رسالة إلى الدكتور حسام أبو صفية ومعه كل الطواقم الطبية في غزة

عذراً ، العالم لم يسمعك ولم يراك فقد عمى عينيه عن الدمار والموتى والجرحى، وصلاتك على فلذة كبدك، ابنك المسجى بينهم. صرخت بأعلى صوتك من على كل منصات الإعلام العالمية: “أنقذوا مستشفى كمال عدوان وباقي المستشفيات وطواقمها في غزة”، لكن لا حياة لمن تنادي.

مات ضمير العالم، يا حسام، وأولهم العرب والمسلمين، ومعهم الكثير من الفلسطينيين. غزة تُباد، وأريحا تغني وترقص، ومعها رام الله ورهط والناصرة والقاهرة وعمان والرياض وكل مدن وعواصم الشرق والغرب. لم يسمع أحد استغاثتك، ومع ذلك أصريت على البقاء حتى أمنت خروج مرضاك وجرحاك. خرجت بثوب الطبيب الأبيض، وخطوت بخطوات ثابتة ثبات الصخور، حادة كحد السيف، كأسمك، وسط الدمار والأشلاء. تقدمت نحو الدبابات والجند المدججين بالسلاح والحقد، ومن بينهم أطباء مثلك، نسوا رسالتهم الإنسانية ولم تعد تهزهم مشاهد القتل وتقطيع الناس أشلاء، وبقر بطون الحوامل، وقتل الأجنة، وتسطيح البيوت والمدن والقرى ودفن أهلها أحياء تحت الركام في أبشع وحشية حرب شهدتها الإنسانية. بل، وفيها، وبسببها، فقد العالم المتفرج على ذبح غزة من الوريد إلى الوريد إنسانيته.

وأنت تسير عاري الصدر إلا من إيمانك برسالتك وسط هذا الخراب والعداء، كنت تجسد مشهد الصمود لأبناء شعبك الذين أسكتهم الرعب وأفقدهم الأمل. في عيون جرحاك ومرضاك، كنت لمحة من الشجاعة والكرامة، رغم الدماء التي لطخت الأرض وأجسادهم. لقد كنت، يا دكتور حسام، ملاذاً لهم، ووجه الإنسانية في زمن انعدمت فيه كل مظاهر الرحمة.
وفي حين كان العالم منشغلاً بجشعه وصراعاته السياسية، ومعهم سلطة رام الله، كنت أنت وسط أطياف الموتى، تذكرنا جميعاً بأن هناك بشراً هنا، تستصرخ أرواحهم حتى في صمت القتلى، وتصارع من أجل الحياة. تلك اللحظات العصيبة، حين كنت تخيط جرحاً هنا وتمد يد المساعدة هناك، كنت تجسد المعنى الحقيقي للإنسانية.

أنت، يا حسام، لست مجرد طبيب، بل أصبحت رمزاً للنضال والصمود في زمن الشدائد، حيث يموت الضمير وتُفضح قرارات اللعب بمصير الناس. كيف لك، وسط هذا الدمار، أن تجعل قلوبنا تخفق من جديد؟ كيف استطعت أن تُبقي شعلة الأمل مضيئة في أحلك الساعات، رغم أن كل شيء من حولك ينهار؟

دعني أقول لك إن شجاعتك لم تكن مجرد خيار بل ضرورة. لقد وقفت كالجبال أمام جبروت الظلم، وواجهت بالصبر والثبات قسوة الحياة. إن رسالتك لم تنحصر في علاج الجرحى، بل كنت تعلّم أجيالاً بأكملها معنى النضال والقوة، حتى في أحلك الظروف. ومع كل صرخة تجمدت في الحناجر، كنت صوتاً ينادي بالإنسانية، للصمود، للاستمرار. ومضيت بخطواتك نحو المجهول، كنت تعرف أن كل خطوة تأخذها تعني الأمل لأحدهم، بل كنت تجسد التحدي للقدر. ورغم كل محاولات الإخضاع والحصار، برهنت الصور على أن غزة لا تُقهر، وأن أرواح أطبائها لن تُنسى. في النهاية، لن تُحاصر الأمل، مهما بلغت قسوة الأيام، فهناك من يزرع الأمل في قلوب المتألمين، ويبشر بحياة رغم كل خيوط الفاجعة المتشابكة.

تضاربت الأخبار عن مصيرك بعد الاعتقال، وأخيراً اعترفت إسرائيل أنك معتقل في معسكر “سديه تيمان”، تلك القاعدة العسكرية التي تم تحويلها جزئياً إلى معسكر اعتقال، وهو مقسم حيث يتم احتجاز المعتقلين معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي في أقفاص، ومستشفى ميداني وخيام كثيرة لا تقيهم شر نهش صقيع الشتاء.

قبل أيام، مررت، يا ابن أمي، من هناك. وفي المدى المنظور، بانت الخيام خلف ستار رملي، ومعها كانت أحلام وعذابات شعب بأكمله. على الشارع الممتد نحو بئر السبع، ارتسمت خارطة حلمك: العودة إلى حمامه، وحلمهم العودة إلى ديار بئر السبع وقرى القسطينة التي تحولت إلى “كريات ملاخي” وغيرهم.
وأنا أعيد رسم الخارطة لأكتب إليك هذه الرسالة، خانتني يا حسام ذاكرتي وأنا الواعي لمعناها، وهرب مني اسم “سديه تيمان” الفلسطيني. وتذكرت أن المعركة، يا ابن شعبي، تدور على الحيز والذاكرة. تنهدت حسرةً لوجودك ووجودهم هنا، لأننا لم ندرك بعد أن في الصراعات الاستراتيجية لا مكان لفكر المغامرة الثوري. وإن كنت أفهمه، لا أوافقه، لأنه حرق مراحل كثيرة وسبق عصره.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *