رسالة تأملات في الأمومة

عيد ميلاد غدي الخامس عشر -6.6.2021

على هذه الأرض ما يستحق الحياة،

ولادة غدي، تتلوها ولادة رواد،

بولادتكما ولدت أُماً عرفت معنى وجودها، ومن خلالكما رُسمت تضاريس أمومتها.

ومع كل ولادة جديدة، بداية جديدة، ومع كل أمومة تجربة جديدة، تولد بسياقات ثقافية، وتاريخية، ووجودية مختلفة.

06.06.06 هو تاريخ مميز يا بُني غدي. ليس فقط لأن التاريخ نفسه مميز، لا بل لأنّ الماما أصرت، ذهنيًا، أن تلدك فيه. وقد كان ذلك فعليًا حين نوّرت عالمنا (أنا وأباك) بولادة طبيعية، وبعد نهار ونصف! إنه لحدث مفصلي. حدث مفصلي أعلنت لنا فيه عن ولادة حب جديد، حب عفوي ولد مع لحظة ولادتك. حب فتح آفاقًا جديدة للحياة، أصبح فيها الأمل ليس مادة فقط، بل أفقًا نعيشه معك ومن أجلك؛ أمل لحياة جديدة أصبح وجودك فيها استدراجًا للمعاني. هي ولادة خلقت مشاعر لم تألفها لغتي السابقة، وغديت بحاجة لمعاجم جديدة ومعاني جديدة للوجود. ولادة خلقت إحساسًا لم  يسبقه إحساس، ورعشة في القلب لم تسبقها رعشة.

الأمومة ليست حدثاً مفهوماً ضمناً يا بني. الأمومة  أو الأبوة حدث مؤسس في تجربة كل امرأة ورجل، والد أو والدة، فكم بالحري عندما تكون الأمومة فلسطينية منزوعة الحق في الوجود، وتصارع يومياً على حقها فيه، وحين يعجّ تاريخنا وحاضرنا بالأحداث السياسية والمفاصل الحرجة التي تؤسس لحياتنا في كل مرحلة ومرحلة، وآخرها الهبة الشعبية الأخيرة، هبة أيار 2021. أمومة، وإلى جانبها تطوير المهنة، مساران ليسا هينين يا بني. إذ ليس من السهل أن تشق امرأة وأم والديّتها ومهنتها جنبًا إلى جنب، إنّه تحدٍ كبير لأنموذج الأم الذي ابتغاها مجتمعنا (وهو أنموذج آخذ بالتغيير لسعادتنا)، لا سيما قبل 15 عاماً حين ولدتَ. لقد كان ذلك، وما يزال، تحدياً جماً، التحدي في النجاح على المستوى العائلي الفردي، وعلى مستوى النجاح الجماعي أيضًا، لأكون مثالا للأمهات اليافعات اللواتي اخترن الأمومة بالتوازي مع الحياة المهنية. نموذج يتحاور دائما بين عالمين: عالم الأمومة الخالصة؛ وعالم يجمع بين الأمومة المتفاعلة والمهنة. فنموذج الأمومة الثاني يخاطر، وبوعي، باستدعاء الانتقاد على صيغة الأمومة التي اختارتها الأم، متحدية، إلى جانب رفيقاتها الأمهات العاملات والمهنيات، بخلق نموذج إضافي، لا يكون نموذجًا استعلائيًّا على النموذج الأول، إنما هو نموذج يمكّن للجانبين أن يتعايشا، لا بل أن يزدهرا، ويغذي أحدهما الآخر.

لن أطيل هنا عن نموذج الأمومة، بل عن تفاعلات الأمومة في وطن جريح، ولابن لم يوفر يوماً، ومنذ نعومة أظفاره، سؤالا حول المعاني السياسية والاجتماعية والجندرية التي تدور حوله. أمومة تشكلت بفعل تفاعل مع ولدها (وولديها، غدي ورواد)، وتصيغ كيانها بفعل تفاعله مع الأحداث اليومية. وبالتالي، لا أعرف إن كنت أقص تجربتك، أم تجربتي، أم تجربتنا المشتركة. لا أعرف إن كنت أقص ذاكرتك، أم ذاكرتنا المشتركة يا بني؛ لأنني أدرك، تماماً، استقلالية أفكارك وأهمية تحررك من سطو الأمومة (أو الأبوة) المتملكة. ولكنني أبغى بوصف تفاعلتنا المشتركة أن أتمعّن التفاعلات التي صاغت أمومتي الاجتماعية، والسياسية، والنسوية، والفكرية. لأن الذاكرة مهمة يا بني، ولأن الذاكرة الفردية والجمعية عندما تختلطان تؤسسان لبناء الإنسان الحر، ولذاكرة الشعوب. لربما أكتب لأنني أريدك أن تتذكر أسئلتك، وطريقة تطور وعيك وحماسك للعدل الاجتماعي والسياسي منذ صغرك. واغفر لي إن أنا أصررت مراراً على الحفاظ على موروثنا الجماعي والسياسي/أعتقد أنها مرساة مهمة لك يا بني.

ولربما يكون هذا النص فعل كتابة لتغذية روح أمومة بلغ عمرها  15 عاماً لأتعايش معها، وأبني الأمل من جديد بطاقات ولد أصبح شاباً يافعاً. بل ربما لأستدعي الأمل إلى حقلنا الاجتماعي والسياسي، لربما لأدلّل نفسي مرة تلو الأخرى بنشوة لحظات السعادة التي اعترتني، وما زالت تعتريني أمام كل سؤال من أسئلتك، وبمتعة لا تقل عنها أمام تفاعلاتك مع الأجوبة، وطرح الأسئلة الجديدة، أمام ردودك وتحفظك على المواقف الرجعية، أو الطائفية والعنصرية. ولربما لاستعادة جرعات الطاقة التي استمددتها، وأنا أرقب المشهد السياسي والاجتماعي من حولي خلال الهبة الشعبية، هبة أيار 2021، التي صاغها جيل من الصبايا والشباب وقادوها ببراعة لافتة.

أكتب في هذه الأيام ونحن ما زلنا نعيش لحظات الأمل والخوف على مستقبلكم ومستقبلنا، وأتذكر كلماتك  وأسئلتك، وأستذكرك هنا فقط القليل القليل، وأرجع إلى ملاحظاتي التي دونتها في أرشيفي الخاص للمحادثة معك. فقبل خمس سنوات، وحين كنت في العاشرة من عمرك، وحين كنا نقرأ كتاباً عن التمييز العنصري ضد السود في أمريكا، وتحديداً ضد امرأتين سوداوين رياديتن، ساهمتا في إطلاق الصاروخ الأول على القمر، وغُيبتا من الذاكرة والحدث تحت الاسم “Hidden figures”؛ وأثناء قراءتي لإحدى الجمل التي تقول أن حالة السود بدأت بالتحسن بشكل عام بعد الحرب العالمية الثانية، ولذلك أيضا أخذت مكانة النساء السود تتحسن. استوقفتني، وسألتني باستغراب: “ماما شو صار بعد الحرب العالمية الثانية حتى تحسن وضعهم؟”. تحدثت إليك حول بعض المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، وأثر الحرب، الخ. حينها، قلت لي بالحرف: “ماما بتمزحي، هاي المواثيق بنهاية سنوات الأربعينات”. أجبتك: نعم. فأجبتني بسؤال: “ماما طيب ليش صارت النكبة معناها؟ أنا مش فاهم هذا التناقض”. استغربت كثيراً حينها، وانفعلت منك لأبعد الحدود، لأننا لم نتحدث بالمرة خلال القراءة عن فلسطين، ولم، ولا ذكرنا النكبة إطلاقاً. ضممتك بقوة، انفعلت، وقبلتك مراراً. وقلت لك: “قديش بستمد طاقة وحب وأمل منك”. وحكيت لك عن الكارثة في سياق أوروبا والاستعمار البريطاني في فلسطين. كانت هذه الأفكار اللامعة التي عمل، وما زال، يعمل الباحثون والباحثات في استقصائها بمثابة نفخٍ لعزيمتي بالإصرار على تزويد الأجوبة لك بالمزيد من البحث. أما حين كنت في الحادية عشرة من عمرك، وحين كنا نشاهد معاً فيلمًا حول التمييز العنصري ضد الأفارقة الأمريكان، فإنني أتذكر جيدا الربط الذي قمت به بين التمييز ضدهم وضد الفلسطينيين، وقلت لي: “ماما أشعر بالتشابه بين حالة السود الأمريكان وبين الفلسطينيين”. وفي حديث آخر، وبعد أشهر قليلة، وحين كنا نشاهد مسلسلاً يتناول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي يبدأ بمشاهد من محرقة اليهود. سألتني حين كنا نناقش المسلسل: “ماما كيف ممكن اليهود يعملوا معنا زي ما صار فيهم؟”. طبعا، رددت: “انو مش بالزبط هيك، بس سؤالك ماما بمحله، ولكن تتمة ردي غير مهمة حاليا”. وبعدها أكملنا المشاهدة معاً، وقلت لي: “ماما ممكن أن اليهود كانوا بدهم ينتقموا من الألمان فانتقموا منا”. فأنت، وبفطنتك، زدت ببديهة وحدس طفل يحاول فكفكة مباني قوة محلية وعالمية وإمبريالية استنفدت الكثير من السنوات للتنظير لها أكاديميًا ومفاهيميًا.

أكتب لك، وأقول: كم كانت ترتبيتك سهلة حين كانت فطنتك وأفكارك، وأسئلتك تنضح بالعدل الاجتماعي والسياسي بأسلوب وصورة يبعثان على الفخر والإعجاب في قلب كل أم وأب. ففي ظل المجتمعات التي نعيشها، والتي تكون فيها العنصرية أو الطائفية “طبيعة” المجتمع، يصبح الاستثناء هو اللاعنصرية واللاطائفية.

أكتب لك بأمومة متفائلة، ولكن، وفي ذات الوقت، قلقة ومتوجسة دوماً على مصير أبنائها في وطن تسلب فيه الحقوق بصورة يومية، ويخيم عليه شبح القتل أو الموت بصورة مستدامة. أمومة في حوار مستديم مع ما يمكن أن يتلقاه ولداها من خلال الدينامكيات المجتمعية، وما بين دورها في عكس نماذج وطرق بديلة للتعامل مع الأحداث. أمومة تعج بالمعاني اليومية والمخاوف والقدرة على حماية أولادها من أي غبن طارئ أو مستدام، ولكنها أيضا أمومة حبلى بمعاني ومفاجآت، لأن تواترها غير معروف. هي أمومة تنمو وتولد لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم، وتجعلني أفكر وأعمل على شخصي لأتحرر من أي تسلط أو ملكية على فكر أولادي ومستقبلهم، المستقبل الذي يختارونه

ممتنة لك أنا يا غدي لأنك منحتني أمومة غير  اعتيادية بأسئلتك، وبحسك الإنساني والاجتماعي المرهف، شكرًا لك يا غدي لأنك تحديت، وما زلت تتحدى… في كل مكان حللت به البنى والفكر القامع.

شكراً لك على أمومة  مثيرة وغنية، تجعلني فيها أتساءل أكثر مما أجيب.

اغفر لي إذا كنت تظن أنه كان علينا أن نختار العيش في مكان آخر.

فلنا خيارتنا، ولك كل الخيارت، ولك عناق القمر…

ولكن، تذكر أينما حللت أنك ولدت من أجل رسالة اجتماعية وسياسية، ولديك القدرة أن تختار معالمها.

يا بُني، لا تترك مجالا للقنوط كي ينال منك. انطلق نحو الدنيا بطولها وعرضها، وبشغفك الدائم.

كُن رجلا، إنسانيا، نسوياً كما اخترت، لا تدع الذكورية الفارغة تتسلط عليك.

ابن أنت وبنات وأبناء جيلك مساحات للحرية تعيد رسم معالم وطن حر ثقافيا وسياسا واجتماعيا، ولا تخافوا تحدي السائد، لأنه حينها فقط ستكونون وستعيشون أحرارا.

ليس للرجل أن يتنازل بسهولة عن امتيازاته، تماما مثل صعوبة أن يتنازل المستعمِر عن امتيازته، فهذا يتطلب الوعي والمجهود والطاقات الكبيرة والمتواصلة. علّ البذرة الثورية التي فيك تنمو وتكبر ..

واحرص دائما على أن تفكك مباني القوى والظلم والعنف.

لا تكن أنانيا في تفتيشك فقط عن النجاح والسعادة الشخصيين، في أي مهنة امتهنت، وفي أي مسار خضت، تذكر مسؤوليتك الجماعية. كن كما عهدتك دائما، فمجساتك حساسة للظلم ومباني القوة، كن دائما جزءاً من المجتمع الذي حولك. لا تدع عدم المبالاة يتسلط عليك، ولا تترك السياسي، لأن الشخصي هو سياسي، والسياسي هو شخصي، تحديدًا لشاب أو صبية ينتميان لمجموعة أصلانية مضطهدة.

تجرأ في الخروج عن المألوف، ولا تدع إرهاصات القلق تحتل أفكارك.

لك ولأبناء وبنات جيلك غد تبنونه معاً بنجاحاتكم/ن الفردية، والأهم الأهم بمساهمتكم/ن في المجتمع.

لك أنت وأبناء وبنات جيلك غدكم/ن، غد حلمت به منذ ولادتك، وحين أسميناك “غدي”.

وسأبقى أختلس النظر إليك، وإلى خطواتك، علّها تخلق لدي دائما الشعور بالسعادة والأمل والامتنان لما أنت عليه، ولما أصبحنا نحن عليه بفضلك وبفضل أخيك، وسأكون معك على امتداد الساعة والأيام، وسأبقى إلى جانبك لأدعم خياراتك وتطلعاتك، ولتكن حدودك السماء.

كل سنة وأنت بخير ماما حبيبي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *