دعونا من وهم الدولتين
تناولت مقالة ماني ماوتنر ويوئيل زينجر الصادرة في صحيفة “هآرتس” في الرابع من تشرين الثاني ومقالة وشلومو أفنيري الصادرة في صحيفة “هآرتس” في الحادي عشر من تشرين الثاني، بقايا خطاب سياسي قد اندثر من نقاش النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. حيث أشار المقالان إلى مركزية الخطاب السائد في صفوف اليسار الإسرائيلي، الذي يسعى من جهة إلى التمسّك بحقّ إسرائيل في الوجود كدولة “يهودية وديمقراطية” لكنه، ومن جهة أخرى يسعى إلى تسوية تؤدي إلى بناء دولة فلسطينية مستقلّة إلى جانب إسرائيل. لكنّ، يتجاهل هذا الطرح حاجات الجانب الفلسطيني في النزاع وطرق حل النزاع.
اتّخذ النزاعُ منعطَفًا هامًّا عقب منح بريطانيا الانتداب على البلاد عام 1922. وأعني هنا أن الصراع بدأ قبل نحو قرن ووصل ذروته عام 1948، لكنه ما زال يحتد. وبالتالي لا يمكن إنهاؤه عبر تصحيح نتائج حرب واحتلال عام 1967 فقط وتجاهل ما سبق تلك الحرب. يأبى الكتّاب الثلاثة، وكثيرون غيرُهم الاقتناع أنّ الحلول التي تقوم على تسوية قومية فقط – “دولتَين لشعبَين” أو “كونفدرالية دولتَين” – لا تغيّر المضمون. فهي تستند إلى صيغة غير واقعية لن تحلّ النزاع، بل وستبقي عددًا كبيرًا من القضايا الحساسة خارج النقاش.
لم تكن هذه الصيغةُ قابلةً للتطبيق يومًا، كما ولن تصبح ممكنة في المستقبل. وما لم يُطبق عقب اتفاقيات أوسلو بات مستحيلا مع مرور الوقت. فلن تحتمل وببساطة شديدة، الأراضي المقدسة – فلسطين وإسرائيل – سَمِّها ما شئت – كيانَين سياسيَّين منفصلَين ومستقلَّين، لأسباب جيوسياسية، قومية، وعملية. لم يكن حل الدولتَين يوما قابلًا للتطبيق، وعليه ثمة حاجة إلى تغيير جوهري في نماذج حلّ النزاع، حتى لو لم يتمّ التوصّل إلى حلّ في المستقبل القريب.
لمن لا يعرف كان شهر تشرين الثاني الشهر الذي قُطع فيه الوعدان اللذان ساهما مساهمة كبرى بعملية تجريد الفلسطينيين من وطنهم؛ كان الأول وعد بلفور الصادر في الثاني تشرين الثاني 1917، أما الثاني فكان قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1947. تم اتخاذ القرارين من خلال سياقٍ استعماري، وكان هدفهما خلق واقع يعزّز المصالح البريطانية الإقليمية وسيطرة القوتَين الإمبرياليّتَين أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
ترعرعت الصهيونية في أوروبا في ظل سياق كولونيالي، استند بالأساس إلى تصدير مشاكل أوروبا إلى المستعمَرات التي احتلتها الدول الأوروبية. أجاد رواد الفكر القومي الصهيوني ربط مشاكل اليهود في أوروبا – خُصوصًا عقب اضطهادهم وإقصائهم من الحركات الوطنية التي ولدت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين – بطموح استعمار فلسطين بل وانخرطوا في جهود القوى الأوروبية العظمى الاستعمارية. حيث يشير تاريخ هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين، أنّ مُؤسِّسي الصهيونية درسوا طُرُقا عدة لـ “استعمار” فلسطين، بل وبنوا علاقات وثيقة مع قوى استعمارية عظمى وانخرطوا في جهودها الساعية إلى السيطرة على فلسطين من خلال منظور استعماري واسع النطاق.
لم يُؤخَذ السكّان الفلسطينيون الأصلانيون بعين الاعتبار عند استعمار بلادهم، بل والأنكى من ذلك قُدمت بلادهم للحركة الصهيونية – التي كانت حركة أوروبية حينها- على طبق من فضة. لكن، ما زاد الطين بلة كان دعمُ وتبني خطة التقسيم كتقنية استعمارية بريطانية طُبّقت في أماكن أخرى حول العالم للترويج لمصالح القوّتَين الجديدتَين وأعني هنا الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. باستطاعة المتأملين في خطاب مندوب الاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة آنذاك أندريه جروميكو، ملاحظة النبرة الاستعمارية التي تخللت تصريحاته، دعمت الصهيونية لكنها وبالمقابل تجاهلت السكان الفلسطينيين الأصليين.
تضمنت خطواتُ الاستعمار وعقب تشكيل حركة وطنية فلسطينية مطلع القرن العشرين، قمعَ طموحات الفلسطينيين القومية وتهجيرًا جماعيّا – حدث بعد إقرار قرار التقسيم – خلال نكبة عام 1948. بالفعل رفض الجانب الفلسطيني حينها قرار التقسيم، لكن ورغم إعلان دافيد بن غوريون وقادة “الييشوف” اليهودي قبولهم للقرار لكنهم لم يعملوا بموجبه مُطلَقًا. بل على العكس من ذلك، قاموا بتهجير الفلسطينيين من أجل ضمان إنشاء دولة بأغلبية يهودية.
شكّلت المصادقة على خطة التقسيم في الأمم المتحدة، ذريعة لتنفيذ تطهير عرقي بحقّ معظم الفلسطينيين. بل واستمرت دولة إسرائيل التي وُلدت عام 1948 بعملية تهويد الجليل، النقب، والمدن المختلَطة، وأكملت مشروعها الاستعماري هذا عقب حرب عام 1967 في الضفة الغربية، قطاع غزة، والقدس أيضًا. ولتحقيق هذا الغرض صادرت أراضٍ وأُقامت بلدات يهودية منعت الفلسطينيين وحتى يومنا هذا من السكن في معظمها؛ بل ومنعت لاحقا اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم وفرضت عليهم حُكما عسكريا. فككت دولة إسرائيل المُجتمَع الفلسطيني من خلال تطبيقها لسياسة “فرّقْ تسُدْ”، التي منعت من خلالها ولادة تنظيمات وطنية، وسُنَّت قوانين تُكرِّس فوقية وتفوق اليهود على السكان الفلسطينيين الأصليين. كما وقامت بخطوات أخرى كانت جزءًا لا يتجزأ من العملية الاستعمارية التي بدأت قبل أكثر من قرن وما زالت مستمرة حتى يومنا ونتج عنها نظام الدولة الواحدة الذي يشمل فصلا إثنيا وتغييبا للمساواة، أو بالاصطلاح المتداول – دولة أبارتهايد.
تحول التعبير عن النزاع على البلاد بمصطلحات الاستعمار، إنهاء الاستعمار، والأبارتهايد إلى تيّار مركزي في الفِكر الثقافي والأكاديمي حول العالم. حيث يطلق ووفق استطلاع أجراه مؤخَّرًا باحثون من جامعة ماريلاند معظم الأكاديميون على النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني اليوم اصطلاح “أبارتهايد” (“واشنطن بوست”، 17 أيلول) ، بل وبات واضحا أن الحل يبدأ بإنهاء الاستعمار والأبارتهايد.
تبذل إسرائيل جهودا سياسية، ثقافية، وأكاديمية لطمس طريقة السيطرة على فلسطين، بل وتدعي أن المشكلة وحلّها يستندان إلى رواية قومية فحسب. يضع اليمين الإسرائيلي نصب عينَيه السيطرةَ على فلسطين، قمع طموحات الفلسطينيين ومنعهم من تقرير مصيرهم. أمّا اليسار وداعموه – بينهم فلسطينيون كثر – فيرى أن حلّ الدولتَين حل واقعي ومُنصف للقضية الفلسطينية. لكنّ، ترى كلتا النظرتين أن حل النزاع قومي. أما الفلسطينيون فما زالوا يخوضون كفاحًا عنيدًا لاسترداد حقّهم في الحرية والكرامة في وطنهم. فمن جهتهم لا تكمن المشكلة في نتائج احتلال حرب 1967، بل بالسيطرة على وطنهم، خلق واقع استعماري وتفوّق إثني، داخل الخطّ الأخضر وخارجه.
لكن يتجاهل هذان المنظوران السائدان في المجتمع اليهودي، طريقة ولادة المشكلة والحاجةَ الماسة إلى تغيير التفكير من أجل التوصّل إلى تسوية عادلة تنصف الفلسطينيين والإسرائيليين وكل المجموعات الأخرى التي تعيش وتعمل في البلاد، فلن يحل تقسيم الأرض النزاع. وعليه فعلى الحلول المطروحة النظر إلى فلسطين-إسرائيل على أنها وحدة سياسية واحدة، وقف الأبارتهايد وإنهاء الاستعمار من خلال تصحيح الغبن التاريخي الذي بدأ قبل النكبة وما زال مستمرا إلى يومنا هذا.
ستولد على هذه الأرض دولة ديمقراطية واحدة، تلغي التفوق الإثني والاستعمار، بل وستبنى مصالحة شاملة بين السكّان الأصليين والمهاجرين الذين قدموا إلى هذه البلاد لأسبابٍ عديدة لكنهم يرون فيها وطنًا. حيث يكمن بصيص الأمل الوحيد بإبرام اتفاق يُرسي حقّ تقرير المصير، لا كحقّ متفرد بالأرض بل كحقّ جماعي – للمجموعتَين القوميّتَين اليهودية – الإسرائيلية والفلسطينية – العربية – من أجل تسوية النزاع.
قد لا تبصر هذه التسوية النور بل وقد لا تحدث بتاتا، بل ويُرجَّح أن يزداد الفصل والاستعمار حدة. لكنّ ينبغي علينا الإشارة إلى آفاق عيش محتمَلة، طبيعية وكريمة، حتى لو تطلّب الأمر بذل جهود شاقّة. حيث تصب هذه المساعي في عملية الحفاظ على السلام بين مجمل المواطنين والمجموعات. فلن تحل بنظري مقترحات كالكونفدرالية، حل الدولتَين، الحكم الذاتي الموسّع وكلّ أنصاف الحلول المشكلة؛ فقد حان الوقت للتحرُّر من وهم حل “الدولتَين للشعبَين” كحلّ لهذا النزاع الدامي. حيث يجب أولا إلغاء كل الخطوات الاستعمارية والتفوّق الإثني، وإيجاد حلّ عادل لتبعات النكبة عام 1948. نعم، يتطلب هذا الأمر عملًا جادّا، لكن ينبغي على الراغبين بحل عادل وشامل تبديل الأسطوانة المشروخة، حتى وإن تخلل استبدالها ألما لا يحتمل. فإن لم نقم بتغيير منظورنا للطريق المستقبلية، فسنظل عالقين داخل خطابٍ لفظ أنفاسه الأخيرة منذ زمن طويل.
عن هآرتس