باغتيال (عباس) الموسوي فيأتيك مكانه (حسن) نصر الله. تغتال نصر الله ـ حظًا سعيدًا بمن ستحصل عليه. هذه هي طبيعة العنف الاستعماري، أنه يولّد المقاومة. ليت المقاومة كانت عاقلة، استراتيجية، وفي الوضع المثالي ـ أخلاقية وقانونية، أيضًا. لكنها لن تكون كذلك، أبدًا، كما يبدو.
ما الذي تودّ أن يفهمه الإسرائيليون بصورة أفضل؟
“عليهم أن يفهموا كيف يرى الفلسطينيون، والعالم أجمع، الوضع. إنه يرون ذلك منذ البداية باعتباره محاولة لإنشاء دولة يهودية في بلد عربي. هذه ليست مجموعة من اللاجئين السذج الذين جاؤوا إلى بلاد آبائهم وتعرضوا فجأة لهجوم من قبل متوحشين. وصولهم إلى هنا والهياكل التي جاؤوا بها هي التي تخلق الصراع. هل كان ثمة صراع يهودي ـ عربي في فلسطين خلال القرنين الـسابع عشر والثامن عشر؟ لا. عليكم أن تضعوا هذه الصيغة التاريخية التبريرية جانبًا. عليكم أن تفهموا كيف يرى العالم، والرأي العام الغربي الآن أيضًا، هذا الأمر. لا تزال هناك النُّخَب التي ستدعم كل ما تفعله إسرائيل، لكنّ الساعة تدقّ، وثمة شيء يغلي تحت السطح”.
عن هآرتس بالعربي