رسالة إلى من يهمهم الأمر في حوار القاهرة
لدي قناعة متزايدة أن الانتخابات، بمحطاتها الثلاث، قد تحمل فرصة، طال انتظارها ويجب التقاطها من أجل تغيير الواقع الذي آلت إليه قضيتنا الوطنية من تراجع وتفكك وعجز، في الوقت الذي نواجه فيه خطرًا وجوديًا بكل معنى الكلمة، حيث يزداد المشروع الصهيوني تغولًا ووحشية اعتقادًا من قادته أن هناك الآن فرصة سانحة للقفز خطوات كبرى نحو تصفية القضية الفلسطينية.
فهذه الانتخابات قد تحمل فرصة لإحداث، ولو ثغرة، في جدار واقعنا الحالي ننطلق عبرها نحو التغيير باتجاه إنقاذ مشروعنا الوطني لدحر الاحتلال والاستقلال وحق تقرير المصير والعودة. فإنقاذ مشروعنا الوطني يتطلب تغييرًا على أكثر من صعيد، لكن أكثرها إلحاحًا ما يأتي :
أولًا: نحن أولًا بأمس الحاجة إلى تغيير مسارنا الاستراتيجي بعيدًا عن مسار أوسلو الكارثي بكل التزاماته وإفرازاته وأوهامه، وتبنّي استراتيجية تعيد الاعتبار والبوصلة لكفاحنا كحركة تحرر وطني تواجه أشرس مشروع استعمار استيطاني عنصري عرفه التاريخ.
ثانيًا: نحن بأمس الحاجة إلى تجديد البنية القيادية لحركتنا الوطنية بعد أن فشلت البنية القيادية، على مر العقود الماضية، في وضع شعبنا على سكة التحرر والخلاص من براثن المشروع الصهيوني الذي نراه بأُم أعيننا يتقدم ويتمدد على أرضنا ويتعمق. صحيح أن فشل قياداتنا تاريخيًا لا يعود فقط إلى العوامل الذاتية المتعلقة بهذه القيادات في حد ذاتها. فهناك الظروف الموضوعية والمتعلقة بقوة وإمكانيات وتنظيم الحركة الصهيونية، وارتباطاتها العضوية وتحالفاتها مع أعتى الإمبراطوريات الاستعمارية، وهناك حقيقة أن الحركة الصهيونية هي امتداد أوروبي غربي، بالإضافة إلى ظروف الواقع العربي المتخلف والمتفكك من جهة والمتواطئ من جهة أخرى. لكن العامل الذاتي للبنية القيادية مهم، ويصبح أكثر أهمية، خاصةً أمام عتوّ وجبروت العوامل والظروف الموضوعية المذكورة، التي تتطلب قيادات تمتلك الكفاءة والرؤية والقدرة على قيادة شعبنا في صراع على هذا المستوى من التحدي الوجودي. قيادات تمتلك ثقافة وشجاعة المراجعة النقدية لاستخلاص الدروس والعبر وتصويب المسارات والاستراتيجيات الفاشلة والبناء على تجارب النجاح سواء لشعبنا أو لشعوب أخرى عانت من احتلال أو من مشاريع استعمار استيطاني. قيادة تعترف بأهمية الاستعانة بمراكز الأبحاث والتفكير الاستراتيجي. فهي قيادات، عبر عقود الصراع، تجهل ألف باء حركات التحرر الوطني، وهو تحديد جبهة الأعداء والخصوم وجبهة الحلفاء والأصدقاء. كم من المرات، أيام الانتداب البريطاني لبلادنا فلسطين، كانت تستنجد “بالصديقة بريطانيا العظمى” صاحبة وعد بلفور وأداة تنفيذه. وكم كانت وما زالت قياداتنا تلهث وراء ساكني البيت الأبيض رغم أنهم أشدُّ وأكبر داعمي إسرائيل ومشروعها الاستيطاني سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وديبلوماسيًا.
لكن الطامة الكبرى أن قياداتنا، تاريخيًا، ليس فقط أنها لا تعترف بالفشل، بل كثيرًا ما تعمل على تسويق الكثير من الفشل على أنه انتصار وإنجاز.
لكل ذلك وغيره، يمكن أن نجعل من الانتخابات فرصة ومدخلًا حضاريًا وسلميًا (يسبق لجوء الشعوب إلى العصيان المدني) لإحداث تغيير وتجديد لبنية الجسم القيادي لحركتنا الوطنية، بمواصفات وقدرات مختلفة قادرة على إلهام واستنهاض همم شباب وشابات الشعب الفلسطيني، عبر استراتيجية وبرنامج عمل يرتكز على ثلاث ركائز، تقوم على استعادة الوحدة الوطنية التي هي أول شروط الانتصار، وعلى برنامج مقاومة يجعل الاحتلال والمشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري برمته مشروعًا مكلفًا وخاسرًا على كافة الأصعدة، وعلى توفير برنامج للصمود يقوم على قاعدة العدالة الاجتماعية في تحمل أعباء هذا الصمود المقاوم
ثالثًا: قد تسهم الانتخابات في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية إذا ما تمسكنا بتوفير عدد من المتطلبات الضرورية لذلك، بدءًا بالالتزام بالمضي في الانتخابات، وصولًا إلى محطتها الأسمى ألا وهي استكمال “انتخاب” مجلس وطني جديد، وعلى نفس قاعدة التمثيل النسبي، بعيدًا عن المحاصصة الفئوية المقيتة والمدمرة. ففي هذا المجلس الوطني الجديد يجب أن يمثل كل مكونات الشعب الفلسطيني ومنه يتم انتخاب قيادة وطنية موحدة تلتزم بالشراكة الحقيقية في تحمل مسؤولية العمل الوطني في وجه التحديات والأخطار الوجودية التي تواجهها قضيتنا.
رابعًا: نحن بأمس الحاجة إلى كسر الاستقطاب الثنائي المدمر لصراع على سلطة تحت حراب وبساطير الاحتلال، وفتح الباب واسعًا لتعددية حقيقية بناءة ترتكز على قناعة راسخة بالشراكة الحقيقية في تحمل أعباء وتحديات القضية الفلسطينية. فليس هناك أي فصيل، مهما علا شأنه بقادر على تحمل أعباء وتحديات تزداد ضخامة كل يوم.
لكن السؤال المركزي هو: كيف يمكننا أن نجعل من هذه الانتخابات فرصة لإحداث ثغرة في جدار الواقع الكارثي الذي نعاني منه؟
أقولها مباشرة ومن دون أدنى مواربة، لا بديل عن بلورة وبناء كتلة أو تيار ثالث شعبي وطني ديمقراطي واسع يؤمن إيمانًا راسخًا أنه ليس مجرد تكتل انتخابي عابر، بل هو أمام مشروع إنقاذ وطني يقع على عاتقه أن يكون طليعة مشروع إنقاذ وطني.
بهذه الروح وبهذه القناعة، وبإنكار الذات والتعالي فوق الحسابات الحزبية الضيقة تُبْنى حركات التحرر ويُبنى مشروع إنقاذ فلسطين، وليس بالتهافت على تراتبية المواقع في القوائم الانتخابية بينما المشروع الصهيوني يتمدد ويتعمق أمام أعينا ومن تحت أرجلنا.
إذا لم تتحركوا الآن لانتهاز هذه الفرصة، ولو لإحداث ثغرة في الجدار كخطوة أولى لمشروع تاريخي بهذه الأهمية، فمتى إذًا ستتحركون؟
وإذا لم تقوموا أنتم، نعم أنتم، بهذه الخطوة، والآن الآن، فمن غيركم سيقوم بها؟
لا أقول لكم ما أقول من قبيل “اللهم قد بلغت”. بل أقولها بتصميم وإلحاح: “أرجو أن تكون رسالتي قد وصلت”.
عن القدس
اللوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور