دعوة المركزي وضع للعربة أمام الحصان

قررت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير دعوة المجلس المركزي لعقد جلسة له في موعد أقصاه بداية العام القادم، ولم نشهد أي اهتمام شعبي بهذه الدعوة، فالمنظمة غائبة ومغيّبة منذ أوسلو، والسلطة هي البنت التي طغت على أمها.

السبب المعلن للدعوة هو إصلاح المنظمة وتفعيلها، تمهيدًا لحوار شامل، وإنهاء الانقسام، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تلتزم بالشرعية الدولية. أما الأسباب الحقيقية فهي ملء الشواغر، خصوصًا بعد رحيل صائب عريقات واستقالة حنان عشراوي، ورسم معالم المرحلة الجديدة التي من المفترض أن تغطي أواخر عهد الرئيس محمود عباس، وبداية عهد خليفته، واستعادة جزء من الشرعية والمصداقية التي فقدتهما المنظمة والسلطة بعد الاصطدام بالحائط المسدود.

ما يدفعنا إلى ما ذهبنا إليه هو أن البدء بدعوة المجلس المركزي هي أشبه بوضع العربة أمام الحصان، فالبداية تكون بالدعوة إلى حوار وطني شامل تتسع قاعدة المشاركين فيه، حيث لا تنحصر بالقوى والشخصيات المشاركة في المنظمة، ولا بإضافة حركتي حماس والجهاد الإسلامي فقط.

السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن تجاوز المأزق الوطني الذي تواجهه القضية والنظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوناته بعقد المجلس المركزي من دون البحث في جذوره وأسبابه، وكيفية المعالجة؟ الجواب القاطع: لا.

فالمجلس المركزي المزمع عقده لن تشارك فيه – على الأغلب – حركتا حماس والجهاد الإسلامي كونهما لم تشاركا في السابق، ولم تُدعوا للمشاركة في إطار لجنة تحضيرية لعقد مجلس وطني جديد مثلما ينص النظام الأساسي للمنظمة، والدعوة التي يمكن أن توجه إليهما – رفع عتب – على غرار الدعوات السابقة ستؤدي إلى مقاطعتهما له.

كما أن المجلس المركزي منتخب من المجلس الوطني غير المنتخب الذي انتهت مدته، إذ تنص المادة (8) من القانون الأساسي لمنظمة التحرير على أن مدة المجلس الوطني ثلاث سنوات، والمفترض تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخابات حيثما أمكن وبالتوافق حيثما يتعذر إجراء الانتخابات. مجلس يعكس الحقائق والخارطة الجديدة لمكونات الحركة الوطنية التي تغيرت بشكل واسع وجذري بعد أكثر من ثلاثين عامًا على تشكيل المجلس الوطني الحالي، لدرجة أن العديد من أعضائه توفاهم الله، والعديد أيضًا – أطال الله في عمرهم – بلغوا من العمر عتيًا وأعيا العديد منهم المرض، في حين أن أجيالًا عديدة من الشباب لم تجد طريقها لأهم مؤسسة فلسطينية تمثل الكيان الوطني والممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين جميعًا.

لعل عدم عقد المجلس الوطني بشكل سنوي كما ينص النظام الأساسي، وعدم عقد المجلس المركزي منذ ثلاث سنوات على عقد آخر اجتماع له يفسر سبب دخول المنظمة، خصوصًا أعلى مؤسسة (المجلس الوطني)، في موت سريري، إذ تُستدعى للحياة عند الحاجة خدمة لأهداف القيادة المتنفذة السياسية، فالمجلس الوطني الذي من المفترض وفقًا للقانون الأساسي للمنظمة أن يعقد بشكل دوري بدعوة من رئيسه مرة كل سنة، لم يعقد منذ آخر اجتماع للمجلس الوطني في العام 1996 سوى ثلاث مرات، المرة الأولى في العام 1998 بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون للمصادقة على إلغاء مواد من الميثاق الوطني، والثانية في العام 2009 لملء شواغر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والثالثة في العام 2018، حيث عقد المجلس جلسة بصورة انفرادية عمقت الانقسام، تخللتها انتهاكات جسيمة للنظام الأساسي للمنظمة، ولم تكن حلًا للمشاكل العويصة التي تعاني منها المنظمة، بل زادتها تفاقمًا.

واتخذ المجلس الوطني في دورته الأخيرة في العام 2018 أغرب قرار بتخويل صلاحياته كاملة للمجلس المركزي من دون تحديد الصلاحيات ولا المدة الزمنية، وكانت الحجة لهذا التفويض الغريب هو تعذر دعوة الوطني للانعقاد بشكل متسارع، مع أن المجلس المركزي لم يُعقد منذ حوالي ثلاث سنوات بعد جلسته الأخيرة في تشرين الأول 2018، ومن غير المؤكد أن يُعقد في موعده إذا لم تنزع فتائل الألغام الذي تعترض طريقه. فكلنا نذكر التحضيرات المكثفة لتعديل الحكومة، لدرجة تحديد المواعيد والوزراء الذين سيخرجون وسيدخلون وسد الشواغر في الداخلية والأوقاف، لينتهي ذلك كله ببقاء الحكومة على حالها.

أي اجتماع للمجلس المركزي حتى يكون عقده خطوة إلى الأمام مطالب بوضع رؤية شاملة وإستراتيجية موحدة لمواجهة التحديات والمخاطر الجسيمة التي تهدد القضية الفلسطينية، ووضع سبل للنهوض الوطني، خصوصًا بعد اتضاح سقوط الرهانات الخاسرة والأوهام الخاطئة التي كان آخرها حول إدارة جو بايدن، وثبوت عدم وجود أفق سياسي على المدى المنظور، وأن السلطة انتقلت من التعاون والتنسيق الأمني ضمن عملية سياسية تستهدف تجسيد الدولة الفلسطينية، إلى عملية سياسية تقوم على التعاون والتنسيق الأمني مقابل سقف حده الأقصى بقاء السلطة.

هل يكفي القول بأن المجلس المركزي سيضع الخطط لترجمة خطاب الرئيس، خصوصًا أن هذا الخطاب تضمن خيارات عدة، منها حل الدولتين الذي منح مدة عام آخر لاستمرار ما هو كائن، وأوصلنا إلى ما نحن فيه، أو خيار قرار التقسيم، أو خيار الدولة الواحدة، وكأن من لم يحقق دولة على 22% من مساحة فلسطين قادر على تحقيقها على 44% أو على كل فلسطين،؜ وهذا الأمر (البحث في الخيارات) مقبول من المحللين الإستراتيجيين ومراكز الأبحاث، وليس من القيادات السياسية التي عليها اتخاذ المواقف، وحسم القرارات والخيارات، وتوفير مستلزمات تطبيقها.

أي اجتماع فلسطيني لا معنى له إذا لم يكن في صدارة جدول أعماله توحيد الشعب الفلسطيني وقواه الحية في إطار مشروع وطني واحد، وليس مثلما جاء في البيان الصادر عن اجتماع القيادة الأخير بأن الحوار الوطني الشامل سيبدأ بعد انتهاء الحوار في إطار المنظمة، وهذا غير منطقي، إذ من المفترض الشروع في حوار وطني شامل فورًا.

كما أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى عقد مجلس مركزي، بل إلى عقد مجلس وطني جديد لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، لأن المشروع الوطني بعد كل المياه التي جرت خلال عشرات السنين بات مختلفًا عليه:

بين من ينادي بالعودة إلى الأصل والبدايات، ورفع شعاري العودة والتحرير لكل التراب الفلسطيني من خلال المقاومة المسلحة؛

وبين من ينادي بالدولة الواحدة بمختلف صيغها: دولة لكل مواطنيها، أو ثنائية القومية، أو إسلامية، أو ديمقراطية، أو دولة أبارتهايد إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ويصبح الفلسطينيون أغلبية ويحصلون على حقوق متساوية؛

وبين من ينتظرون إحياء حل الدولتين؛

وبين من ينتظر القبول بإنقاذ ما يمكن إنقاذه الذي سقفه السلام الاقتصادي وخطوات بناء الثقة وبقاء الانقسام، بحجة عدمية الدعوة للوحدة جراء عدم التواصل الجغرافي، أو أن قرار الوحدة ليس قرارًا فلسطينيًا، وإنما إسرائيلي أميركي إقليمي عربي فلسطيني، واللاعبون الأهم لا يريدون تغيير شروط اللعبة الجارية وقواعدها؛

وبين من يدعون إلى تحديد الهدف النهائي المستند إلى الحقوق وتحديد برامج وخيارات وبدائل ومراحل على طريق تحقيقه.

وهناك من طرح – كما رأينا في مقال حسن إسميك في “الفورين بوليسي” منذ أسبوعين، الذي نشر مترجمًا في صحيفة النهار اللبنانية – توحيد الضفتين وغزة في المملكة الهاشمية الأردنية الفلسطينية التي يمكن أن تضم أيضًا المستوطنين المستعمرين إذا أرادوا البقاء فيها، وما طرح إنهاء الاحتلال في هذا المقال إلا لكي ترى هذه الفكرة النور، أي لذر الرماد في العيون، فما ترمي إليه هو ضم الأردن للفلسطينيين في الضفة وغزة ما دام حل الدولتين سقط من دون إنهاء الاحتلال وإزالة العبء والمسؤولية عن الاحتلال، وتعبيد الطريق لصفقة القرن بصيغة جديدة. فالاحتلال لا يريد السكان بل الاحتفاظ بـ”الأرض الموعودة” لـ”شعب الله المختار”، وهذه مجرد بالون اختبار، لأن الكاتب رجل أعمال معروف بصلاته القوية بالحكام وصفقاته المشبوهة مثل غسيل الأموال وغيرها، وينشر مقالات له في معهد واشنطن ويساهم في دعمه، وهو يمثل أحد أركان اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.

إن من يريد تبني خيارات أخرى بديلة عن الخيارات التي جربت وفشلت، عليه حتمًا إعادة إحياء وتعريف المشروع الوطني، ووضع تصوّر حول كيفية تحقيقه، ومن وكيف، ووضع خطة، ولو تدرجية، للتخلص من التزامات أوسلو، عبر الشروع في تطبيق قرارات المجلسَيْن المركزي والوطني، وإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أسس وطنية وشراكة كاملة في السلطة والمنظمة، وهذا يقتضي إنهاء الهيمنة والتفرد والإقصاء، وتوحيد الوزارات والمؤسسات الحكومية والأجهزة الأمنية، بعيدًا عن الحزبية والفصائلية، وعلى أسس مهنية وعقيدة وطنية بعيدًا عن نظام المحاصصة الفصائلي، إضافة إلى الاحتكام إلى الشعب عبر إجراء الانتخابات المحلية والعامة الدورية والمنتظمة وفي مختلف القطاعات والتجمعات التي يمكن إجراء الانتخابات فيها.

هناك من ينظر إلى المنظمة بأنها ماتت وشبعت موتًا أو في موت سريري ولا ينقصها سوى الدفن، ومن يرى استحالة إصلاح أو تفعيل أو تغيير المنظمة لترتقي إلى مستوى التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص المتاحة، وهناك من توقع أن المنظمة ستندثر كليًا خلال عقد أو عقدين على الأكثر، ويعزز أصحاب هذا الموقف بأن المنظمة تقادمت وتآكلت مؤسساتها، وانفصلت عن الشعب، وأن المرحلة التي أوجدتها في ظل الصعود القومي والمرحلة الناصرية والمنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي انتهت، ونحن الآن في مرحلة جديدة مختلفة كليًا، ما يستدعي عدم إضاعة الوقت في محاولة إحياء العظام وهي رميم.

وتنقسم الآراء حول مستقبل المنظمة إلى ثلاث وجهات نظر:

 الأولى: ينطلق أنصارها من اليأس والعجز والهزيمة والتسليم باستحالة الانتصار على الحركة الصهيونية وحلفائها الأجانب والعرب، وبالتالي أقصى ما يأملون في تحقيقه أن تبقى المنظمة حتى تقوم بتوقيع الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني.

الثانية: ينطلق أنصارها من الإيمان بأن الشعب الذي أنجب منظمة التحرير قادر على إنجاب منظمة تحرير جديدة، ينسجم فيها الاسم مع المسمى، ويقودها أشخاص مؤمنون بشعبهم وحقوقه وقدرته على النصر، وبالتالي يدعون إلى تشكيل وبناء منظمة تحرير جديدة.

الثالثة: ينطلق أنصارها بأن المنظمة أداة ومؤسسات وآليات، ويمكن تغييرها من دون التخلي عن المنظمة ككيان وهوية وطنية، أو إيجاد بدائل لها فرصتها في الحياة شبه معدومة، لأن المنظمة إنجاز تاريخي وحّد الشعب، وبلور هويته الوطنية، وحصلت على اعتراف فلسطيني وعربي ودولي، وحققت مكاسب لا يجب إنكارها، رغم الأخطاء والخطايا والتنازلات الصغيرة والكبيرة، ما يستدعي عدم هدم كل ذلك والبدء من الصفر، وإنما البناء عليه من خلال إعادة بناء مؤسسات المنظمة، لأن إصلاحها لا يكفي، فهي بحاجة إلى تغيير عميق وشامل، يمكن أن يبدأ بإحداث التغيير الممكن على طريق التغيير الشامل، الذي يتم من خلال تجسيد شراكة حقيقية على أساس برنامج القواسم المشتركة والمبادئ والمصالح وتوازن القوى القائم حاليًا مع أخذ الحقائق الجديدة بالحسبان، لأن المشروع الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي الإحلالي العنصري يستهدف الفلسطينيين جميعًا، ولا يفرق بين فلسطيني معتدل ومتطرف، ويعتبر الفلسطيني الجيد هو الميت أو الذي يقيم في الخارج ولا يحمل حلم العودة ولا يعمل من أجلها، و”الفلسطيني الجديد” داخل فلسطين الذي يجب أن يبقى أقلية بلا حقوق ولا مساواة ولا هوية وأهداف وطنية وبلا نضال.

إنّ الكل، بما يشمل حركتي فتح وحماس وغيرهما من الفصائل والمجموعات والحراكات والقوائم واللجان الجديدة، وما عدا العملاء والخونة والمستسلمين، مدعو للمساهمة في إعادة بناء المنظمة بعيدًا عن التكفير والتخوين والإقصاء والهيمنة والتفرد.

عن مسارات

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *