رحلة العودة إلى الشمال.. فرح يمتزج بحزن وفَقْد

“نعم عدنا، لكننا تركنا في رمال الجنوب جسد والدي، وزوج أختي، وقدمي وبضعاً من أصابع يدي التي بُترت في استهداف للاحتلال. أذرف الدموع في هذه اللحظة لفقدي الكثير والكثير؛ بفقدان والدي، وكل من تراهم الآن فقدوا أحباء دفنوهم، ويبتعدون الآن عن قبورهم، لكن جرحهم ما زال ينزف في القلب. كلنا نحاول أن نُظهر الفرحة لنغيظ المجرمين الذين حاولوا إبادتنا وهزيمتنا ومحو شعبنا، لكن رغماً عنهم ها نحن نعود، وسأبيت اليوم لأول مرة منذ عام و3 أشهر في منزلي، وليس في خيمة.”

هذا ما قالته الفتاة ربى الزهد، والدموع تُغْرِق عينَيها، في أثناء عبورها حاجز نيتساريم، عائدة إلى منزلها في حي الدرج في مدينة غزة، بعد أن نزحت منه في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وعلى الرغم من الضرر الكبير الذي لحق بمنزلها، فقد أصرت على العودة إليه، وحالها كحال مئات الآلاف من الذين عبروا من جنوب القطاع إلى شماله.

واكبنا هذا المد البشري على مرمى البصر، وانتظرنا لمدة يومين في منطقة تبة النويري المتاخمة لمحور نيتساريم مع آلاف النازحين الذين باتوا في العراء، في انتظار انسحاب قوات الاحتلال من المحور الذي عاد إلى مسماه القديم، المعروف باسم “مدينة الزهراء”.

وخلال الانتظار، أمطرت قوات الاحتلال النازحين بالرصاص مرات عديدة، وهو ما أدى إلى ارتقاء شهداء، وأعداد من الإصابات، وأمضى النازحون ليلتَين في غاية البرودة، بعد أن تركوا خيامهم وفرشهم جنوباً.

وفي صبيحة 27 كانون الثاني/يناير 2025، وبعد إعلان الوسطاء التوافق على العودة، تحوّل المحور الذي اشتهر بمحور الموت (نظراً إلى أن كل من يقترب منه يُسْتَهْدَفُ، وجرت فيه عدة إعدامات ميدانية للنازحين) إلى ممر حياة لمئات الآلاف من الفلسطينيين.

عاد النازحون وَهُمْ يرددون تكبيرات العيد، في أجواء احتفالية، وبعد أن كان صوت الرصاص والمدافع وحده ما يُسمع على طول هذا الطريق، فقد طَغَتْ زغاريد النساء والأهازيج الفلسطينية، في مشهد عودة لطالما تعهّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه لن يحدث أبداً.

كانت رحلة العودة طويلة وشاقة، وقد قطع الجميع الطريق مشياً على الأقدام، نساءً وأطفالاً وشيوخاً ومصابين، وآثار آليات الاحتلال على الطريق جعلت الحركة صعبة للغاية، لكن لم تغب أجواء الاحتفاء بالعودة عن العائدين.

وعلى جانب الطرق، وُجدت هياكل عظمية لفلسطينيين قتلهم الاحتلال على مدار أشهر الحرب، وصُنفوا فلسطينياً بأنهم مفقودون. واتضح أن بعض الهياكل هي لأطفال نظراً إلى صِغَرِ حجم الجمجمة.

شاهدنا الدمار الهائل الذي تعرضت له المناطق التي ضمها محور نيتساريم، فقد عم الدمار الشامل كل مظهر للحياة، وغيرت آلة الحرب معالم الطريق.

توقفنا في منتصف دوار النابلسي، في الجزء الجنوبي الغربي لمدينة غزة، لبعض الوقت، وذلك لنرصد مشاعر العائدين، وعلى الرغم من الفرح العارم الذي كانت تضج به وجوههم، فإن الدموع كانت حاضرة، فكثيرون هم مِمَّن نزحت عائلاتهم بكامل عددها، وعادت بأعداد أقل، أو لم يعد منها أحد جرّاء المجازر الوحشية التي استهدفت مناطق نزوحهم.

وفي كل مكان كنا نرى لحظات مؤثرة لعائلات كانت نازحة جنوباً، والتقت أخيراً أبناءها الذين صمدوا في مناطقهم ومنازلهم شمالاً. ومن المواقف المؤثرة أن شاباً قابل عائلته في منطقة الشيخ عجلين على ساحل مدينة غزة، فاحتضن والدته بحرارة حتى اكتشفت أن يده مبتورة، فصاحت: “وين إيدك يما، وينها وينها، يا حسرتي على شبابك”، وكان قد أخفى عنها إصابته كي لا يفجعها، فاستمر العناق مع دموع حزن وفرح.

تصوير محمد النعامي

وتزيَّن ما تبقّى من جدران في المدينة المدمرة بعبارات ترحيبية بالنازحين، وحلّت الأعلام الفلسطينية في مناطق كان يسيطر عليها جيش الاحتلال ورفع عليها علمه.

وأمام تلال رملية وضعها الاحتلال في أحد المواقع العسكرية التي فككها قبيل الانسحاب، قابلنا السيد محمود صافي وهو يستريح على جانب الطريق، وهو شيخ ثمانيني صمم على العودة إلى الشمال على الرغم من دمار منزله ومنازل أبنائه بكرسي متحرك، وقال إنه رفض طلب أبنائه الانتظار حتى تتيسر حركة السيارات، وسارع في العودة إلى قرية بيت لاهيا التي دمر الاحتلال معظمها.

وقال الشيخ محمود صافي في حديث إلينا: “ما زلت أذكر النكبة وكيف هاجرتُ أنا وعائلتي من قرية دير محيسن، وعشت طفولتي وشبابي في الخيام والمنازل الطينية، على أمل أنها موقتة وأن العودة قادمة، حتى فُجِعْنَا بالنكسة وهُجِّرنا مجدداً. لهذا كان النزوح قاسياً ومؤلما بالنسبة إليّ، وكنت أراها نكبة أُخرى، لكن العودة الآن بددت هذا الخوف، وأثبتت أن ما يؤخذ بالقوة لا يُسترد إلاّ بالقوة.”

وأضاف: “عشتُ في الخيام، وتنقلتُ من الشمال إلى مدينة غزة، ومنها إلى مخيم البريج وسط القطاع، ومنه إلى مدينة خان يونس جنوباً، ومنها إلى رفح، ثم إلى دير البلح، ثم قرية الزوايدة وسط القطاع، والآن أعود إلى بيت لاهيا، وودعتُ 4 من أحفادي وقد استشهدوا في مواصي خان يونس، وخسرت كل ما أملك. وعلى الرغم من كل هذا، فإنني أعيش شعوراً لم أعشه من قبل، وهو شعور العودة، وسأضع في مكان منزلي خيمة وأكمل حياتي بفخر.”

وخلال رحلة العودة، استوقفتنا حماسة الأطفال ولهفتهم للعودة إلى مناطقهم، بعد أن أمضوا جزءاً من طفولتهم في النزوح، بعيداً عن مقاعد الدراسة، وفي أجواء من الموت والخوف.

وعلى الرغم من طول الطريق والجهد الكبير التي بذلوه في السير، فإن أكفهم لم تتوقف عن رفع شارات النصر، بعد حرب اعتبرهم الاحتلال خلالها هدفاً مستباح الدماء، إذ ارتقى أكثر من 17,000 طفل، بينما لا يزال الآلاف غيرهم في عداد المفقودين حتى الآن، ويُرَجَّحُ أنهم تحت الأنقاض، ويتّمت الحرب 38,495 طفلاً، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي.

والجدير بالذكر هنا أن المناطق التي عاد إليها النازحون تفتقر إلى أدنى التجهيزات والخدمات والبنى التحتية، إلى جانب كمّ الدماء الهائل في المنازل والمراكز الصحية والحكومية.

عن المؤلف: 

محمد النعامي: كاتب صحافي من غزة.

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *