رجال في الأرض: دقوا جدران الخزان ولم يسمعْ أحد!
![](https://www.palestineforum.net/wp-content/uploads/2024/09/بخط-احمر-1-717x1024.jpeg)
![](https://www.palestineforum.net/wp-content/uploads/2024/02/خالد-الحروب.jpeg)
دقَّ احمد ومن معه جدران الخزّان. دقّوه عالياً. كان درس الخزان ورجاله الذي صُلِبوا في الشمس قد تخزّن في وجدان الأجيال اللاحقة التي عاتبها غسان. ها قد طرقنا الخزانَ يا غسان، … لكن لم يرد أحد. صرخنا عاليا، … عالياً بأعلى ما نستطيع. سمعَ الجميعُ في الخارج، لكن كل ما فعلوه انهم حاصروا الخزان من كل جهة. أبو الخيزران واقاربه وحرس الحدود انضموا الى الحصار. سدوا المعابر ومنعوا عنا الماء. زودوا عدونا بالشاحنات، لم نصدق اول الأمر، قلنا أخطأ السائقون العنوان. بصقوا في وجوهنا يا غسان. صارت غزة وقطاعها خزاناً كبيرا يخنقها الظلام والبرد والجوع، تحت الأرض وفوقها. يتفرج السادة الانذال والاخوة الانذال علينا مسرح موت جماعي، يحملون دفاتر واوراق تتحبّرُ بإحصاءات الموتى والجرحى والمفقودين. دفاتر فوق دفاتر تُحصي دمار البيوت والارواح والحارات الممحية.
ماذا حصل لساعديه المفتولين تحت الأرض، تحملان السقف شهوراً طويلة بعيدا عن الشمس والهواء والعناق؟ هل تشققا ام ازدادا صلابة؟ ماذا حصل لعينيه في وحل العتمة؟ أخفتَ بريقهما، ام صارتا اشد إبصاراً؟ لجسده قليل الطعام، هل نحل وتعود على قلته فبرزت عظامه؟ لروحه وعقله المشوشان بعائلته فوق الأرض، لا يعرف من قضى منهم ومن بقي؟ هل صمدت رئتاه تتنفسان ما تبقى من هواءٍ اثقلته رائحة دماء انفجرت فيها قنابل ففارت ثم تجمدت وعلقت في الفراغ؟ هل اهترأ حذاؤه العسكري من طول مسافات قطعها في أنفاق الخزان الكبير؟ هل تسرب ماء المطر وطين الإغراق البارد الى قدميه فلسعهما؟ ماذا يرتدي الآن؟ هل غير ملابسه في الأشهر الطويلة؟ اين ينام وكيف يغفو قلبه وهدير الدبابات يقطّع الوقت فوق رأسه بأمتار، وصواريخ طائرات مجنونة تقصف بعهر فاجر. هل تحمّم مرة او مرتين؟ هل يعرف اتجاه القبلة عندما يتمنى السكينة في ركعة او ركعتين؟
لمّا ينام، هل ينامُ حقاً؟ يغمضُ جفنيه فيقفز على مسرحهما طفله الصغير يرقص ويضحك ويلثغ بابا، بابا، … ينداح من عينيه دمعٌ صامت، يكبته بحرقه كي لا يفضحه امام رفيقه النائم بجواره. رفيقه يتظاهر بالنوم ايضا، إذ ترقص طفلته هو الآخر في حدقات عيونه ويحضنها بدموعه الصامتة ايضا. هل يتوسد كل منهما سلاحه تحت رأسه فتختلط رائحة الفولاذ بشعره؟ كيف ينامان ويقومان، شهورا، بحذاء تقرح مع القدمين، ببنطال فقد لونه وقوامه، وسترة تخشبت لكنها صمدت فرشة ًولحاف. يرمش في الليل ببطء، يغمض عينيه ثانية فتظهر زوجته بين الجفون، كابيةٌ ترتعد، تجمدتْ الدموع في عينيها السارحتين، تبحلقان في شيء ما كأنما تترقبان موتاً قد يدق جبين الطفل فجأة. تحضنه وتعصره لصدرها … يرتجفان في برد خيمة نذلة ثقوبها لا تصد المطر، لكن تمتص قيظَ الشمس. هي لا تعرف شيئا عن زوجها الذي غاب في الأرض. أمه تظهر في الرمشة الثالثة، ترفع يديها للسماء، … يرتطمُ نحيبُ دعائها في قلبه فيلتاع.
كان احمدُ جسورا منذ اليفاعة، فالتحق بفيلق من خلقوا المستحيل تحت الأرض … عانقوا اسراراها هناك، حفروا بأظافرهم معجزة. لو كان آخرون من قد قاموا بها، لو كانت في بلد آخر، في زمن آخر، لهرعت دراما الكوكب كلها تصور الاسطورة وتنشر فرادتها في كل مكان. لكن مر الوقتُ ولم يأتِ النصر. سيل الدم طمر عمق المعجزة. خذلوا احمد، خذلوه كثيرا. جسده صفائح صخر رغم الشهور الطويلة، لكن روحه تقرحت. رأسه مُثقل بمئات الأشياء والصور … أراحه على صندوق رصاص تلون بالتراب الطيني، وسرح. انفتحت سقف النفق كاملاً ورأى سماءً زرقاء صافية. بقايا غيوم بيضاء تتكسل، فيها وجوه ناسه وحارته. ما أجمل السماء لما نراها من تحت الأرض. سعلَ رفيقه المتظاهر بالنوم. فطار حلم السماء المفتوحة. تذكر تعبه المُعبأ في كل زوايا جسده. كان يوماً طويلاً بركض طويل وشهيق قصير، انتهى بمحاولة دفن مجموعة شهداء دُمّر عليهم نفق قريب. كيف يدفنون الشهداءَ هناك، تساءلت غيومٌ تحوم في السماء تسود جزء من بياضها بدخان القنابل.
… صلوا عليهم صلاة الشهيد، ارتاحوا قليلاً، … همس احمد لرفيقه: “نفسي في كاسة شاي سخنة مع نعنع”. لم ينتظر الرد، رفيقه ظل صامتا. اه لو يتحدث رفيقه الصامت ويصمتْ كل العالم. رفيقه كان قد خرج قبل اسابيع الى فوق الأرض، قاتلَ، … قاتلَ، ثم عاد. هو من اصلبهم. لم يُصبْ جسده بأذى، … لكن جُرح فيه شيء آخر! بعدها لم يعد ينطق. التحفَ الصمت. كلُ ما حول احمد ضجيج، فيشتاق الى الصمت. من اين يأتي الصمت وسط زخ القذائف الهادر. ان لم تخترق الأرض، صوتها يفعل.
فوق الأرض حيث مسرح المذبحة، انتصب مسرح الملامة. تكاثر الدم علينا فأخرج سوءً كثيرا. صار احمد مُلاماً. أحمدُ المرشح للبطولة والنصر، أحمد الشهور الطويلة في الأرض ورطوبتها، في الليل وظلامه المديد، في المجهول واحتمالات الموت القصوى، في ساعات نومه القصيرة التي يحتلها صغاره … هل سبقوه في الموت؟ احمدُ السواعد المفتولة تحمل صخور الجليل وتُدهش سيزيف الكون صار مُلاماً: لماذا طرقتَ جدران الخزّان؟ احمدُ لا يعرف الكثير في السياسة. لا يعرف من قرر ومتى ولماذا والى اين؟ لكنه يعرف خارطة البلاد المنقوشة في صدر الدار في المخيم، يعرف حكايا الجد والجدة لما طردوا من قريتهم في الشمال، يعرف شوارع المدن السليبة وأسماء النجوم الذين تسلقوا حبال سمائها وظلوا هناك يبتسمون. نجوم حياته صاروا مذ كان طرياً، وظلوا كذلك الى ان صار قيد الصلابة. يعرف انه جزءٌ من حكاية أكبر، كان يعرف ان الخزان يضيق ولا كان بد من طرقه وتحطيمه.
