خيار الانتخابات تحت نظام الابرتهايد
بدل الفلسطينيون خياراتهم، ومارسوا خيارات ومسارات مرحلية، أو تكتيكية، بعضها كان مفهوماً ومحقاً، وبعضها كان كارثياً وآثاره لا تزال تقضم الحركة الوطنية، وحقوق الناس ، وتعيق انعتاقهم، وذلك في إطار مواجهة مستعمر ، متوحش، يتجسد في دولة أوروبية حديثة ظالمة .
تواصل قياداتهم، تجربة نفس الخيارات، دون وقفة حقيقة، أو مراجعة، لمجمل التجربة. ينفض من صفوف الفصائل، والاحزاب، أفواج من الكوادر، والنشطاء والمثقفين، ذوي النظرة النقدية، بعضهم ينزوي محبطاً ويائساً، وبعض آخر يجنح نحو اليمين والمحافطة، وبعض آخر يطلق المبادرات، ويجدد فكره، وينظر إلى الحاضر والمستقبل بنظرة تحررية، عصرية، وطنية وإنسانية، بعيداً عن الهوج واللغة القديمة، أو عن الميوعة الاوهام .
تنشغل الساحة الفلسطينية، هذه الأيام، في عموم الوطن، فلسطين التاريخية، بقضية الإنتخابات العامة.
وتحيط بها تعقيدات وتناقضات وتخوفات، واعتراضات، لا حصر لها، نظراً لكونها تجري تحت نظام قهري واحد، لم يترك لنا أي مجال لاي وهم . وأن خيار الانتخابات الذي ربما أفاد الفلسطينيين، في مراحل سابقة، وعزز وجودهم، اذ أتاح لهم ممارسة مسألة الديمقراطية ولو بشكلها الإجرائي، بات غير مفهوم في هذا الظرف الذي اوصلنا اليه المستعمر ، وفي ظل قيادات أدمنت على الفشل، والتي لم تتغير من ثلاثين عاما .
جزءٌ كبير من شعبنا، وجزءٌ كبير من النخب السياسية والمثقفة والبحثية، الناقدة للواقع الفلسطيني الرسمي، والمناهضة لسياسات القيادات الحالية، تأمل، ولو بحذرٍ ، بأن تفتح هذه الإنتخابات، وتحديداً ، في الاراضي المستعمرة منذ عام ١٩٦٧، ًصدعاً في الحائط القديم، وأفقاً نحو بداية للتغيير.
أما في الشق الآخر من الوطن، داخل الارض المستعمرة عام ١٩٤٨، ذوّت الفلسطينيون ممارسة الانتخابات للهيئة التشريعية الصهيونية، الكنيست، وقد تفهمت الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج هذه المشاركة، نظرا لتعقيد وضعهم. ولكن إيضا، سعت قيادتها المتنفذة إلى استخدام المشاركة في إنتخابات الكنيست، لتعزيز موقعها التفاوضي، مع مستعمر لم تكن لديه النية مطلقاً، بقبول مقايضة حماية الاحتلال التي قدمتها سلطة أوسلو بدولة في الضفة والقطاع.
غير أن قانون القومية، لعام ٢٠١٨ للأسف لم يدفع النخب السياسية، التي اعتادت على المشاركة في الانتخابات حتى لمجرد التساؤل حول جدواها، على الاقل لاغراض تربوية وطنية، تجاه الاجيال الشابة. بل تمضي في غيها، وتدفع هذا الجزء من شعبنا إلى المفاضلة بين معسكرين صهيونيين، يمينيين، وفك ارتباط فلسطينيي ال٤٨ عن قضيتهم الفلسطينيةما يترتب عن ذلك من تشويه خطير لوعي الناس.
في ظل الانغماس، في المهام اليومية، دون التوقف بين الحين والاخر أمام المنظومة الفكرية العقائدية، تجاه طبيعة الكيان الذي يستعمر بلادنا، يتعطل العقل السياسي الاستراتيجي، فيضيق عقل رجل السياسة، ولا يعود يرى غير الحاجة الآنية، الحارقة. وفي إطار هذا التدهور السياسي والاخلاقي تتضخم ذاته، ويفقد بصيرته. وتتبعه مجموعات من المثقفين، أو أشباه المثقفين، والمتعلمين، وتتكاثر اعداد الانتهازيين، الساعين الى الشهره، او الى المصالح المادية الشخصية.
على الناقدين للحالة الراهنة، والذين يطرحون بديلاً، ألا يتوقعوا أن يوقف نقدهم عملية التحضير للانتخابات وحملاتها الاعلامية، اذ لا تزال هناك قوى وشرائح تعتقد، بصدق، بضرورة ممارسة هذه الانتخابات رغم كل محدوديتها، او رغم كل ما تنطوي عليها من مخاطر ، او تعميق الازمة، بدل الخروج منها. وبالتالي من المهم أن يكون خطاب النقد لهذه الانتخابات عقلانياً، وحكيماً، ولكن أن يكون الموقف البديل واضحاً ومرشداً للناس وخاصة للأجيال الجديدة لأن تغيير المزاج لا يتم خلال فترة قصيرة، ولا يغيره الخطاب الحاد، والذي يمكن أن يشكل حاجزاً في المستقبل بين الساعين للتغيير وللتحرر من الاستعمار ، ووكلائه، وبين الناس الذين يجب الوقوف إلى جانبهم ، توجيههم والتعلم منهم ، في الآن ذاته.
علينا أن ندرك أن حجم الخراب الذي أحدثته تجربة ما بعد أوسلو ضخمٌ، وعميقٌ، وباتت له مؤسسات راسخة، وأيدلوجيا معيقة، تعبر عنها هذه المؤسسات.
وبالتالي فإن عملية التغيير، هي تدريجية، وتحتاج لأكثر من التحليلات ، والبيانات، والتصورات، التي هي مهمة للغاية، كجزء من التهيئة، لبناء تيار وعي واسع، ولتغيير علاقات القوة. هي تحتاج إلى بناء كتلة تاريخية حقيقية، وببرنامج تحرري شامل، وطني ديمقراطي وإنساني، مضمونه التحرر والحرية، والعدالة والمساواة، وانتخابات ديمقراطية حقيقية لكل مواطن .
لا يمكن أن تتحقق هذه القيم، ولا أن تمارس الانتخابات الديمقراطية، في دولة الابرتهايد الكولونيالية، التي تستعمر ١٣ مليونا، هم أهل فلسطين، في حين يتحكم بمصيرهم ستة ملايين مستعمر.
الانتخابات تجري فقط في دولة ديمقراطية، عادلة، غير عرقية، وغير استعمارية، في فلسطين التاريخية، وذلك بعد أن يُسلّم نظام الابرتهايد بعجزه عن مواصلة الحكم، والتحكم “بغير اليهود”، والامر الذي يمكن أن يحصل من خلال عملية كفاحية طويلة الامد، منهجية، ينخرط فيها الكثيرون من أبناء وبنات شعبنا.
تحت السطح، او فوق السطح، هناك تيارات خفية، وعلنية، أو تيار وعي جديد، ينمو، ويتبلور ، في هذا الإتجاه..إتجاه المستقبل، اتجاه الحياه، الحرة. هذا الحراك لا يراه مدمنو الفشل والإنحراف، وإن رأوه لا يدركونه، ولا يستوعبون كنهه، ومخاطره على نهجهم، التخريبي. لقد اعمت السنين الطويلة من التسلط، والجمود، وبناء سور من عديمي القدرات، والانتهازيين حولهم، بصيرتهم. ولن يزيل الغشاوة عن عيونهم/عقولهم ، وضمائرهم سوى معاول التيارات الخفية المتدفقة في شعبنا الابي .