رئيس أسير…لشعب أسير…
تلك هي فحوى الدعوة التي أطلقها الروائي اللبناني إلياس خوري قبل أسابيع، إذ “فلسطين أسيرة، وتحتاج إلى قيادة تشبهها.. لا أن تكون سلطة من لا سلطة له سوى التسلّط على الناس.. ومع هذا التحول الكبير يجب أن تبدأ ورشة إعادة بناء المعنى.. أسير يقود بلاداً أسيرة”، وذلك في معرض دعمه لترشيح الأسير مروان البرغوثي لمنصب الرئاسة في الانتخابات الفلسطينية، وهو ما تم التعبير عنه في بيان صدر عن عشرات من المثقفين العرب.
الفكرة هنا، أولاً، أن إقامة السلطة الفلسطينية منذ 28 عاما طغت على كل شيء، على المعنى الحقيقي لقضية شعب فلسطين التي تأسست على النكبة وإقامة إسرائيل (1948) وولادة مشكلة اللاجئين، وعلى أزمة حركته الوطنية، أو بالأصح أفول تلك الحركة، التي أضحت سلطة تحت الاحتلال، والأخطر من كل ذلك أنها فاقمت من عوامل تجزئة هذا الشعب، وهمّشت كيانه الوطني الجامع (منظمة التحرير الفلسطينية)، ما يفترض بأنه آن الأوان لكشف كل ذلك، بكل وضوح للفلسطينيين، وللعالم.
ثانياً، يفيد ذلك بأن الشعب الفلسطيني، أينما كان، أسير بمعنى أو بآخر؛ إذ اللاجئون أسرى التشرد والحرمان من وطنهم وهويتهم وكينونتهم كشعب، والفلسطينيون في 48 أسرى الهيمنة الإسرائيلية والحرمان من المواطنة المتساوية ومن حقهم في الانتماء إلى شعبهم وقضيتهم، والفلسطينيون في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع والقدس أسرى الاستعمار والاستيطان والقمع والحرمان من حقهم في تقرير المصير.
ثالثا، تبعا لما تقدم ثمة معانٍ عديدة للأسر، إذ هو لا يقتصر على حجز حرية إنسان ووضعه قيد الاعتقال في مكان محدّد، ومصادرة حريته، وامتهان إنسانيته، وإنما هو قد يتجاوز ذلك كثيرا إلى حرمان شعب بأكمله من حريته ومن التعبير عن ذاته، وإخضاعه بوسائل القوة والسيطرة والقسر إلى سلطة خارجية محتلّة.
رابعا، يطرح ذلك المعنى أيضا قضية الأسرى المنسيين، أو المغيبين في سجون الاحتلال الذي لم ينفذ من جهته أيّا من استحقاقات اتفاق أوسلو، وضمنها لم يتقيد باتفاقات الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين (قبل أوسلو)، وهي المسألة التي أدت إلى انهيار المفاوضات (2014) التي جرت بتدخل من الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبرعاية وزير خارجيته (آنذاك) جون كيري.
وقد علمتنا التجربة أن الاحتلال يستلزم أيضاً خلق آليات الإخضاع والسيطرة على المجتمع، ويأتي ضمن ذلك استخدام آلية الاعتقال المباشر والتعذيب وامتهان كرامة الإنسان. أولاً، لحرمان المجتمع من نخبة المناضلين والنشطاء والمثقفين وإفقاره بالمعنى المعنوي؛ وثانياً، من أجل ترويع المجتمع، وشل إرادة المقاومة فيه بإفهامه أن ثمن الخروج عن الطاعة سيكون باهظاً جداً، إذا لا معنى غير ذلك للأسر والاعتقال المباشرين، وضمنه الاعتقال الإداري، الذي يمكن تمديده تلقائيا من دون محاكمات.
طوال وجودها في الأراضي المحتلة (1967) عملت إسرائيل على انتهاج سياسات مختلفة لخلق واقع من “الاحتلال المريح” بحسب مصطلحاتها، أو خلق واقع من “القابلية للاستعمار” بحسب تعبير الجزائري مالك بن نبي، ناهيك عن خلق واقع من الاحتلال المربح أيضا. وقد يمكن أخذ الاحتلال الإسرائيلي نموذجاً لذلك بوضعه الفلسطينيين، في الضفة والقطاع، في حالة أسر مطبق، بالوسائل السياسية والاقتصادية والأمنية، وعبر كل المجالات الأساسية للعيش، مع أن هؤلاء غارقون في اعتماديتهم على إسرائيل التي تحتلّهم أو تتحكم بأنماط عيشهم، عبر سيطرتها على مواردهم من المياه والكهرباء والطاقة والاتصالات والمواد التموينية والطرق والمعابر الخارجية والداخلية، وفي مسألة إنفاذ الأوامر العسكرية والقوانين العنصرية عليهم!
ومع كل ذلك يمكننا ملاحظة أن إسرائيل جعلت من الأسر المباشر بمثابة عملية منهجية لترويع الفلسطينيين وإخضاعهم، بحيث أن المصادر الإحصائية سجّلت أكثر من 750 ألف حالة اعتقال في الضفة والقطاع منذ بداية الاحتلال (1967). ويأتي ضمن ذلك استصدار أحكام تعسفيّة مؤبّدة على مئات الأشخاص لعشرات المرات، وأحكام طويلة الأمد، وحالات اعتقال إداري؛ وهي بدعة احتلالية تتضمّن سجن أي فرد من دون أي تهمة، لمدة ستة أشهر يمكن تمديدها لستة أشهر أخرى.
طبعاً قد يبدو هذا الرقم كبيرا بالقياس إلى أن عدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع يبلغ نحو خمسة ملايين نسمة. ومع ملاحظة أن بعض المعتقلين خضعوا لهذه التجربة مرتين أو ربما أكثر إلا أن العدد يبقى كبيراً، بحيث يصعب معه إيجاد عائلة فلسطينية لم تذق مرارة الاعتقال وتكابد معاناتها وويلاتها، وضمنها فقدان الزوج والأب، أو الابن والأخ والأخت والابنة، أو الزوجة، مع فقدان المعيل وتكاليف الإعالة في السجن، وهي باهظة جدا.
وفي تجربة الانتفاضة الأولى، مثلاً، دخل سجون الاحتلال نحو 130 ألف فلسطيني في الضفة والقطاع (1987 ـ 1993)، وفي الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2005) سجّلت أكثر من 70 ألف حالة اعتقال. وبحسب عبدالناصر فروانة، المختص في شؤون الأسرى (أسير سابق)، فإن سلطات الاحتلال ما زالت تحتجز في سجونها نحو 5000 أسير موزعين على قرابة 23 سجنا ومعتقلا ومركز توقيف، بينهم 180 طفلاً، و41 فتاة وسيدة، و6 نواب بينهم القياديّان مروان البرغوثي وأحمد سعدات، و13 صحافيا، و430 معتقلا إداريا، دون تهمة أو محاكمة، وعشرات كبار السن وأكبرهم الأسير فؤاد الشوبكي الذي يبلغ من العمر 81 عاما.
ويأتي ضمن هؤلاء 541 أسيرا يقضون أحكاما بالسجن المؤبد (مدى الحياة) لمرة واحدة أو لعدة مرات، وأعلاها حكم الأسير عبدالله البرغوثي ومدته 67 مؤبداً. أيضا، يقول فروانة إن ثمة 51 أسيرا مضى على اعتقالهم أكثر من 20 سنة، بينهم 26 أسيرا معتقلون منذ ما قبل اتفاقية “أوسلو”، وإن 14 أسيرا منهم قد مضى على اعتقالهم أكثر من 30 سنة على التوالي، فيما يُعتبر الأسير كريم يونس المعتقل منذ 38 سنة أقدمهم وعميد الأسرى. ومنذ الاحتلال (1967) استشهد في المعتقلات أكثر من 200 أسير، منهم 70 معتقلاً استشهدوا نتيجة التعذيب، و51 معتقلاً استشهدوا نتيجة الإهمال الطبي و7 معتقلين استشهدوا نتيجة القتل العمد والتصفية المباشرة بعد الاعتقال، و7 أسرى استشهدوا نتيجة إطلاق النار المباشر عليهم من قبل الجنود والحراس وهم داخل السجون.
وباختصار، كل يوم عند الفلسطينيين هو يوم للأسير، لشعب يخضع بأكمله للأسر، بصورة أو بأخرى، ولكن هذه المناسبة تأتي هذا العام وهم يحاولون تحدي الأسر الإسرائيلي والتحرر من واقع السلطة، بتقديم مروان البرغوثي كمرشح للحرية والتحرر من الاحتلال.
*العرب اللندنية