رسالة الأدب وأضاليل الاحتلال
«احتفالية فلسطين للأدب، PalFest، كما تعرّف عن ذاتها: مبادرة ثقافية ملتزمة بخلق أفكار ولغة خطاب لمقاومة الاستعمار في القرن الحادي والعشرين؛ وثمة -استطراداً- تركيز خاصّ ومحوري على القضية الفلسطينية، والتواصل المباشر مع الشعب الفلسطيني على أرضه، في المدن والبلدات والقرى والمخيمات. تأسست الاحتفالية سنة 2008 بمبادرة من شخصيات ثقافية عالمية، اجتمعوا عن طريق صلاتهم برئيسة مجلس الأمناء، الروائية المصرية المرموقة أهداف سويف؛ وبعدها استطاعت الاحتفالية دعوة عشرات الشخصيات الأدبية العالمية للذهاب إلى فلسطين مرّة كلّ سنة.
الأنشطة، على الأرض دائماً، تضمنت ورشات عمل وعروضاً وأمسيات أدبية، وزيارات لمواقع تاريخية وسياسية، ولقاءات ميدانية بين كاتبات وكتّاب فلسطين مع ضيوف متضامنين أمثال شينوا أتشيبي، جون بيرغر، فكتوريا بريتن، تا – نهسي كوتس، ج. م. كويتزي، عبد الرزاق قرنة، نتالي حنظل، ليلى العلمي، كلير مسعود، بانكاج ميشرا، فييت تان نغوين، مايكل أونداتجي، مارشيا لينكس كويلي، كاميلا شمسي، أليس ووكر؛ بالإضافة إلى عشرات الكتّاب العرب، أمثال محمود درويش، حنان الشيخ، ابتسام عازم، مريد البرغوثي، عمر روبرت هاملتون، قاسم حداد، علاء حليحل، رشيد خالدي، ياسمين الرفاعي، رجا شحادة، محمود شقير، وروبن ياسين قصاب.
غنيّ عن القول أنّ سلطات الاحتلال جرّبت كلّ طرائق الإعاقة ووسائل التعطيل، خاصة حين تذهب الأنشطة إلى أراضي الـ48 نحو مدن مثل عكا أو حيفا، وتوجب مراراً أن تتسبب الرقابة الإسرائيلية في حرج دبلوماسي لمراكز ثقافية أوروبية عرضت استضافة أمسية شعرية أو مائدة نقاش. هذا سلوك منتظَر من الاحتلال، بالطبع، ولا يخرج عن سياسات التنكيل التي تعتمدها السلطات الإسرائيلية إزاء كلّ نشاط يُبرز الشخصية الفلسطينية ويحيي تراثها الوطني وينشّط ثقافتها؛ فكيف إذا شاركت أسماء لامعة متوّجة بأرفع الجوائز على نطاق العالم.
ما يجدر تمييزه عن ممارسات الاحتلال هو نماذج العداء المستميت لأنشطة الاحتفالية الفلسطينية في كتابات نفر من المعلّقين الغربيين المناصرين للاحتلال الإسرائيلي، وهم تارة صهاينة، وأقرب إلى الليكود تارة أخرى؛ من دون أن تغيب عن صفوفهم هذه أو تلك من درجات التعاطف مع الأحزاب الإسرائيلية المتطرفة، الفاشية والقومية والدينية والاستيطانية. وكان طبيعياً أنّ هذا التوجّه ازداد حدّة وشراسة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وتدشين حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة، رغم أنّ جرائم الاحتلال في سائر فلسطين أعاقت غالبية الأنشطة الميدانية المعتادة للاحتفالية.
وأحدث تعبيرات هذا العداء، غير البعيد عن روحية السعار والهستيريا، تجلت في الموقف من مبادرة أطلقتها الاحتفالية مؤخراً، وانطوت على تعهد أكثر من 1000 كاتبة وكاتب، على امتداد العالم، بعدم العمل مع المؤسسات الثقافية الإسرائيلية المتواطئة مع، أو التي التزمت موقع المراقب الصامت حيال، الاضطهاد الشامل للفلسطينيين. وقال البيان: «لن نتعامل مع المؤسسات الإسرائيلية، وهذا يشمل الناشرين، والمهرجانات، والوكالات الأدبية والمطبوعات»، المتواطئة مع انتهاك الحقوق الفلسطينية، وبينها السياسات والممارسات التمييزية، أو عن طريق تبييض وتبرير الاحتلال الإسرائيلي، والأبارتيد، والإبادة الجماعية. كذلك ضمّ البيان إلى لائحة المقاطعة تلك الجهات التي «لم تعترف علانية بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف والمنصوص عنها في القانون الدولي».
ويتابع البيان: «لدينا دور يجب أن نلعبه. لا نستطيع بضمير مستريح الانخراط مع مؤسسات إسرائيلية من دون أن نسائل علاقتها مع الأبارتيد والتهجير. كان هذا هو الموقف الذي اتخذه مؤلفون لا حصر لهم ضدّ جنوب أفريقيا، وكان ذاك بمثابة إسهامهم في النضال ضدّ الأبارتيد هناك». ولهذا يتوجه البيان بالنداء إلى الزملاء الكتّاب، والمترجمين، والرسامين والعاملين في صناعة الكتاب للالتحاق بالمقاطعة؛ والدعوة موجهة أيضاً إلى الناشرين، والمحررين، والوكلاء، لاتخاذ موقف يقرّ بمسؤوليتهم الأخلاقية، وبالتوقف عن الانخراط مع الدولة الإسرائيلية والمؤسسات الإسرائيلية المتواطئة.
أحد أشدّ الردود المناهضة للبيان، وبين الأشد تضليلاً وديماغوجية، جاء من آدم كيرش محرر المراجعات في صحيفة «وول ستريت جورنال»؛ الذي استنكر زجّ الأدب في معارك من هذا الطراز، هو نفسه الذي لم يفوّت فرصة لمساندة دولة الاحتلال وتجميل سياسات التمييز العنصرية والفاشية؛ والذي في أحدث مؤلفاته «حول الاستعمار الاستيطاني» يتناول اغتصاب الأرض وزرع المستوطنات من زوايا تُحيل إشكاليات الإيديولوجيا والعنف والعدالة والقانون الدولي والحقوق المبدئية إلى مجرد مسائل خلافية يتوجب إخضاعها للتفاوض والتسويات.
وبين الأسخف في مقالة كيرش، نقطة أولى يحلّ فيها نفسه نائباً عن «بعض الموقعين»، مفترضاً أنهم لم يفهموا أصلاً ما المقصود بالنصّ الذي وقّعوا عليه، سواء بصدد الحقوق الفلسطينية أو رفض تبريرات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقدس والقطاع؛ ونقطة ثانية تحذّر من أنّ روحية البيان تقود إلى فلسطين من النهر إلى البحر، متغافلاً عن حقيقة أنّ آخر رافعي هذا الشعار هم وزراء يمينيون متطرفون في حكومة بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر حاشد عُقد في القدس المحتلة، وطالب بـ»إسرائيل كبرى» تمتدّ من نهر الأردن إلى شواطئ المتوسط.
ذروة البهتان ما يبديه كيرش من حزن لأنّ بيان المقاطعة «يعطّل الحوار»، وكأنه شخصياً صرف شهور الإبادة الإسرائيلية وهو يحاور مجرم حرب مثل نتنياهو، ويجادله… بالحسنى!