خواطر شخصية حول الجمعة العظيمة، والفصح، والقيامة
تحمل هذه الأيام معاني فردية وجمعيّة. فالجمعة العظيمة أو الجمعة الحزينة، هو يوم استذكار للألم والتضحية والخلاص. أستمع إلى “يا أم الله” وتنهمر الدموع دون إذن، حيث يرتبط الخاص بالعام بدءا من يوم الجمعة العظيمة، يتلوها سبت النّور، وعيد الفصح المجيد، عيد القيامة. والعيد هذا يرمز للحبّ والتّضحية والخلاص في الذاكرة الدينيّة والشعبيّة؛ عيد يتميّز كلّ بلد فيه بشعائره التي ارتبطت بالسّياق المحليّ، بعد صيام يدوم أربعين يومًا.
يوم الجمعة العظيمة هو يوم مميّز، أستذكر فيه والدي، حنا لطيف صبّاغ، رحمه الله. والدي كان مُقعدًا، وبحكم وضعه الصحيّ، لم يستطع التّكلّم إلا قليلًا (وبصعوبة)، لكنّه كان يردّد ترتيلة “المسيح قام من بين الأموات، ووطأ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور” عن ظهر قلب، فيبعث الفرح في نفوسنا، نحن بناته وابنه وأمي، ونحن نستمع إلى صوته المتعب يرتّل. كم تمنيت، وأنا طفلة، أن تحدث العجيبة، وينهض والدي على رجليه مجدّدًا! وتحديدًا عندما كان يستهلُّ ترتيلته بـ: “المسيح قام”. كنت أتمنى لو وهبت الحياة أبي حياة جديدة، خالية من الألم. ورغم أنّ الحلم لم يتحقّق، إلّا إنّني ممتنّة للحظات الغبطة التي كانت تعتريني عندما كنت أحلم، كنت أحلّق بأفكاري، وأبني لي مسارًا متخيّلًا مع والدي الذي لم أنعم بمعرفته معافىً.
في هذه الأيام تحديدًا، أستذكره، وأشتاق إليه، وأشتاق لزيارته في المقبرة، والتحدّث إليه. أشتاق إلى الطقوس الدينيّة في بلدتي الحبيبة معليا. أشتاق لأصوات أقدام الناس ترتطم بالأرض حين تتوافد قاصدة الكنسية في ساحة البلد. أشتاق لسماع تراتيل جنّاز المسيح تنبعث من حناجر أهل البلدة في الكنيسة، وأحنّ إلى تلك الأصوات التي تنطلق من مكبّرات الصوت بترتيلات الخلاص والقيامة. يوم يتلوه، بعد الصلوات والتراتيل، احتفال (كرنفال) شعبيّ دينيّ، يحمل فيه الناس سرير المسيح المليء بالورود، في تجسيد رمزيّ للموت الذي سيجلب الحياة.
في هذا العيد، تتجلّى عندي معاني الآلام الشخصيّة، تلك الآلام التي رافقت والدي تسع سنوات متتالية، وصحبته إلى مثواه الأخير. كانت أمي، وكم صادقة هي، تقول لنا: “أبوكم مثل القدّيس، حمل صليبه، وعانى الكثير في حياته، صلّوا له يما صلّولو”. في هذا العيد، أتذكّر الرحمة وتضحيات الأمومة، تضحية أمّي، وجميع الأمّهات.
مع هذا العيد، تحلّ الطاقات الجميلة، ويحلّ الربيع، وتتلوّن الطبيعة، وتتناثر الأزهار، كما إنّ سلق البيض، وصبغه بالألوان، وتزيينه من السمات المميّزة للعيد. ولكن يوم الجمعة العظيمة، هذه السنة، جاء حزينًا، كما كان حزينًا صمت الكنائس هذه الأيام، وصمت كنيسة القيامة، حيث تغيب الطقوس عن البلدات الفلسطينيّة والعالم أجمعين بسبب وباء الكورونا. لطالما حظيت بلدتي معليا العامرة بالسعادة والفرح وهي تحتفل بهذه الطقوس التي تبعث السكينة في الروح، ويشهد أطفالها وكبارها، متديّنين كانوا أم علمانيّين، على هذه الطقوس، يحملونها معهم ويمضون معها في ذكرياتهم أينما يحلّون. أجواء تعطي الطمأنينة والتكتّل الاجتماعي، عزّزت من الارتباط المكانيّ والجغرافيّ مع البلد والانتماء إليه، واستعاد أهل هذه البلدة، وما زالوا يستعيدون، في ذكرياتهم، في كلّ بقعة يحلون فيها على وجه الأرض، ذكريات لأجواء لها رونق خاص في نفوسهم.
في فلسطين، ترتبط فكرة الإيمان والصمود والتضحية بالتصدي للاحتلال وألم الشعب الفلسطينيّ، الذي يحمل صليبه منذ نهاية القرن التاسع عشر. وتدعونا أجواء العزلة، التي نمرّ بها جميعًا، أن نفكر بالتضحيات على الصعيد المحليّ والوطنيّ والدوليّ، وأن نفكّر بأولئك الذين ماتوا بسبب الوباء، ولم يستطيعوا احتضان أحبابهم، وأن نستذكر، وندعم، قدر الإمكان، العائلات ميسورة الحال، التي لا تستطيع أن تؤمّن احتياجاتها في الأعياد وفي غير الأعياد إثر الأوضاع، وأن نفكّر بالمنكوبين واللاجئين السورييّن بمحنتهم، وأن نفكّر بالأوضاع في غزة المحاصرة، ونتضرّع، ونعمل من أجل رفع الحصار عنها.
لقد استلهمت الثقافة العربية، بشعرها ونثرها، من قصة المسيح وألمه وصليبه وخلاصه. وقد وظّف الشاعر الكبير محمود درويش العهد القديم والجديد في أعماله ببلاغة تحمل ألم الإنسانيّة وتجربتها، معتبراً الكتب الدينيّة نصوصاً أدبيّة زاخرة بالمعاني والتجارب الشعبيّة والإنسانيّة، وعاكسًا، من خلال استخدامها، تجارب الناس وإيمانهم. جميلة هي المفردات الدينيّة وملهمة عندما تحمل، طياتها، معاني ثقافيّة ملهمة للبشر أجمعين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينيّة. لطالما استلهمتني قصائد درويش، وحروف نسجها، من خلال استعماله للنصوص الدينيّة خاصة في موسم الأعياد، وأرجع إليها اليوم، في عزلتي وعائلتي، لأشيد بمزامير ألم وفرح تمنحني الطاقة على الاستمرار، لأنّ “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. كان درويش مبدعًا في كلماته، مستخدمًا المألوف من المعاني في حياة الناس، ومستعملًا عمق ارتباط الدين وطقوسه بحياة الناس، وناسجًا، من خلال إيقاع أبيات شعره، معاني جديدة للحبّ والخلاص والإيمان. وهو، عندما كتب عن الحب، استخدم الصليب، فقال، في قصيدته “أغنية حب على الصليب”: “أحبّك/كوني صليبي/وما شئت كوني،/وكالشمس ذوبي/بقلبي.. ولا ترحميني..” معبّرًا عن حب أبدي غير مشروط، حتى لو كان هذا الحب مؤلماً. وكان الصليب، بالنسبة له، منبرًا للنضال، ففي قصيدته “عن الصمود” قال: “لو يذكر الزيتون غارسَهُ/ لصار الزيت دمعًا!/ يا حكمة الأجداد/ لو من لحمنا نعطيك درعًا!/ كنّ سهل الريح/ لا يعطي عبيد الريح زرعًا/ إنّا سنقلع بالرموش الشوك والأحزان.. قلعاً/ وإلام نحمل عارنا وصليبنا!؟ والكون ُيسعى../ سنظل في الزيتون خُضرتَه/ وحول الأرضِ درعًا!!”، موقدًا بشعره الأمل في نفوس الفلسطينيّين، ومستجلبًا، باستعاراته الخلاص بعد التضحية والصمود. احتضن درويش، في سرديّته الشعرية، خطى المسيح واضطهاده. ففي قصيدته “قال المغني”: “أبعدوا عنه سامعيه والسكارى../ وقيّدوه ورموه في غرفة التوقيف/ شتموا أُمّه، وأمّ أبيه، والمغنّي…/ يتغنّى بشعر شمس الخريف، يضمّد الجرح.. بالوتر!/ المغنّي على صليب الألم/ جرحُه ساطع كنجم/ قال للناس حوله/ كلّ شيء.. سوى الندم: هكذا متّ واقفاً، واقفاً متّ كالشجر/ هكذا يصبح الصليب، منبراً.. أو عصا نغم/ ومساميره.. وتر! هكذا ينزل المطر/ هكذا يكبر الشجر”. كما وكان درويش قد وظّف، في شعره، النصوص الدينيّة ووحيها في الصراع على المكان مع الحركة الصهيونيّة: “… سرقَ المؤرخ، يا أبي لغتي وسوسنتي وأقصاني عن الوعد الإلهي/ وبكى المؤرّخ عندما واجهته بعظام أسلافي…/ فانهض يا أبي من بين أنقاض الهياكل واكتبْ اسمكَ فوق خاتمها كما كتب الأوائل، يا أبي، أسماءهم…/ وانهض، فلا زيتون في زيتون هذي الأرض غير ظلالها/ وانهض لتحمدها وتعبدها وتروي سيرة النسيان…/ وأنا حزين، يا أبي، سلّم على جدي إذا قابلتهُ/ قبّلْ يديه نيابة عني وعن أحفاد بعلٍ أو “عناة”/ واملأ له إبريقه بالخمر من عنب الجليل أو الخليل..”.
علّ هذه الغيمة التي تفتك بالبشرية تنقشع، ويأتي الخلاص ضمن ممارسة إنسانية أفضل. ومع حلول سبت النور، نستوحي كلمات الدعاء من قصيدة محمود درويش بكلمات عميقة، حيث تعامل مع ثيمات الإيمان والخلاص برمزية تحمل معاني ثقافيّة ودينيّة مترسّخة في حياة الناس وتجربتهم. فلقصائد محمود درويش، في عيد الفصح، امتداد سياسيّ واجتماعيّ ملهم، وبليغ الدلالات لنا جميعًا:
“يطول العشاء الأخير”؛ تطول وصايا العشاء الأخير/ أبانا الذي معنا! كُن رحيما بنا/ وانتظرنا، قليلا، أبانا!/ ولا تبعد الكأس عنا. تمهل لنسأل أكثر مما سألنا/ ولا تتهم أحدا. كن رحيمًا بمن يسضعف منا/ أبانا الذي في النهايات، واصعد رويدًا رويدًا إلى حتفنا/ لقد ضاق هذا المكان الصغير بصرختنا. ضاق هذا الجسد بفكرتنا، يا أبانا، وقلت الكلام الذي كان فينا/ فخذنا معك/ إلى أول الماء خذنا، إلى أول الشيء خذنا، إلى أول الكلمة/ لقد طال هذا العشاءُ/ وقلّ الرغيف، وطالت وصاياك َ، فأصعد بنا/ لأن “الرسائل”، بعدك تغتالنا واحدًا واحدًا.. يا أبانا”.
ومع حلول أحد القيامة، لنصرخ بوجه الاضطهاد، نوسّع قلبنا وعقلنا لنمرّ المرحلة بحكمة، وندافع عن المظلومين والمحتلَين، ونأخذ من الأرض ملجأ لنا، ولا نجعل أنفسنا أسيادًا عليها. وإن كنّا لا نستطيع أن نتحكّم بالحياة لأنّها تفاجئنا بما لا نتوقع، فعلى الأقلّ لنضبط تصرّفاتنا، ونتصرّف بحكمة ومسؤولية جماعيّة لكبح جماح الوباء كي نسترد عافيتنا الفرديّة والجماعيّة.
أحرّ الأمنيات بفصح مجيد، وبسنين مقبلة خالية من الأوبئة والحروب والاحتلال والعنف، ومفعمة بالعطاء والعمل والأمل.