كان البيان الذي أعلنته أمس وزارة الصحة الخاضعة لحماس في قطاع غزة والذي جاء فيه بأن عدد القتلى تجاوز الخمسين ألفاً منذ بداية الحرب ، “مجرد بيان آخر” موجه لوسائط الإعلام الدولية. وإذا كانت هذه الأرقام في الماضي تسبب الصدمة والرعب، فإن التغيير الذي حدث أمس في الأرقام لم يغير شيئاً بالنسبة لسكان قطاع غزة.
كما أن البيان لم يغير من جدول أعمال زعماء الدول العربية والإسلامية، ولا حتى جدول أعمال المجتمع الدولي. وفي إسرائيل، الغارقة بأمور أكثر أهمية ، كإقالة المستشارة القانونية ، والمصادقة على الميزانية، والوصول إلى صفقة مع اليهود المتشددين، واضح أنه لايوجد أحد يشعر بالصدمة أو الاضطراب. ففي الرواية الإسرائيلية، معظم القتلى هم “محكومون بالموت وإرهابيون، ومخربون”، وإذا قُتل في الطريق أطفال ونساء وكبار في السن فهذا جزء من نتائج الحرب – نزع الإنسانية بكل وضوح طالما يتعلق الأمر بالفلسطينيي

عدد القتلى لايشغل في هذه الأيام حتى سكان قطاع غزة . فهم مشغولين بمسائل البقاء اليومي : هل ستعود الهجمات الإسرائيلية إلى الحجم الذي كانت عليه قبل وقف النار ؟ هل سيتم احتلال كل القطاع مجددا ? ومن سيموت اليوم أو غدا ؟ مسألة البقاء في القطاع مسيطرة جدا في هذه الأيام ، فإذا لم يأت الموت بغارة من الجو أو بنيران المدفعية فإنه يمكن أن يأتي في أعقاب مرض أوتلوث أو جوع أو برد – بالاخص اذا كان الأمر يتعلق بالأطفال الرضع . وحتى أن جهود البحث عن الجثث تحت الأنقاض قد خبت بالفعل ، والدعوات إلى إدخال معدات هندسية ثقيلة لتطبيق البروتوكول الانساني وتوسيع إدخال المساعدات الإنسانية ، وإدخال الخيام وفقا لإتفاق إيقاف النار – تبدلت كلها بالدعوة لإيقاف الهجمات . .
وحتى في حماس يفهمون بأن الدعوة التي يطلقها المتحدثون باسمها يوميا مطالبين فيها بالتدخل العربي والدولي، تذهب سدى . وتظهر متابعة بيانات المتحدثين باسم المنظمة تكرار رسائل لا تأثير لها، ولكن في حماس مازال هناك إصرار على الأقل على المستوى التصريحي، على أن إطلاق سراح المخطوفين سيكون جزءاً من مخطط شامل لوقف إطلاق النار بالكامل.

وتعزز هذا الموقف أيضا في أعقاب إعلان وزير الامن إسرائيل كاتس أمس، والذي جاء فيه أن المجلس السياسي والأمني ​​وافق على إقامة “إدارة انتقال طوعي لسكان غزة الذين يعربون عن اهتمامهم بالإنتقال لدول ثالثة”. وأوضح هذا الإعلان مرة أخرى أن الحكومة الإسرائيلية ليس لديها أي رغبة أو نية عملية للمضي قدماً في أي خطة من شأنها أن تؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من القطاع في المستقبل المنظور .
وإذا وضعنا بالاعتبار كل الوقت المطلوب لهذه العملية ــ من إقامة الإدارة، مرورا بموافقة جميع الأطراف المعنية، وحتى إيجاد دولة ثالثة توافق على استيعاب الفلسطينيين ــ فإنه لايوجد أي معنى لكل الحديث عن مرحلة ثانية أو ثالثة في الصفقة . إن دولة تخطط لمثل هذه الخطوة الدراماتيكية، التي لم يعرف الفلسطينيون مثيلا لها منذ عام 1948، لا تستطيع أن تترك فراغاً في القطاع، أو أن تسمح لأي قوة أخرى ــ وبالتأكيد ليس حماس وليس السلطة الفلسطينية ــ بالسيطرة على المنطقة وإحباط الخطة عمليا .

لن تتمكن إدارة النقل الطوعي، أو باسمها الحقيقي إدارة تشحيع الترانسفير من العمل إذا لم تسيطر إسرائيل على كل ما يحدث في القطاع، بما في ذلك السكان المدنيين المستهدفين بالطرد . ويدفع هؤلاء السكان ثمن الحرب حتى هذا اليوم وكثير منهم غير منتمين لأي طرف ، إنهم يريدون أن يعيشوا مثل البشر، وليس مثل قطيع الأغنام التي يقرر الجزار متى يريد ذبحها أو بيعها لمن يزيد بالثمن . إذا كان إعلان كاتس موجها فقط لموضوع العلاقات العامة للحكومة ، وهدفه هو الضغط على حماس لإطلاق سراح المخطوفين ، فهو إذا خطوة من شأنها فقط أن تبعد أكثر فأكثر فرصة التوصل إلى تسوية ، وسوف تقود مرة أخرى جميع من في قطاع غزة، مدنيين ورهائن على حد سواء، إلى نفس الفخ.
وبعيدا عن الموقف المبدئي الوطني ومعارضة أي خطة تهدف إلى الترحيل، فقد عاد النقاش حول هذا الموضوع إلى الواجهة في النقاش العام في قطاع غزة. ولكن حتى أولئك الذين يفكرون بينهم وبين أنفسهم بالمغادرة يدركون أن ما تقترحه إسرائيل، بتشجيع من إدارة دونالد ترامب، غير عملي، و لا يشكل ” عجلة إنقاذ ” بالنسبة لهم . وحتى أولئك الذين رغم كل ذلك على استعداد للمغادرة يُعربون عن سخريتهم من “الأهداف” التي تتلمسها الولايات المتحدة وإسرائيل،ومنها السودان والصومال أو أرض الصومال – وهذا إثبات أخر على عمق العنصرية والرؤية الاستعمارية للحكومة والإدارة الأمريكية . وحتى بنظر الفلسطينيين في غزة المدمرة، تُعتبر هذه البلدان مواقع للدفن وليس أماكن للعيش فيها . وإذا كان لا بد من الموت، فالأفضل في غزة. حتى لو وصل عدد القتلى إلى 60 ألفًا .

المصدر: هآرتس

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *