دَعمُ الولایاتِ المُتَّحدةِ لإسرائيل: رَصيدٌ استراتيجيٌّ أم قوةُ اللوبيهاتِ الصهيونيّة؟ .. حربُ الإبادةِ نموذجاً

-1-

يوجد نقاش جارٍ منذ سنوات حول ما إذا كان دعم الولايات المتحدة لإسرائيل عبر عقود عدة خلت سببه كون إسرائيل ذخراً استراتيجياً للولايات المتحدة، أو أن سبب هذا الدعم، أساساً، هو قوة المجموعات أو “اللوبيهات” المنظمة، كما تسمى أحياناً، التي تعمل بشكل منتظم على التأثير على موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه إسرائيل ولصالحها.  وبالنسبة للموقف الأول، أي أن إسرائيل تشكل رصيداً استراتيجياً للولايات المتحدة، أو في صياغات أقل تجريداً، أن إسرائيل “رأس حربة” للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يبان، لأول وهلة، أنه أيسر للتوصل إليه كاستنتاج دون أي معرفة أو اطّلاع خاص حول الموضوع من قبل ما يعرف بـ”رجل الشارع” أو “امرأة الشارع”، إذ قد يقال، لا يعقل أن يتم إغداق كل هذا الدعم المالي والعسكري على إسرائيل، دون وجود مصلحة كبيرة للولايات المتحدة في ذلك.

لكن، بالمقابل، يمكن، أيضاً، وبالدرجة نفسها من اليسر وغياب المعلومات، التوصلُ إلى نتيجة معاكسة؛ أي أن الحركة الصهيونية العالمية وراء هذا الدعم، ومن منطلق ما يقال عنا نحن العرب، إننا ميّالون لنظرية المؤامرة في تفسير الأحداث السياسية، أي أن هناك مؤامرةً صهيونيةً تسعى إلى السيطرة، أو أنها سيطرت، على القرار السياسي في الولايات المتحدة.  وقد شاهدنا نماذج من هذا النوع في التفسير في الانتفاضات العربية التي بدأت في تونس في نهاية العام 2010، ثم في مصر في 25 كانون الثاني/يناير 2011، وما بعد.  وأحياناً، نجد هذا النوع من التفسير ليس عند “رجل الشارع” فحسب، بل عند طلبة يعدّون للدكتوراه في جامعة بيرزيت أيضاً، وفي نقاشٍ مع بعضهم حول الثورات والانتفاضات العربية.

لن أتناول الموضوع من منظور هذين المدخلين، لأنهما، كما في صياغتي لهما، دون مستوى النقد.  وسأركز على العوامل ونوع المعطيات الضرورية للكتابة حول الموضوع لدعم أيٍّ من الموقفين، والإشكاليات المنهجية التي ترافق هذا النوع من النقاش.  وفي بعض الحالات، كما سأحاجج في حالة حرب الإبادة على غزة، يجتمع العاملان؛ تلاقي المصالح في عدد من النواحي، وتباين المصالح الاستراتيجية أيضاً، وأسباب تغلب عامل على آخر في هذه الحالة تحديداً.    

-2-

وأبدأ بوجهة النظر التي ترى في إسرائيل مصلحةً استراتيجيةً، مشيراً، فقط، إلى عدد من المراحل التاريخية التي يمكن استخدامها لدعم وجهة النظر هذه، وبإيجاز شديد.  وأبدأ بوعد بلفور، أو “إعلان بلفور”، كما يعرف بالإنجليزية، الذي كما تعرفون وعد الحركة الصهيونية بـ”بيت قومي” لليهود في فلسطين.  كان ذلك في نهاية الحرب العالمية الأولى، وبريطانيا مع حلفائها بصدد تقسيم أراضي الدولة العثمانية.  وقد رأت بريطانيا في هذا “البيت القومي”، مرتكزاً أو منطقة نفوذ لها في الشرق الأوسط.  وكان من الواضح أن عبارة “بيت قومي” قد تعني في النهاية دولة، وبخاصة أن بريطانيا كان سيكون لها حكم انتدابي في فلسطين بعد نهاية الحرب.  وقد أيدت الولايات المتحدة في حينه هذا “الوعد”.

هنا من الواضح أن منشأ دولة إسرائيل كان مصلحة استراتيجية لبريطانيا، وربما أيضاً للولايات المتحدة.  وكانت الحركة الصهيونية تعرف، منذ البداية، أنها كحركة كولونيالية استيطانية في أرض ليس لها ستكون في بيئة معادية، وخاصة بعد النكبة، ولكن قبل ذلك أيضاً.  بالتالي، بقيت فكرة جابوتنسكي حول ضرورة وجود جدار حديدي حاجز أمام السكان الأصليين وآخرين، التي كتبها في العام 1923، سياسةَ إسرائيل حتى اليوم، كما أشار نتنياهو في خطاب له في تموز من العام 2023 ذاكراً جابوتنسكي بالاسم.

وقد ترجمت فكرة الجدار الحديدي بطرق عدة، منها المبادرة إلى الحرب مع الأعداء متى توفرت الفرصة، أو إيجاد فرصة كما حصل في حرب العام 1967، إذ ادعت إسرائيل أن إغلاق مضائق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية من قبل مصر هو بمثابة إعلان حرب عليها.  وقد سبق ذلك أن كانت الحركة الصهيونية قد نقلت مركز ثقل عملها من بريطانيا إلى الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد أن أصبح واضحاً أن بريطانيا العظمي قيد الأفول كدولة عظمى، وأن الولايات المتحدة أصبحت هي الدولة الأولى في الغرب من ناحية مقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.

وفي غمرة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة، يمكن القول إن تحالف إسرائيل مع الولايات والمتحدة، والمعسكر الغربي عموماً، كان تحالفاً استراتيجياً.  وبقي هذا الوضع كما هو حتى عقد اتفاقية سلام بين إسرائيل ومصر في عهد السادات.  وعلى الرغم من أن حرب الأيام الستة كانت مصلحة إسرائيلية أولاً، كانت، في نفس الوقت، مصلحة أمريكية أيضاً.  وقد استمرت الولايات المتحدة بالنسبة إلى إسرائيل، وأكرر بالنسبة إلى إسرائيل، رصيداً استراتيجياً فائق الأهمية.  ولكن العكس غير صحيح؛ إذ تضاءلت أهمية إسرائيل الاستراتيجية تدريجياً من منظور الولايات المتحدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وما بعد ذلك حتى اليوم.

أما بخصوص وجهة النظر التي لا ترى أن دعم إسرائيل سببه أنها رصيد استراتيجي، وعلى وجه الخصوص بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أشير، ابتداءً، إلى أنه صحيح أن إسرائيل بقيت تقدم عدداً من الخدمات للولايات المتحدة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، معلومات استخبارية متنوعة، ليس عن الدول العربية فحسب، وإنما عن دول أخرى ليس ضرورةً، في الشرق الأوسط، لكننا شهدنا، أيضاً، تعارضاً استراتيجياً في المصالح بدرجة أو بأخرى.  وأشير منها إلى التالي، على سبيل المثال لا الحصر:

  • الانتفاضة الأولى: بعد مرور سنوات عدة على الانتفاضة الأولى، وعدم تمكن إسرائيل من إخمادها كلياً، قررت إدارة الرئيس بوش الأب السعي إلى حل سياسي “تفاوضي” حفاظاً على “استقرار” الأنظمة العربية الموالية لها؛ كونها نموذجاً لشعوبها المتعاطفة معها، ونظراً لأن الانتفاضة الفلسطينية شكلت عنصر “عدم استقرار في المنطقة”.  وقد شكل هذا الهدف؛ أي استقرار الأنظمة العربية الموالية لها، مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة.  ورفضت الحكومة الإسرائيلية، بشدة، التفاوض من ناحية المبدأ مع أي جانب فلسطيني يمثل منظمة التحرير الفلسطينية، أو وجود أي وفد فلسطيني مستقل في أية مفاوضات.  وكان رئيس الحكومة، في حينه، إسحاق شامير.  وقام وزير خارجية الولايات المتحدة، في حينه، جيمس بيكر بـ 15 جولة مكوكية في المنطقة، وبعد ضغط كبير رافقه رفض إعطاء إسرائيل ضمانات لقرض كانت قد طلبته بـ 11 مليار دولار، تم التوصل للصيغة المعروفة؛ أي تمثيل فلسطيني ضمن إطار الوفد الأردني.  ولم ينجم عن هذا المؤتمر أيُّ اتفاق، وانفض بعد التوصل إلى اتفاق أوسلو في ظل حكومة إسحاق رابين.  وفي هذا التعارض في المصالح الاستراتيجية، نجحت الولايات المتحدة، فقط، في عقد المؤتمر بعد عدة تنازلات فلسطينية كبيرة؛ أهمها عدمُ تمثيل الفلسطينيين لأنفسهم بوفد مستقل.  ومن الواضح ما هي رمزية كون الوفد الفلسطيني ضمن الوفد الأردني؛ أي أن مكان الفلسطينيين هو الأردن وليس فلسطين.
  • الحرب على العراق في العام 2003: بالاختلاف عن الحرب الأولى التي خاضتها الولايات المتحدة ضد العراق في نهاية العام 1991 وبداية 1992 لغرض إنهاء احتلال الكويت من قبل العراق، والتي كانت للولايات المتحدة فيها مصلحة استراتيجية، أي استقلال الكويت كدولة، لم توجد مصلحة استراتيجية لها في خوض الحرب الثانية في العام 2003، وبخاصة من ناحية نتائجها كما سأبين.  وقد لعبت دوراً محورياً في الدعوة للحرب، وتهيئة الأجواء الداخلية، مجموعةٌ عرفت باسم المحافظين الجدد، معظمهم صهاينة مؤيدون لإسرائيل، وبخاصة أن نائب رئيس الولايات المتحدة ديك تشيني كان أحد أعضائها.  وكان تشيني، حقيقةً، الرئيس الفعلي للولايات المتحدة من ناحية نفوذه.  وكان نتنياهو مقرّباً جداً من هذه المجموعة، حتى لو لم يكن رئيساً للوزراء في حينه، ولكنه كان رئيساً لكتلة برلمانية مرشحة للعودة للحكم كما تم في العام 2009.  وأُذَكِّر أن عداء إسرائيل للعراق ليس بجديد، وكما تعرفون، قامت إسرائيل بقصف المفاعل النووي العراقي في العام 1981.  وموقف إسرائيل معروف من ناحية استراتيجية، أي أنها لن تقبل وجود دولة قوية في الشرق الأوسط معادية لها.  وما زال هذا الموقف على حاله كما نرى الآن من خلال موقفها من إيران.  وبعد أن بان أن وجود أسلحة دمار شامل في العراق كانت كذبة كبيرة استخدمت لأغراض التأليب على الحرب، أصبح الرأي السائد في الولايات المتحدة بعد الحرب وحتى الآن، أن الحرب على العراق كانت “غلطة كبيرة”.  ولم يجرؤ أحد في وسائل الإعلام الرئيسية على الحديث عن دور إسرائيل في الحرب ومسانديها في الولايات المتحدة بوضوح.  وقد دفعت الولايات المتحدة ثمناً كبيراً في هذه الحرب، فقد كلفت تريليون فاصلة واحد مليار دولار، أي ألف ومائة مليار دولار، هذا عدا عن مقتل 4500 جندي، وجرح 32 ألفاً.  لكن، ما هو أهم من ناحية استراتيجية، هو تعاظم نفوذ إيران في العراق بعد الحرب، وما زال هذا النفوذ قائماً حتى الآن، السياسي والميداني، الذي نجم عنه إطلاق عدد من المسيرات من العراق على إسرائيل ضمن إطار ما يعرف بوحدة الساحات خلال حرب الإبادة على غزة.
  • كما هو معروف توجد للولايات المتحدة قواعد عسكرية في كل دول الخليج العربي، وأُضيفت إليها قاعدتان أخريان صغيرتان إبان الحرب بالوكالة على سوريا، واحدة في الأردن وأخرى في جنوب سوريا.  وإذا كانت الولايات المتحدة ترعى مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بنفسها، فلماذا تحتاج إسرائيل؟ وإذا كانت إسرائيل رصيداً استراتيجياً للولايات المتحدة فيه تلاقٍ في معظم المصالح، فلماذا تحتاج الحركة الصهيونية هذا المجهود الكبير الذي تقوم به داخل الولايات المتحدة، وعلى أكثر من صعيد، للتأكد من أن سياسات الولايات المتحدة فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني ومواضيع أخرى عدة، تتوافق مع مصالح إسرائيل، إن كان هناك تلاقٍ في المصالح أصلاً؟

ما يجري إهماله من قبل فرضية إسرائيل كرصيد استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة هو: أولاً، البنية التنظيمية الكبيرة التي عملت الحركة الصهيونية على بنائها في الولايات المتحدة والدول الأوروبية أيضاً، وامتداد هذه البنية في تلك المجتمعات وفي الجامعات والمؤسسات المجتمعية المختلفة، والمراكز كافة التي يترك عملها أثراً على إسرائيل.  وما يجري إهماله، أيضاً، الوقائع والحقائق والنتائج التي حققتها هذه البنية التنظيمية، منها على سبيل المثال لا الحصر، جعل تهمة اللاسامية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية بشكل خاص، سلاحاً فتّاكاً يستخدم ضد خصومها.  هذا إضافة إلى مسعى مستمر للتأثير على التعيينات في دوائر القرار التي تؤثر على إسرائيل، وبخاصة في الولايات المتحدة، منها وزارة الخارجية، والسلك الدبلوماسي، ومستشارو رئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس الأمن القومي، وأماكن أخرى عديدة، أهمها من يترشح للكونغرس بمجلسيه، ومن يتم دعمه، ومن يجري شن حملة ضد ترشحه، … وهكذا.  والأمثلة عديدة ولا يتسع المجال هنا لذكرها.  والقسم الأكبر منها معلومات علنية يمكن لباحث يعرف عن ماذا يبحث، الحصول عليها.

وفي حالة التعيينات في إدارة بايدن، على سبيل المثال، أهم شخصين في رسم مواقف الولايات المتحدة تجاه حرب الإبادة ها وزير الخارجية بلينكن، الذي رأينا كيف قدم نفسه في أول زيارة له لإسرائيل بعد السابع من أكتوبر (أي كما قال، إنه يأتي كيهودي، رغم أنه كان يحمل في الوقت نفسه صفة وزير الخارجية)، والآخر هو عاموس هوكستين، المساعد الخاص للرئيس، وهو إسرائيلي، ومن مواليد إسرائيل، وجندي سابق في الجيش الإسرائيلي.  ولم يتجرأ أحد على القول إنه يمكن أن يوجد تعارض في الأدوار وتعارض في المصالح أيضاً في حالة هوكستين على الأقل.  وتجدر الإشارة إلى أن بلينكن وهوكستين هما الشخصان اللذان أعطيا الضوء الأخضر لإسرائيل لتوسيع الهجوم على لبنان حسب أحد المواقع الإخبارية الرئيسية.  وقد رأينا الأمر نفسه في مناسبات سابقة، على سبيل المثال، في مفاوضات كامب ديفيد في تموز من العام 2000، إذ كتب الصهيوني دنيس روس سنوات بعد الحدث، والذي لعب دوراً أساسياً في المفاوضات، وأقتبس: “أننا كنا محامين لإسرائيل”.

وأضيف هنا أنه لا يمكن حشر كل، أو حتى معظم، ما قلته حتى الآن في فرضية عامة مغايرة لما قلته، ومجردة من تفاصيل كثيرة وأدلة محسوسة، ومعلومات علنية موجودة، لا يمكن حشر كل هذا في فرضية من نوع أن من يؤثر على سياسات الولايات المتحدة عموماً، وبشكل خاص تجاه إسرائيل، هو شيء مثل الصناعات الكبرى، أو رؤوس الأموال البنكية، أو المجمع العسكري الصناعي، ثم الافتراض دون دليل يُعتد به، أن الحركة الصهيونية وعملها الدؤوب، هو، أساساً، في صالح أحدها أو جميعها، عن وعي أو دون وعي. ومن غير الواضح أن الصناعات الكبرى ورؤوس الأموال البنكية ـو المجمع العسكري الصناعي هي التي منعت الولايات المتحدة من اتخاذ موقف حازم تجاه سرقة الأرض والإستيطان في الضفة الغربية، أو أنها منعت الولايات المتحدة من اتخاذ موقف مؤيد  لقرارات مجلس الأمن التي كانت  سلبية تجاه إسرائيل لو لم تستعمل حق النقص، أو أن هذه الصناعات الكبرى ورؤوس الأموال هي التي منعت إقامة دولة فلسطينية. دون أدلة تفصيلية وموثقة تبين كيف منعت هذه المصالح الولايات المتحدة من وضع أي ضغظ فعال على إسرائيل بسبب هذه المصالح، تبقى وجه النظر هذه إفتراضا لا دليل له.

-3-

أنتقل أخيراً إلى حرب الإبادة التي اجتمع فيها جانبان: مصالح مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة، ومصالح متنافرة أيضاً.  لن أستعرض جميع مراحل حرب الإبادة، وسأشير إلى قضيتين استراتيجيتين كأمثلة.  وأبدأ بالقول إنه من الواضح أن الولايات المتحدة تَعتبر كلاً من حماس وحزب الله “إرهابيين”، وترغب في إنهاء دورهما العسكري أسوة بإسرائيل.  هذا ما هو مشترك من ناحية المصالح.  لكن، شاهدنا في بداية هذه الحرب نشوء السؤال حول خطة إسرائيل “لليوم التالي” كما أسميت.  هنا اختلفت المصالح الاستراتيجية؛ أي ليس الآنية أو التكتيكية مثل التقليل من قتل المدنيين، أو إدخال المساعدات الإنسانية، بل طويلة الأمد التي لها علاقة بالخارطة السياسية للمنطقة.  فقد صرح وزير الخارجية بلينكن أكثر من مرة، أن غزة ستبقى أرضاً فلسطينية، وكان الموقف المعلن لإدارة بايدن أن تعود السلطة الفلسطينية لحكم غزة، بعد “إعادة تأهيلها”.  أما نتنياهو، فقد أعلن بوضوح تام موقفه في عبارته الشهيرة “لا حماسستان ولا فتحستان”.  وأضاف في فترة مبكرة من الحرب، أن إسرائيل ستبقي “المسؤولية الأمنية” في يدها، وهذا يعني إعادةَ احتلال غزة، أو للدقة، إبقاءها تحت الاحتلال. وما زال موقفه كما هو حتى اليوم.

أما القضية الاستراتيجية الثانية، فتتعلق بإيران.  وفي مراحل حرب الإبادة كافة، كان من الواضح التباين بين الطرفين.  فقد سعى نتنياهو إلى جر الولايات المتحدة لحرب مع إيران، وحاولت إدارة بايدن تفادي ذلك بسبل مختلفة، منها الاتفاق مع إيران، بعد اغتيال قيادات إيرانية في السفارة الإيرانية في دمشق، أن يكون رد إيران محدوداً، حتى لا تقوم إسرائيل بالرد بشكل يؤدي إلى تصعيد متواتر ينتهي بحرب إقليمية تضطر الولايات المتحدة دخولها.  والواقع هو أن المصلحة الاستراتيجية كانت بين الولايات والمتحدة وإيران؛ إذ أن كلتيهما لم تريدا حرباً واسعة في المنطقة، وتعارض هذا الموقف مع موقف الحكومة الحالية في إسرائيل.  ومن يعتبر أن مسعى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى إسقاط الصواريخ الإيرانية في مرحلتين على الأقل، هو دعمٌ لإسرائيل وحمايةٌ لها، لا يحسن قراءةَ الخارطةِ السياسيةِ للصراع القائم؛ ذلك لأن الهدف من هذا التدخل الميداني، كان تخفيف عدد، ومن ثم أثر، هذه الصواريخ، حتى لا تُصَعِّد إسرائيل في أي رد تقوم به ويتطور الأمر إلى حرب إقليمية.

ما هو صحيح هو أن إدارة بايدن شريكةٌ في حرب الإبادة من حيث تزويد إسرائيل بالأسلحة والقنابل التي قتلت حتى الآن 44 ألفاً على الأقل، معظمهم من النساء والأطفال.  هذه جرائم حرب واضحة، مع أن أدوات إيقاف الحرب كانت في يد إدارة بايدن من حيث إيقاف الدعم العسكري كلياً.  أما سبب ذلك، فهو ليس المصلحة الاستراتيجية، وإنما موقف الكونغرس، وبخاصة الحزب الجمهوري وأكثر من نصف الحزب الديمقراطي،  الأسيران للوبيهات الصهيونية، ولرؤوس الأموال الصهيونية التي تمول حملات عدد من المرشحين، وبخاصة في سنة انتخابات، حيث تكون المزايدة السياسية هي سيد الموقف. ولنا في حالة البليونيرة مريم إيدلسون المناهضة لوجود دولة فلسطينية مثلا كأكبر متبرع لحملة ترمب الرئاسية، إذ قدمت مائة مليون دولار دعما لحملته.

* ورقة قدمت في مؤتمر معهد مواطن السنوي التاسع والعشرين الذي عقد في جامعة بيرزيت يومي 29 و30 تشرين الأول/أكتوبر 2024.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *