رحلة توثيق الذاكرة الشعبية الفلسطينية بين الماضي والحاضر

نحو الجنوب الغربي من مملكة السويد، في مدينة هلسنبوري ذات الكثافة العربية والفلسطينية والجاليات المهاجرة إلى هذا البلد، يسكن الباحث والمؤرخ الفلسطيني أحمد الباش مع أسرته، منكباً جل وقته على حاسوبه الذي يحوي الكثير عن وطنه فلسطين، سواء الآلاف من الصور القديمة والحديثة عن القرى والمدن الفلسطينية بما فيها أحوال سكانها قبل وخلال وبعد الاحتلال الإسرئيلي إلى يومنا الحالي. وكذلك المئات من الخرائط والوثائق التي نشرت عن فلسطين منذ عشرات السنين. وفي زاوية من زوايا أحد ملفاته الإلكترونية، اطلعنا الباش على العشرات من المقابلات الشخصية بالصوت والصورة لمسنين من كافة المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، عايشوا أحداث النكبة عام 48 وثقها الباش على نفقته الخاصة كمرجع مرئي عن تاريخ النكبة الفلسطينية.
وصل أحمد الباش إلى السويد عام 2014 مهاجرا إليها من مخيم اليرموك في دمشق الذي ولد فيه عام 1963 من عائلة فلسطينية تنحدر من قرية تحمل ثلاثة أسماء، طيرة الكرمل، وطيرة حيفا، وطيرة اللوز، بقضاء حيفا بعد ان هجرت منها عام 48 ابان الاحتلال الإسرائيلي.
درس المراحل الأساسية في مدارس الأونروا داخل المخيم وتدرج في التعليم حتى حصل على دبلوم في دراسات اللاجئين وفي العلاقات العامة، وعلى العديد من الشهادات في مختلف المجالات.
ألف الباش العديد من الكتب والقصص التي في مجملها توثق للذاكرة الشعبية الفلسطينية.
يقول الباش لـ«القدس العربي» أن «الإنسان إبن بيئته ومجتمعه، وللبيئة عناصرها المتعددة التي منها الجغرافية والاقتصادية، والسياسية والعلمية، الاجتماعية والدينية، وهي تساهم مجتمعة في تكوين شخصية الإنسان».
ولعلّ المراحل الأولى من حياته تكون أكثر تأثيرا على شخصيّته، لأنه يكون فيها متلقيا غير مؤثّر وغير فاعل، وقد يكون لتلك البيئة امتداداتها بالتأثير على مجمل حياته، مع إمكانية أن تتلبّسه حتى الممات، وقد يكون الإنسان من الناقمين على تلك التأثيرات، فيزيلها ويتخلص منها لعدم موافقتها له في فترات النّضوج عند تحديد وتبلور فكره ومعتقداته.
«ولدت لعائلة مكوّنة من 11 فرداً، أب وأم وتسعة أبناء، ستة ذكور وثلاث إناث، وكان ترتيبي بينهم السابع. تميّز والدي بصوته الجميل الذي جعله مغنيا شعبيا (المغني الشعبي مصطفى الشاربين «الباش» أبو حسن) لذلك عرف بإحيائه أعراس العائلة، وعائلات الحمولة، وبعض أعراس أبناء القرية، وقد أهّله ذلك أيضا إلى تصوير العرس الفلسطيني بتفاصيله الكاملة لإحدى المحطات التلفزيونية العربية.
كما ان دور شقيقي الأكبر الباحث الدكتور حسن الباش رحمه الله على إثراء معرفتي في الذاكرة الشعبية كان كبيراً حيث ألف قرابة الخمسين مؤلفاً في التراث الشعبي والأدب الفلسطيني ومقارنة الأديان، تعد اليوم من المراجع المهمة للباحثين وطلبة العلم. وأنا كلاجئ فلسطيني مشرّد عن وطنه قسرا، ينحدر من عائلة فلسطينية تنتمي لقرية كانت في العام 1948 من أكبر القرى الفلسطينية في لواء حيفا من حيث عدد السكان 10- 12ألف نسمة آنذاك، ولدت في الشّتات الفلسطيني مخيم اليرموك، الذي استحق بجدارة تسميته بعاصمة الشّتات الفلسطيني.
كان لهذه المعطيات التأثير الكبير على شخصيّتي، وكلّ التأثير على مراحل نشأتي الأولى، وحدّدت مسيرتي البحثية فيما بعد، والتخصص الذي اخترت أن أعمل به».
موسوعة المخيمات الفلسطينية
هي عمل توثيقي موسوعي كبير، قد يصل عدد صفحاته لأكثر من 2000 يتناول جميع نواحي الحياة في المخيمات الفلسطينية في أماكن عمل الأونروا الخمسة (سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة) منذ عام 1948 حتى الآن وما طرأ عليها من تبدلات على كافة الصّعد.
ويقول الباش «مع إنطلاقة انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي سبقها بأشهر تشكيل لجان حق العودة في سوريا، أصبحنا بحاجة لمواكبة المخيمات الفلسطينية في حراكها أثناء تلك الانتفاضة، كونها كانت المحرك الأساسي لها، ولعدم وجود مراجع تبحث بشكل موسع عن تلك المخيمات، أخذت على عاتقي البدء بعمل موسوعي يشمل توثيق كل المخيمات الفلسطينية، وجمعها في كتاب واحد، والتي كانت تقارب السبعين مخيما، ما بين مخيم مدمّر ومفرّغ، ومزال ومخيم قائم.
وبدأت مشروعي الكبير بحصر تلك المخيمات والبحث عن المعلومات التي توثق حراكها ونشأتها والمراحل التي مرت بها والتبدلات التي طرأت عليها. واستمرت عملية البحث قرابة السّبع سنوات بشكل متقطع، وكان هناك شح بالمواد، ورغم ذلك جمعت مادة قاربت الألف صفحة بين صحف ومجلات وصور وخرائط وإحصاءات.
وبدأت بعدها أتجهز لطباعة الموسوعة بجزئها الأول مخيمات سوريا، ولكن اندلاع الحرب في سوريا في 2011 اضطرني لمغادرة البلد إلى مصر ثم ليبيا حتى وصلت إلى لبنان عام 2014. ما أتاح لي المكوث فيها خمسة أشهر بانتظار لمّ الشّمل إلى السّويد، فتمكنت من الاطلاع عن كثب على المخيّمات الفلسطينية هناك، ما ساعدني لاحقا على إعدادي للجزء الثاني من الموسوعة، مخيمات لبنان. وفي نهاية عام 2014 وصلت السويد، وتفرغت للكتابة في الموسوعة، وتمكنت من إصدار الجزء الأول منها والذي وقع في 250 صفحة وتضمن التوثيق لـ15مخيما في الساحة السورية. وفي العام 2020 أردفته بطباعة الجزء الثاني للموسوعة والذي وقع في 450 صفحة، وتضمن الكتاب التوثيق لـ16 مخيما، وللعديد من التجمعات الفلسطينية الأخرى في لبنان.
واستعد الآن لطباعة الجزء الثالث منها موسوعة المخيمات الفلسطينية في الأردن والتي أوثق فيها لـ13 مخيما وثمانية تجمعات هي بمثابة مخيمات غير معترف بها من قبل الأونروا، والكتاب يقع بحدود ثلاثمئة صفحة».
التأريخ الشفوي وإحياء الذاكرة الشعبية
يقول أحمد الباش فيما يخص تعمقه في مجال الذاكرة الشعبية الفلسطينية «بدأت العمل في التاريخ الشفوي وتسجيل لقاءات شهود النكبة الفلسطينية منذ العام 1995 وأجريت عشرات اللقاءات مع من عاش في قريتنا طيرة حيفا، لإعداد كتابي الأول (طيرة حيفا). استمر ذلك لثلاث سنوات.
ولكن في تجمع العودة الفلسطيني الذي كنت عضواً فيه، كلّفت في العام 2009 برئاسة قسم التوثيق والتاريخ الشفوي فأنجزت مع فريق عمل متخصص قرابة الألف لقاء بمعدل ثلاثة آلاف ساعة».
هنا ممكن أن ننوه بأن الهدف الأساسي من تلك التسجيلات كان لكتابة الرواية الحقيقية للنكبة الفلسطينية، ولإحياء القرى الفلسطينية المدمرة وتوثيق معالمها التي كانت عليها قبل النكبة، كما الاستفادة منها في توثيق المخيمات الفلسطينية، إضافة لإعداد برامج تلفزيونية تصبّ في تلك الأهداف.
نتاجات غزيرة ونشاط دؤوب
وليست موسوعة المخيمات الفلسطينية النتاج الوحيد للباحث والمؤرخ أحمد الباش رغم انها تعد من أهم مؤلفاته، فقد نشر العديد من الكتب والدراسات والأبحاث تنوعت من ناحية الشكل والمضمون غير انها تتلاقى عند مشترك ربما يكون موحداً لقلمه الذي أضحى محملاً بالذاكرة الشعبية الفلسطينية التي حسب تحليله قد اكتسبها من بيئته وأسرته. ومن هذه المؤلفات: «طيرة حيفا كرمليّة الجّذور فلسطينيّة الانتماء» و«سلسلة القرى الفلسطينية» في قصص للأطفال و«المأكولات الشعبية الفلسطينية-هوية وطن» ترجم إلى اللغة السّويدية وكتاب «حق العودة في القرار الرسمي العربي» و«قراءة نقدية لتجربة العمل الأهلي الفلسطيني في سوريا (لجان حق العودة)».
عن القدس العربي