قال سارد الحكاية العليم: … في تاريخ حصارات المدن ليس ثمة حصار كخزّان غزة. “هانوي” أطبق عليها الحصار، لكن ساندها حلفاء امدوها بلوازم الصمود. أنفاق “سايغون” حوصرت، لكنها كانت مفتوحة على الجوار الكمبودي. “ستالينغراد” خنقها الالمان، لكن امدادات المدينة وجيشها بقي منها الكثير ما ساعدها على هزيمة النازيين. حاصر العثمانيون “فيينا”، بيد انها صمدت لأن طرقا ومنافذ ظلت مفتوحة. حتى حصار المسلمين في شعب بني هاشم اخترقه “نبلاء الجاهلية” وظلوا يزودون المحاصرين بما ابقاهم على قيد الحياة والكرامة. حصار غزة هو الاستثناء في التاريخ: هنا اختفى النبلاء، تيتم الأفق من الفرسان. لكن تكاثرت طوابير “الاخوة الانذال” تساند المحتلين، تزودهم بما يقويهم على حصار اهل احمد فوق الأرض، وحصار احمد ورفاقه تحت الأرض. … في كل تواريخ الحصارات كانت هناك ثغرات ما تساند المحاصرين وتوفر لهم ولو اقل القليل. إلا في حصار خزّان غزة. انقسم أفضلنا الى لائمين لأحمد تحت الارض، او حاملي دفاتر وكاميرات تؤرخ موت ناسه فوق الارض. نكتب … نكتب … نكتب، … نكتب ببلادة، كما اكتبُ هنا. نظن اننا نفعل شيئاً.
… نعلن نحن الموقعون على وثيقة الخذلان: يخنقنا العجز، وتبلدنا الكتابة. نسمعُ دقات الخزان، تُدمى قلوبنا، نشتم ونغضب في وجوه بعضنا، ثم نعاود ارتشاف القهوة، وننام طويلاً. نصحو، نفطر خبزاً ساخنا، نداعب أولادنا، ثم نذهب الى اعمالنا، ونمازح زملاءنا. وفيما تبقى من وقت نعاود الكتابة عمن هم فوق الأرض، نتفنن في توصيف وجعهم وصراخهم قبل موتهم. نلعن العدو من الصباح الى المساء، ونلعن أمريكا من المساء الى الصباح. نفشُّ غلنا في مذيعة الاخبار، ونسبُّ المعلقين باردي الوجوه والاعصاب. وفي زحمة إحصاءات الشهداء وتركيب عدادات الموت على نواصي الدمار، ننسى احمد المزروع في الأرض. لا نعرف ان بقي حيا، … ان ما زال يتنفس، … وأن الهواء صار بخيلاً على قلبه ورئتيه، … وأنه صار طيفاً من بياض يركض حافياً تحت الأرض من حد الماء الى حد المعبر، يحضن شيئاً غامضاً الى صدره، ويهمس الى أطياف لا نراهم.
قال السارد العليم: … حتى في الكتابة، أدنى المهمات التي تنطعنا لها، نفشل في الوفاء لأحمد الخزّان، … نفشل في الإيفاء بوعدنا لغسان بأن نطرق جدران الخزّان من آنذاك فصاعدا. من سيكتب قصة احمد؟ … كيف نعرف تفاصيل الرواية الأكثر دموية وبطولة في تاريخ فلسطين وفي قلب ارضها. … اين تراه كتب وصيته؟ ومن سيرصد أسماء الالاف من رفاقه ممن انزرعوا في تراب البلاد الأحمر: … هناك جواتها، … هناك في عمق اعماقها حيث تتكون جذور الزيتون والسنديان معلنة بداية رحلتها المديدة. … هناك ظلوا، … هناك دفنوا. كيف عاشوا في ال “هناك”، كيف قاتلوا، كيف ناموا، وكيف تحورت، او انصلبت، او تحللت أجسادهم؟ وعلى أي عمق تشبعت جذور التين وداليات العنب بدمهم، وتعاهدت معهم ان تثمر لمن تبقى من اولادهم تينا تلون بالأحمر وعنباً حلوا تطعّم بعرق السواعد؟
(النص أعلاه واحد من نصوص عربية وفلسطينية عدة نُشرت حديثاً في كتاب “بخط أحمر: كتابات عربية حول السابع من أكتوبر”، دار طباق للنشر، رام الله، 2024)