رسالة إلى أصدقائي في فلسطين…التي كانت تنتظر تحريراً من أنظمة عربية

كوني فلسطينياً- سورياً فإن ذلك لا يقلّل لا من فلسطينيتي، نسبة إلى والدَيّ اللاجئين منذ النكبة المؤسسة (1948)، وبحكم أن تلك القضية شغلت جلّ همّي واهتمامي طوال عمري، ولا من سوريتي، فأنا من مواليد حلب، وعشت 65 سنة سورياً، ضمنها 50 سنة (تخيّلوا!) تحت حكم نظام الأسد الأب والابن، الذي يحضّر ابنه حافظ2 لتوريثه البلد! وبصراحة فإن تلك الهوية اشتعلت عندي بخاصّة مع اندلاع ثورة السوريين قبل 10 أعوام، من دون الشعور بأي تناقض بين الهويتين- القضيتين، على رغم إحساسي أحياناً بأن هويتي الأولى “تغار” من الثانية، وبالعكس، من دون أن أعرف أيهما الأولى وأيهما الثانية، فكلتاهما عندي تفيدان المعنى ذاته، أي الحق في الحرية والكرامة والعدالة.

خلاصة ما أود طرحه، في رسالتي هذه، إن أكثر ما أثار انتباهي لدى احتكاكي المباشر بفلسطينيي الداخل (منذ أعوام) أن معرفتهم بطبيعة الأنظمة العربية تشوبها طبقات حاجبة تصعّب عليهم تحسّسها، أو تلمّسها، أو إدراكها على نحو مناسب، وهذا ينطبق على النظام السوري، الذي ما زال فلسطينيون كثيرون، لا سيما في الداخل، يتعاطون معه باعتباره نظاماً مقاوماً وممانعاً، كأنهم نسوا كل ما فعله بحق فلسطينيي سوريا ولبنان، وبحق حركتهم الوطنية منذ 1970، وخصوصاً على رغم كل ما فعله بشعبه في سوريا؛ وطبعاً مع غض النظر، أو مسامحته، عن طبيعته كنظام استبدادي.

يمكن تحديد أهم تلك الطبقات في الآتي:

أولاً، لم يجرّب فلسطينيو الداخل (48 و67)، العيش في ظلّ أنظمة عربية استبدادية ـ قهرية، لا سيما كالنظام السوري، لا مكانة مواطن فيها، ولا حقوق مواطنة، ولا حتى دولة بمعنى الكلمة، أي دولة مؤسسات وقانون، في ظل واقع التهمت فيه السلطة الدولة وحقوق المواطنة، في كل العالم العربي تقريباً، وبدهي أن سبب ذلك يعود إلى حرمانهم الوطن والهوية والحقوق، بعدما سلبهم قيام إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، المكان والزمان والمعنى، وحتى فكرتهم عن ذاتهم كشعب، وفكرتهم عن انتماء لأمة أكبر، وفي ظل العزل الذي تعرضوا له إسرائيلياً، وعربياً (بخاصة فلسطينيو 48).

ثانياً، في الحقيقة إن الأنظمة العربية السائدة لعبت دوراً كبيرًا في دفع مظلومية الفلسطينيين إلى أعلى، على حساب أي مظلومية أخرى، لصرف الأنظار عن مسؤوليتها في قيام إسرائيل، ولإحالة إخفاقاتها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الخارج، ولحجب مظلومية المجتمعات التي تحكمها وتتحكم بها، بمعنى أن أسطرة القضية الفلسطينية، كانت حاجة للأنظمة الاستبدادية، كما كانت حاجة لمختلف التيارات السياسية العربية السائدة للتغطية على عجزها في مواجهة مهماتها الأساسية في مجتمعاتها، بدعوى مقاومة الإمبريالية والصهيونية، وهي هنا في معظم الأحوال مقاومة في البيانات والمهرجانات لا أكثر، من المحيط إلى الخليج.

ثالثاً، ثمة انطباع خاطئ لدى كثر بأن القانون في سوريا ساوى الفلسطيني بالسوري، في الأحوال المدنية، لكن ذلك الانطباع تجاهل مسألتين، الأولى، أن النص على ذلك حصل قبل مجيء سلطة حافظ الأسد بـ15 عاماً. والثانية، أن تلك المساواة في العهد الأسدي لم تكن ميّزة أبداً، إذ إنها تعني المساواة في فقدان الحقوق، والمساواة بالظلم، والمحو، لا سيما في نظام لا يراعي حرمة الدستور أو القانون أو المواطنين.

رابعاً، الانطباع الخاطئ الآخر، والمضلّل، ناجم عن الهامش الذي تمتّعت به الفصائل الفلسطينية في سوريا، علماً أن ذلك كان نتاجاً لظرف عربي عام فرض ذاته بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وللتغطية على تلك الهزيمة، علماً أن نظام الأسد حاول استغلال ذلك لتعزيز شرعيته، وللمزايدة على الأنظمة العربية الأخرى وابتزازها، وفي محاولة منه للتلاعب بالحركة الوطنية الفلسطينية والإمساك بورقتها لتعزيز مكانته على الصعيدين العربي والدولي. ومعلوم أن الزعيم الفلسطيني الراحل كان أشهر شعار: “القرار الفلسطيني المستقل”، ضد تدخلات النظام السوري تحديداً في الشأن الفلسطيني، عبر الفصائل التابعة له، وأن ذلك النظام مسؤول عن ضياع الجولان (1967)، وهو أول من أوقف العمل الفدائي من جبهة الجولان (1974)، ثم دخل إلى لبنان لضرب الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، إضافة إلى أنه أكثر من عمل على تدمير مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، من تل الزعتر (1976) إلى مخيم اليرموك (2017)، مروراً بحروب المخيمات التي شنّها النظام السوري (عبر حركة أمل 1985 ـ 1987) ضد مخيمات بيروت (صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة). وقد يفيد هنا التذكير بأن هذا النظام ابتدع جهاز الضابطة الفدائية التي كانت جهازاً لمرمطة الفصائل، مثلما سمى أقذر فروع مخابراته باسم فرع فلسطين، وأن قيام فصيل بنشاط لمعرض فني أو لفريق رياضي أو لحضانة أطفال، في أي مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا، كان يتطلب إذناً من الضابطة الفدائية.

خامساً، يفوت كثر من فلسطينيي الداخل، في غمرة حماستهم لقضيتهم، وتمحورهم حولها، وبسبب عزلتهم، أن ادعاء معظم الأنظمة اعتبار قضية فلسطين بمثابة القضية المركزية للأمة العربية، مجرد طرح للمواربة والتلاعب والاستهلاك، ولتغطية بطشها بشعوبها، ومصادرتها حقوق مواطنيها، وهيمنتها على الموارد، علماً أن تلك الأنظمة بالذات تهين الفلسطينيين في الخارج من اللاجئين، فكيف يستقيم لنظام محبة فلسطين ومرمطة شعبها؟! في غمرة ذلك يتناسى كثر من فلسطينيي الداخل أن للمجتمعات الأخرى قضاياها وأولوياتها المصيرية، هذا ينطبق على السوريين والعراقيين والسودانيين والمغاربة والموريتانيين والمصريين إلخ، وهي قضايا تستحق، ولا يمكن تأجيلها، ولا لأي سبب، بل إن الطابع السلطوي والهش والمتخلف لتلك الأنظمة هو الذي يضفي قوة على إسرائيل، ويجعلها في مكانة متميزة في المنطقة مقارنة بالدول الأخرى. والأهم من كل ما تقدم أن هؤلاء مطالبون بإدراك حقيقتين أساسيتين: الأولى، تفيد، بأن الشعوب التي لا تستطيع الخروج من أجل حريتها وكرامتها ولقمة عيشها، في بلدها، لا تستطيع الخروج من أجل أي قضية أخرى، مهما كانت. والثانية، أن معيار الموقف من أي نظام ليست مواقفه اللفظية أو الشعاراتية من أي قضية، سواء فلسطين أو غيرها، وإنما موقفه من حقوق شعبه، وحرصه على تطوره، فمن دون ذلك، يصبح أي موقف مجالاً للاستخدام لمصلحة السلطة، وليس أكثر.

سادساً، في ما يخص الثورة السورية، لا يملك الفلسطينيون في الداخل ما يقدمونه عملياً للسوريين، لذا الحديث هنا يتعلق بمجرد موقف أخلاقي وسياسي، كما أنه لا يتعلق بموقف السلطة فذلك له حديث آخر. في هذا المجال، كما أن قضية فلسطين عادلة، بغض النظر عن القوى التي تتصدرها، أعجبتنا أو لم تعجبنا، لأن الوقوف مع الحرية والعدالة والكرامة والعدل لا يشترط عليه، وهو أمر أخلاقي ومبدئي، فبالمثل فإن قضية الشعب السوري عادلة، وهي تتلخص بالتخلص من نظام استبدادي حكم البلد منذ نصف قرن، وهو نظام قوض الدولة لمصلحة السلطة، وأعاق المواطنة وصادر حقوق المواطنين، وحول الجمهورية إلى مملكة أو مزرعة متوارثة، وهو مسؤول عن سقوط الجولان وعن سياسات إقليمية أضرت بالفلسطينيين واللبنانيين، وذلك بصرف النظر عن القوى التي تتصدر مشهد المعارضة، والتي تجوز عليها ملاحظات وتحفظات كثيرة، لأن الحرية والكرامة والعدالة لا تتجزأ، ولا يشترط عليها، أيضاً.

سابعاً، في ما يخص الجهات المتصدرة المعارضة، ومع كل التحفظات عليها لارتهاناتها، ومشكلاتها وهشاشتها، فإنه لا تجوز المساواة بين الضحية والجلاد، لأن المسألة الأساسية هنا هي الوقوف مع الشعب لا مع جهة سياسية ما، ولأن الخطيئة الأساسية هي نظام التسلط والاستبداد الأسدي، الذي حرّم على السوريين السياسة والأحزاب والرأي الآخر طوال نصف قرن. أيضاً، لا تجوز المساواة بين غير متساويين، في ما حصل في سوريا في السنوات العشر الماضية، لأن النظام هو الذي يمتلك الطائرات والدبابات والمدفعية والبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية ومعه حليفان قويان (ميليشيات إيران وطائرات روسيا)، علماً أن النظام هو الذي واجه المتظاهرين السلميين بالعنف المطلق في السنة الأولى للثورة، وهو الذي دفع الناس العزّل من السلاح إلى طلب العون الخارجي واستدرج الثورة الى مربعه أي مربع المواجهات المسلحة، كما حصل مع الفلسطينيين إبان الانتفاضة الثانية. فوق ما تقدم، لا يمكن عقد مقارنة بين النظام والمعارضة، إذ إن القوة التدميرية للنظام هي التي شردت ملايين السوريين وقتلت مئات الآلاف منهم ودمرت عمرانهم. مسؤولية الفصائل المسلحة والكيانات المدعومة من الخارج أنها خربت الثورة، واستنزفت قوى الشعب السوري، وهذا صحيح، لكن دورها يظل ضئيلاً جداً إزاء ما ارتكبه النظام

ثامناً، ثمة حساسية لدى فلسطينيين كثر، في الداخل والخارج، من عقد أي مقارنة بين جرائم إسرائيل وجرائم النظام، لكن ما يفوت الجميع، أولاً، أن تلك المقارنة مسؤول عنها النظام، وأن الجريمة جريمة، مهما كان حجمها، ولا يمكن أن تغطي جريمة على أخرى، أو أن يغطي مجرم على آخر. ثانياً، وهذا هو الأهم، تلك المقارنة بين جرائم إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والمصطنعة وجرائم النظام الأسدي لا علاقة لها بعدد القتلى والمشردين، فقط، وإنما هي تتعلق تحديداً بأن إسرائيل لا تقتل في شعبها، في حين أن النظام الأسدي يمعن قتلاً وتشريداً في شعبه، ثم إنه لا يطلق رصاصة على إسرائيل التي تتعمد قصفه وإذلاله بين يوم وآخر!

يا أعزائي، وباختصار، فلسطين ليست مجرد قطعة أرض، فهي معنى للحرية والكرامة والعدالة أيضاً، فلا تقتلوا هذا المعنى، وهذا أكثر ما ينطبق على قضية السوريين…هذا هو الموقف السياسي والأخلاقي، الذي ينتصر لفلسطين حقاً، فالحرية لا تتجزأ ولا يشترط عليها.

  • نشرت في موقع “درج”، 29/9)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *