حياة لم تُختبر: وجوه إدوارد سعيد الكثيرة

مراجعة لكتاب «أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد»، لتيموثي برينان. نشرت في العدد 58، من «The Baffler». الترجمة منشورة بإذن المؤلف. 

كنت في السادسة حين سمعت كلمة «الاستشراق» للمرة الأولى. في إحدى ضواحي القاهرة، أوضح لي صديق أمريكي للعائلة أن صدور فيلم «علاء الدين» تأجل بسبب اعتراض «اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز» على أغنية ديزني الافتتاحية «الاستشراقية»، والتي تضمنت عبارة «هذه همجية، لكن، إنه الوطن». لا بد أنني تأثرت جدًا بالخبر، فقد التصقت الكلمة بذهني، رغم أنه ستمر سنوات قبل أن أعرف اسم النبي الذي جعلها رائجة. 

لم يكن إدوارد سعيد من بني إسرائيل، لكنه كان بالنسبة لحوارييه العديدين أحد المختارين. لقد جعله الخروج، والمنفى، ومصر -بعد يسوع المسيح وياسر عرفات- أشهر الفلسطينيين في العالم. نشأ سعيد، المولود عام 1935 في القدس لأبوين فلسطينيين أنجليكانيين، وعلى يد قابلة يهودية، في القاهرة حيث ورَّد والده أدوات مكتبية لجيش الاحتلال البريطاني خلال سنوات ما بين الحربين. تلقى تعليمه في فكتوريا كوليدج («إيتون الشرق الأوسط»)، حيث كان نجم هوليوود المستقبلي عمر الشريف وحسين بن طلال (الذي سيصير لاحقًا ملك الأردن) من بين زملاء دراسته، إلى أن فُصِل بسبب إثارة المشاكل. وفي عام 1951، قبيل انقلاب الضباط الأحرار الذي أطاح بملك مصر والسودان، مدشنًا بذلك عصر تفكيك الاستعمار في الشرق الأوسط، أُرسل سعيد إلى مدرسة داخلية في ماساتشوستس، ومنها تنقل بين سلسلة من جامعات النخبة (برنستون، هارفارد، كولومبيا)، حيث غازل الموسيقى لكنه استقر على الأدب.

صار إدوارد سعيد، الموجود دومًا خارج المكان، أشياءً كثيرة جدًا في آن: ناقد أدبي وسياسي حاد، عازف بيانو بارع وروائي غير متحقق. كان كاريزمي لكن قاسيًا، واسع المعرفة لكن ساخطًا. كان إنسانوياً علمانيًا زعم أنه خالط «إرهابيين» مسلحين، لكنه كان أيضًا، في بعض الأحيان، أنجليكانيًا متدينًا على نحو يثير الدهشة. سوف يدفع نشر أطروحته «الاستشراق»، عام 1978، بالناقد إلى شهرة عالمية، ويدعم اسمه كالأب المؤسس لدراسات ما بعد الاستعمار، لكن سعيد سوف يتبرأ من الكثير من الدراسات المنتجة تحت هذا الوسم. بوفاته في سبتمبر 2003، بعد شهور قليلة من غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة، كان قد أصبح أبرز المثقفين العرب الأمريكيين في العالم، وثاني أكثر المتحدثين باسم فلسطين بلاغة (بعد طالبته السابقة، الناشطة حنان عشراوي). كتجسيد لفلسطين التي تحدث باسمها على نحو رائع، صارت قصة حياة سعيد ميدانًا شنت فيه معركة إنشاء الدولة.

رغم أن «أماكن العقل» لتيموثي برينان هو أول السير الشاملة عن هذا المثقف البارز، فإن حياة سعيد مألوفة للكثيرين لأن نقاده الصهاينة ادعوا منذ فترة طويلة أنها ملفقة. في القاهرة، أول ما سمعته عن الرجل الذي نشر الكلمة كانت تشهيرات من قبيل: هل أتى حقًّا من فلسطين، أم أنه مجرد قاهري ثري يحول ذاته إلى أسطورة؟ كان قول إن سعيد اختلق سيرته يعني التلميح بأن سردية الاستلاب الفلسطينية بأسرها ملفقة. بظهور كتاب برينان، يبدو أن الكثير جدًّا يتعلق بقصة حياة رجل واحد، حيث توزن كل تفصيلة وتكتنفها المخاطر. (هل اسم سعيد الأوسط هو وليم كما يصر برينان، أم أنه وديع، كما يقول النقش العربي على ضريحه؟)    

سواء وهو يطير إلى بيروت كي يعرض على عرفات إقامة دولة فلسطينية نيابة عن جيمي كارتر في السبعينات، أو يحث جاكي أ. على نشر نجيب محفوظ في الثمانينيات، أو وهو على درجة عالية من الطلب إلى درجة أن جامعة كولومبيا أمكنها أن تستبقيه فقط بإعادة طلاء شقته كل عام (كما أُشيع)، كانت لدى سعيد سلطة تخيَّل نفسه، دائمًا، خُلوًا منها. لقد كان أحد أوائل المشاهير الأكاديميين -وهي مؤسسة ترسخت في التسعينيات حين شرعت الجامعات الأمريكية في احتذاء نموذج هوليود، كما لاحظ بفطنة المؤرخ فيصل ديفجي/ Faisal Devji. «كان مشاهير الأكاديميين، الذين يُدفع لهم أكثر كثيرًا من زملائهم في اتفاقات سرية، جزءًا من صيغة تمويلية شملت مشروعات رأسمالية ضخمة من قبيل المرافق الترفيهية، والفروع الجامعية التابعة، والفصول الدراسية خارج البلاد»، يكتب ديفجي. «مع رسوم دراسة فلكية، جذب تسويق التعليم العالي على هذا النحو الطلاب بوعد الوصول الحصري إلى الرفاهية، وشبكات العلاقات، وأسماء العلامات التجارية»، والتي كان الاسم «إدوارد سعيد» أحد أمثلتها البارزة. 

وفي الوقت نفسه، نعى باحثون آخرون، مثل أودي جرينبرج/ Udi Greenberg، سعيد بوصفه «أحد آخر الإنسانويين». بموت سعيد، هكذا يقال لنا مرارًا وتكرارًا، مات نمط من التفاعل الفكري مع العلوم الإنسانية يكاد أن يكون مستحيلًا في أكاديمية اليوم الليبرالية الجديدة -ورغم هذا فقد لعب تحويل أكاديميين مثل إدوارد سعيد إلى علامات تجارية باهظة التكلفة دورًا أساسيًا في هذه النهاية. «برفع النجوم» -من أمثال سعيد- «فوق هيئات تدريس عملت، بغض النظر عن النواقص، كجمع من الأنداد»، كما يكتب ديفجي، شهد الأساتذة تأثيرهم ينضب في مواجهة طبقة من المديرين، المتلهفين على تحويل معاقل التعليم السابقة إلى شركات استثمارية ملحق بها منشآت تعليمية.

لا تدلل السير الفكرية الأكثر إقناعًا على الجِدَّة المذهلة أو العبقرية المتفردة لمن تتناول حيواتهم، بل أنها تكشف كيف كان في استطاعتهم التقاط التحولات الاجتماعية والسياسية التي تحدث في كل مكان من حولهم. لسوء الحظ، لا يبدو أن هذا هو هدف برينان في «أماكن العقل»، الذي يعتمد مقاربة «الرجل العظيم» لدى كارليل؛ في نواحٍ عديدة لا يتجاوز برينان على الإطلاق السياق الذي قابل فيه سعيد للمرة الأولى، كطالب دكتوراة منبهر. لا توفر أي من المفارقات الكامنة في وضع سعيد كأحد مشاهير الأكاديمية وقودًا للفكر. الأكثر إشكالية هو أنه بينما تسعى السيرة إلى التأكيد على إدراج سعيد في بانثيون التاريخ الفكري الأنجلو أمريكي خلال القرن العشرين، فإنها تفعل ذلك على حساب التاريخ الطويل لمناهضة الاستعمار عربيًا، والذي صار سعيد ببساطة أشهر أمثلته من المتحدثين بالإنجليزية. رغم أن سعيد اندرج بين كوكبة لامعة من المثقفين والناشطين العرب، سيحظى هو وحده بالاعتراف داخل الأكاديمية الأنجلو أمريكية. باستخلاصه من السياقات الذي تكون فيها، برؤية سعيد كمدشن لنقاش لا كآت متأخر إليه، يضفي برينان عليه طابعًا استثنائيًا. يعود هذا، جزئيًا، إلى وفاء برينان الدائم لما كتبه سعيد وقاله عن نفسه. لكنه يدلل كذلك على عدم قدرة برينان على الوصول إلى، أو تقدير، تراث فكري لا يكاد يدرك في الوعي الشعبي والأكاديمي الناطق بالإنجليزية.

ربما يمكن فهم إدوارد سعيد على أفضل نحو كمترجم، كأول من جلب لقراء الإنجليزية أفكارًا شكلت الفكر العربي المناهض للاستعمار لما يقارب المئة عام قبله. عبر قراءاته لجيامباتيستا فيكو، فهم سعيد كيف تخلق الترجمة أشكالها المبتكرة الخاصة: مَن يُكرِّر، ويبعث، ويحمل الكلمات ذهابًا وإيابًا، هو أكثر جدارة من المبتكر المتوحد، الأسطوري. برينان نفسه يكتب: «بدلًا عن قطيعة كاملة مع الماضي، كان سعيد يبحث عن جِدَّة ترتكز على التراث». غير أن كاتب السيرة لا يستطيع أن يرى، أو فشل في أن يبين لنا، كيف تحديدًا فعل سعيد ذلك في نظريته عن الاستشراق، أو كيف كان التكرار والترجمة -رغم أنه بدأ متأخرًا في تعلم اللغة العربية المكتوبة- في جوهر أهمية سعيد المستمرة. في الفصل الأول من حياته، استحضر سعيد مفهوم العودة، ricorso لدى فيكو، للتفكير في كيف يمكن للمرء أن يكرر على نحو مبتكر. في فصله الثاني، ترك سعيد العودة كمجاز وجعلها مطلبًا فعليًا: حق الشتات الفلسطيني في العودة إلى فلسطين. 

متلازمات وقرن

بالنسبة لإدوارد سعيد، أشار مصطلح «الاستشراق» إلى كل من الحقل الأكاديمي الأوروبي الأمريكي الذي اتخذ الشرق موضوعًا للدراسة (عادة من منظور فقه اللغة واللاهوت، وأحيانًا علم الآثار)، وأسلوب أكثر عمومية في التفكير -متضمن في الأدب، ووسائل الإعلام اليومية، والأفلام- رأى أن الشرق والغرب مختلفان على نحو لا يمكن التوفيق بينهما. أخذ ذلك الاختلاف، في الغالب، شكل تعالٍ على الشرقيين، لكن كان من الممكن كذلك أن يعبر عن نفسه على هيئة إعجاب، أو بإضفاء طابع رومانسي، أو كشهوة جامحة. الجوهري بالنسبة لسعيد إذن هو أن المعرفة عن «الشرق» لا يمكن فصلها ببراءة عن الحكم الإمبريالي للمنطقة. على العكس من ذلك، جادل سعيد بأن المعرفة الاستشراقية كانت، في آن، من منتجات الحكم الإمبريالي وما جعل مثل هذا الحكم ممكنًا. لكن في واقع الأمر كان «الاستشراق» اسمًا لأشياء كثيرة في آن واحد: النزوع إلى معاملة غير الأوروبيين كأنه لا يمكن تمييز أحدهم عن الآخر، اللجوء إلى تراتبيات ثقافية وحضارية (كبديل للعرق حين صار الحديث البيولوجي عن القدرات غير رائج)، وكذلك نزعة استخدام الإنجازات المفترضة «للغرب» -وهو تصنيف مختلق وغير تاريخي- كمعيار تقاس طبقًا له إخفاقات من يقعون خارج نطاقه. 

هل كان الاستشراق عرضًا لمرض، أم المرض ذاته؟ إن كان الاستشراق طريقة للرؤية، هل ظهر فقط بسبب رؤية المراقبين المعيبة أم كان هناك بالفعل شيء مختلف، أو غير معتاد، في موضوع الملاحظة، تعين أن يفهم؟ تساءل النقاد: هل أتت الإمبريالية بالاستشراق أم أتى الاستشراق بالاستشراق؟ إن عدم رغبة سعيد في مواجهة هذه الأمور الملتبسة -حتى في مراجعات السنوات اللاحقة، من قبيل Orientalism Reconsidered «إعادة النظر في الاستشراق» (1985)- فسر، تقليديًا، كإخلاص منه «للنظرية» الفرنسية الرائجة، والتي ينسب إليه أحيانًا فضل تقديمها إلى الجمهور الأمريكي. لكن سعيد، كما يوضح برينان، انتقد فوكو على هذه الأرضية ذاتها حين كتب أن «الأصل والبداية غريبان كلاهما على نحو ميؤوس منه، وغائبان عن [ما يعنيه فوكو بـ] تيار الخطاب». على نقيض ذلك، كان سعيد مهتمًا بالأصول، كما يوحي عنوان أول كتبه الرئيسية «بدايات/ Beginnings». لقد هاجم سعيد فوكو بسبب تركيزه المبالغ فيه على «قواعد غير شخصية، وعبارات بلا مؤلف، وتعبيرات منضبطة»، وبسبب ادعاءه أن مرجعية المؤلف ليست مهمة. قال سعيد إن فوكو أخفى عامدًا أسلافه الفكريين كي يبدو أكثر إبداعًا مما كان في الحقيقة.

هل كان من الممكن أن يقال الشيء نفسه عن سعيد هو الآخر؟ منذ البداية، اتهمه نقاد من قبيل الماركسي المصري أنور عبد الملك بالاستعارة؛ ادعى عبد الملك أن سعيد اعتمد على مقالته المنشورة عام 1963 «الاستشراق في أزمة/ Orientalism in Crisis» بدون إسناد. دفاعًا عن سعيد، يصر برينان أنه «ذكر أسلافه … بوضوح تام: جاك بيرك، ماكسيم رودنسون، عبد الله العروي، حسين فوزي، قسطنطين زريق، جورج أنطونيوس، وألبرت حوراني». لكن سيكون من الخطأ أن نرى مناهضة الاستشراق كفكرة يمكن إرجاعها إلى مؤلف واحد أو إلى سلسلة من المؤلفين. في الحقيقة، إن كان الاستشراق خطابًا شكلته «قواعد غير شخصية، وعبارات بلا مؤلف، وتعبيرات منضبطة»، أليس من المنطقي أن تكون مناهضة الاستشراق كذلك هي الأخرى؟ منذ بداية استعمار القوى الأوروبية للمنطقة، لاحظ النشطاء المناهضين للاستعمار مركزية المعرفة، كشكل من أشكال التمثيل، في إخضاع الشعوب العربية. في عام 1877، قبل نحو مئة عام من صدور «الاستشراق»، سيجعل يعقوب صنوع، وهو يهودي مصري إيطالي، مهمته أن يختبر كيفية استخدام الكلمات كأسلحة حرب. في دوريته «أبو نضارة»، اتخذ صنوع نظارة رمزًا له، كأنما لتصحيح الرؤية المعيبة -أو النظرة gaze، كما ستدعوها دراسات ما بعد الاستعمار- لدى القوى الإمبريالية. 

ستستدعى الفكرة مرة أخرى عام 1910، حينما يصف عبد العزيز جاويش، وهو شيخ اشتراكي درس العربية في أكسفورد، كيف يلوح البريطانيون «في وجوهنا بأسلحة كلماتهم القاتلة وقتما نطالبهم بمغادرة بلادنا». تمامًا كما ستستخدم «هذه همجية، لكن، أنه الوطن»، بمصاحبة لحن جذاب، في إضفاء شرعية على العدوان الأمريكي على العراق أثناء حرب الخليج الأولى، فقد برر المستعمرون البريطانيون احتلالهم لمصر بتصويرها كمكان همجي على نحو واضح ويحتاج إلى التحضير. تحديدًا، ادعى البريطانيون، يكتب جاويش، أن التعصب الديني «يتوارى في قلب كل مصري.. وسوف ينفجر مثل بركان، وستتقد نيرانه إن غادروا وادي النيل». في إدراكه لمركزية الكلمات بالنسبة للحكم الإمبريالي، برهن جاويش على العلاقة بين السلطة والمعرفة، بدون أن يقرأ دريدا أو فوكو. بدلًا عن ذلك، بالاستناد على التعصب الذي عايشه مباشرة بين طلابه هو نفسه في أكسفورد وفي مؤتمرات المستشرقين الدولية العديدة، بلغ جاويش الأسئلة ذاتها، بخصوص العلاقة بين التمثيل والسيطرة، التي سيعبر عنها سعيد لاحقًا كما هو معروف.

غير أن مثل هذه الاكتشافات لم تكن مقصورة على العالم العربي: يمكن للمرء أن يجادل بأن المقولة الأساسية لـ«الاستشراق» عبر عنها للمرة الأولى خبير في اليابان، عام 1912، في دورية «Journal of Race Development». يكتب القس الأبرشاني وليم إليوت جريفيس William Elliot Griffis:

لقد طورت أسطورة أدبية تضع ما يدعى «الشرق» وما يسمى بمحبة «الغرب» في تضاد هو الأكثر حدة. لقد خلق الشاعر، وكاتب الدراما، والمؤلف العاطفي، والروائي، وصانع المناظر المثيرة على خشبة المسرح، والأفلام، والجريدة سريعة التوزيع، «شرقي» الخيال، والفانتازيا، والتحامل، والتحيز، «شرقيا» ليس له نظير في الواقع ولم يوجد من قبل قط. صار تصوير «الشرقي» ككائن له هيئة بشرية، تختلف طبيعته جذريا عن «الغربي»، من «المصالح الراسخة»، من مقتضيات المهنة، ومضاربة دائمة وواعدة دومًا. ينطوي مثل هذا التصوير وذلك التباين على قيمة تجارية. إنه يدر ما يحبه الأمريكي بشدة -المال. 

بخلاف سعيد، الذي تتبع كما هو معروف أصول هذا التصوير كآخر إلى هوميروس، يصر جريفيس على أن «ابتداع هذا الشخص النمطي، ‘الشرقي’، هو أمر حديث نوعًا ما». في الواقع، ربما كان جريفيس هو من فكر فيه المؤرخ العظيم مارشال هودجسون/ Marshall Hodgson، مدفوعًا بالرعب من اعتقال اليابانيين الأمريكيين، كتب أطروحته الأولى «لا يوجد شرق/ There is No Orient» من السجن كمعترض ضميري من الكويكرز أثناء الحرب العالمية الثانية.  

اعتبر المتيمون بسعيد أنه، وحوارييه الفكريين، قادرون بشكل فريد على فهم هذه العلاقة بين التمثيل والسلطة. لكن أليس من المنطقي أن يكون بمقدور من عاشوا، على نحو أكثر مباشرة، تحت قبضة الحكم الإمبريالي العنيفة أن يفهموا هذه العلاقة، حينها، بوضوح أكبر؟ لنحو مئة عام، فهم الناشطون المناهضين للاستعمار أنه إن كانت المنطقة التي ندعوها الآن الشرق الأوسط قد استعمرت من خلال التمثيل، فسيكون على إنهاء استعمارها أن يفك العلاقة بين الكلمات والأشياء التي ارتكز عليها استعمارها. هكذا رفض مفكرون مثل عبد العزيز جاويش التقابل الزائف بين الفكر والفعل، فقد أصروا مرارًا وتكرارًا، بضرب المثل، على أن العالم لا يمكن تغييره إن لم يعاد وصفه كذلك على نحو خلاق. لقد حدس النشطاء العلاقة بين السلطة والمعرفة عبر النضال، وهو ما سيفهمه سعيد وآخرون عبر تأملات من فوق مقاعد وثيرة بعدها بعقود. وسواء قصد سعيد أن يكون هذا هو الحال أو لم يقصد، فإن كتابه «الاستشراق» استخدم لرفض مجمل فكر النهضة بحجة أنه كان مدينًا للأشكال التمثيلية لدى المستعمِرين، ولمجازاتهم. 

رغم هذا التاريخ الأطول، جعلت الأطروحة من سعيد قائدًا لحقل دراسات ما بعد الاستعمار المزدهر، ذلك الحقل الذي يخبرنا برينان أنه انجرف مبتعدًا عن مشروع سعيد نفسه، رغم أن الأخير سيتردد في التبرؤ منه. لقد كان الجدل الهائل الذي أثاره الكتاب، كما لاحظ عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد، عرضًا على مثابرة الاستشراق الذي شرع سعيد في إدانته. جادل نقاد الكتاب في العالم العربي بأنه ليس جديدًا. أدان مثقفو جنوب آسيا في الشتات الكتاب لأنه لم يكن ماركسيًا (رغم محاولات برينان لإضفاء بعض التعقيدات على الصورة، لم يكن سعيد كذلك في الواقع)، بينما وجه مستشرقون حانقون، وعديمو الجدوى (كثير منهم بريطانيون) نقدًا متسرعًا، واهنًا (غالبًا بعد موت سعيد حين لم يعد في مقدوره الرد). يود برينان، في بعض الحالات، أن يختزل هذه الانتقادات في أحقاد شخصية -مثل انتقادات صادق جلال العظم الذي سيقر له سعيد في النهاية بأن «الاستشراق» لم يكن «كتابًا جيدًا حقًا»، وأنه لم تبق لديه «أي مشاعر سيئة، لكن ربما بعض الكدمات المعنوية». كان الجدل الذي أثاره الكتاب قد استنفد نفسه تمامًا بحلول الذكرى الأربعين لصدوره عام 2018 إلى حد أن هذه الذكرى مرت بدون أن تلاحظ كثيرًا.

يلاحظ برينان أن كتابات سعيد، التي احتفي بها كروائع في الأكاديمية الأنجلو أمريكية، حصدت نجاحًا أقل بكثير بين قراء العربية، «بسبب الترجمة العربية المعقدة لـ’الاستشراق’، وطول وتبحر ‘الثقافة والإمبريالية’». لكن ربما لم يكن «الاستشراق» قط قصة نجاح عظيمة في العالم العربي، ليس لأن العرب لم يكونوا قادرين على التعامل مع تبحره المعرفي أو تعقد نثره، بل لأن الأفكار التي عبر عنها كانت جد بديهية، وعادية حتى. إن كانت أعمال سعيد قد فشلت في إثارة الإعجاب، فذلك لأن الأفكار التي عبر عنها كانت متداولة بأشكال متنوعة عبر العالم العربي لما يقارب القرن قبل أن يكتب سعيد عنها. في «أماكن العقل»، كان برينان ليحسن صنعًا إن فسر لقراءه لما استغرق الأمر وقتًا طويلًا هكذا كي ينظر إلى هذه الأفكار بجدية في الأكاديمية الأنجلو أمريكية، بدلًا عن سبب عدم رواجها في العالم العربي مع صدور  «الاستشراق». يثير هذا تساؤلات حول أي الأفكار تعتبر «نظرية» يحتفى بها، وأي الأشكال والصيغ تحتاج الأفكار إلى أن تكتب بها كي تكون مفهومة لمحكمي الأكاديمية الفكريين. 

حتى بالنسبة لمن لم يستثمروا الكثير في طائفة سعيد، يبقى سؤال إن كان «الاستشراق» يمثل ذروة نقاش، لا بدايته، سؤالًا هامًا. إن كان برينان محقًا في قول إنه يجب النظر إلى سعيد، قبل أي شيء آخر، كناشط سياسي (على خلاف باحثي دراسات ما بعد الاستعمار الآخرين بكراهيتهم غير العقلانية لكيان غامض يُدعى «الحداثة»)، فالسؤال الذي يتعين أن يطرح على «الاستشراق» ليس إن كان النص يقبض بدقة على القوى المحركة لماض تاريخي، بل بالأحرى إن كانت استراتيجيته بخوض معركة حول التمثيل قد نجحت، أو كان يمكن لها أن تنجح. إن كان سعيد يأتي في نهاية، لا بداية، إرث كهذا، هل يمكننا أن نجادل، إذن، بأن ذلك الإرث قد فشل؟ ربما يكون الأمر أن «أهمية» سعيد يمكن فهمها على أفضل وجه من خلال فشل مشروعه، لا نجاحه المزعوم. هل يمكن لنقد إساءة تمثيل، أو للكشف عن الأصول المخزية لفكرة عزيزة، أو للحديث بـ«الحقيقة إلى السلطة» (كما عرَّف سعيد دور المثقف) أن يحقق بالفعل ما أراد أن يفعل؟ («كل وثيقة للحضارة هي في آن وثيقة للهمجية»، كما قال سعيد كثيرًا، مرددًا صدى فالتر بنيامين). قد يوحي ما يزيد على مئة عام من ذلك بأن الإجابة هي لا. لقد جادل كثيرون، بمن فيهم بعض مراجعي السيرة، بأن كتابات سعيد ما زالت «مهمة» لأن الظروف التي أدت إلى ظهور مشروعه بقيت كما هي، غير أن مثل هذه الحجج البليغة غالبًا ما لا ترى أن «الاستشراق» ربما وصل بعد فوات الأوان. 

ذلك كان، جزئيًا، النقد الذي وجهه عالم الأنثروبولوجيا الفنزويلي اللامع فرناندو كورونيل/ Fernando Coronil، الذي جادل بأنه على الرغم من تركيزه على التمثيل المعيب أو غير الدقيق، فقد ترك «الاستشراق» بدون أدنى فحص الكيان الذي قام هو نفسه بالفحص أو التمثيل: الغرب. في خضم الجدل اللانهائي حول طبيعة التمثيل، تركت أكبر الأساطير دون أن تمس. كان «الغرب»، المفترض أنه مستقر، ومعروف، وغير متغير، هو أكثر علامات العالم التجارية نجاحًا. لكن الأهم بالنسبة لكورونيل هو أن الغرب علامة علائقية. لقد كان تعمية على عالم غير متكافئ على نحو درامي: تبريرًا بأثر رجعي لانعدام المساواة على نطاق عالمي. كان انعدام المساواة هذا علائقيًا بطبيعته -الثروة بالنسبة للبعض لا بد أن تأتي على حساب فقر آخرين- ورغم هذا فإن نجاح «الغرب» كعلامة تجارية (تستدعي الانتخابات الحرة، وثروة لا حد لها، والعقلانية.. إلخ) اشتق تحديدًا من مقدرته على تعمية أصله المشترك وعلاقته، على نحو يجعلها غير مرئيين، مع الشرق الذي سيتضاد معه.

الواضح من تناقضات كتاباته أن سعيد فهم، كذلك، أن «الغرب» مختلق، لكنه لم يتخل تمامًا عنه كتصنيف، أو ربما لم يستطع ذلك. ربما احتاج إليه أكثر مما ينبغي، كمجاز حتى أو كاختزال للكيان الذي يسعى إلى تجاوزه، ووصفه، وتشريحه. في الواقع، إن واحدة من أكثر الجوانب إثارة للاهتمام في سيرة برينان هي أنها توضح مدى الفجوة بين الأفكار التي اعتنقها سعيد كتابةً والتصنيفات التي نظمت نشاطه السياسي. على سبيل المثال، نعرف من برينان أنه بينما كان سعيد يفكر في «الاستشراق»، سأل أحد أصدقائه: «لماذا كل الأعمال العظيمة عن الشرق الأوسط كتبها باحثون غربيون؟ لماذا الأنظمة العربية استبدادية هكذا؟» لا تختلف هذه الأسئلة عن تلك التي شغلت عدوه اللدود برنارد لويس، الذي ظهرت أطروحته الموجزة «أين الخطأ؟/ What Went Wrong?» في أعقاب 11 سبتمبر. 

في بواكير حياته المهنية، كان سعيد مدفوعًا بكثير من الاهتمامات التي سيسخر لاحقًا من خصومه لتعبيرهم عنها. في حين أن سعيد سوف يسلخ سول بيلو/ Saul Bellow لقوله إن الزولو لم يكن لديهم أي تولستوي وأن البابواويين لم يكن لديهم أي بروست، فقد أبدى هو ملاحظات شبيهة عن شعبه غير المختار قطعًا: «ليس لدينا أي أينشتاين، أي شاجال، أي فرويد، أو روبنشتاين كي يحموننا بإرث من الإنجازات المجيدة». سوف يتحسر -عن خطأ- على أن «العرب منذ ابن سينا وابن خلدون (اللذين استعارا من أرسطو) لم ينتجوا قط نظرية للعقل». كما دعيت الأوركسترا التي أنشأها مع دانييل بارينبويم «الديوان الشرقي الغربي»، وهي هيئة لا يمكن لاسمها نفسه، حتى إن كان إشارة ساخرة لجوته، إلا أن يستدعي التصنيفات التي حرص سعيد على كشفها كتلفيقات. ماذا إن كان بدلًا عن تقويض وجود تصنيفات يفترض أنها تنفي أحدها الآخر، مثل «الشرق» و«الغرب»، احتاج سعيد منها أن توجد كي يتمكن من تجاوزها؟ ماذا إن كان الرجل الذي فعل أكثر من غيره لترويج فكرة أن «الشرق» مختلق، لم يكن بوسعه إلا أن يرتكز على التصنيفات التي سعى إلى تفكيكها؟

لا يوجد انفجار عظيم 

لم ينتبه جيلي في العالم العربي إلى رسالة سعيد بسبب أي اهتمام بالسجالات الأكاديمية التي يعيد برينان بناءها بعناية شديدة. في عام 2000، كان دخول الأكاديمية الأنجلو أمريكية، عبر الفتحات التي من المفترض أن سعيد خلقها من أجلنا، أمرًا بعيدًا جدًا عن عقلي البالغ 13 عامًا. إن قتل محمد الدرة، في عامه الثاني عشر، بدم بارد على شاشات التليفزيون، هو ما هز وجودنا الثري، المريح. في ما سيصير اليوم الثاني من الانتفاضة الثانية، تنبه جيل والدي إلى القضية الفلسطينية مرة ثانية بعد 18 عامًا من «السلام» النسبي مع إسرائيل، عقب إنهاء احتلالها العسكري لمصر عام 1982. في جريدة «الأهرام ويكلي»، وسط قوادة دافئة للولايات المتحدة، وإسرائيل، وحكوماتنا المتواطئة نفسها، كانت أعمدة سعيد بعض النوافذ القليلة على سياسات راديكالية تم فعليًا إسكاتها في كل مكان آخر. المفارقة هي أن حقيقة أنه كان يكتب بالإنجليزية هي ما سمحت لسعيد أن يفلت بما قاله، وأن يبلغ عقولًا مراهقة، فضولية مثل عقلي. 

قُدِّم سعيد إلى «الويكلي» عبر منى أنيس، التي كانت قد قابلته عام 1984 بينما كانت طالبة دكتوراه في جامعة إسكس، لكنه لم يكتب لهم للمرة الأولى إلَّا في سبتمبر من عام 1993. بينما كان في زيارة للقاهرة لإجراء بحث على «خارج المكان»، كما ستدعى مذكراته في النهاية، سمع سعيد عن الصفقة السرية التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل، والتي ستوقع في النهاية كاتفاقية بأوسلو في وقت لاحق من ذلك العام. كتب مقال رأي متقد العاطفة، منددًا بها ومشبهًا إياها بمعاهدة «فرساي»، وأرسل المقال إلى «الويكلي». رغم حقيقة أن «الويكلي» مملوكة للدولة، ورغم أن السياسة الرسمية لمصر كانت تأييد اتفاقية أوسلو، فقد نشروها. بدافع الولاء لشجاعتهم، سوف يكتب سعيد عمودًا نصف شهري للجريدة للعشرة أعوام التالية. إن عدم ظهور كل هذا في «أماكن العقل» ليس أمرًا مدهشًا على الإطلاق: تماشيًا مع التقاليد المعتادة في السير الفكرية، يركز الكتاب على الأطروحات الفكرية الكبرى التي كتبها سعيد، الأكاديمي الأمريكي العظيم، لا أعمدة الصحف الفعالة، لكن العابرة، التي كتبها سعيد الناشط العربي. غير أن مثل هذه التراتبيات تحجب الطرق المثيرة للاهتمام التي ابتعد بها الناشط عن الأكاديمي.

إن كان برينان محقًا في تأكيد أن «خارج المكان» هو ما أمن مكان سعيد في المرجعية الأدبية العربية (يدعي أنه كان كتابه الأكثر مقروئية)، لم يكن ذلك لأن نصوصه الأخرى كانت مفرطة التعقيد أو التنميق بالنسبة للقراء العرب. ولا لأن «خارج المكان» كان أكثر صراحة، أو «اعترافية»، أو أكبر في «حمولته النفسية» مما اعتاد القراء في العالم العربي («باستثناء ‘الخبز الحافي’ لمحمد شكري»). مقارنة بـ«المبتسرون» لأروى صالح، أو «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، كان «خارج المكان» معتدلًا إلى حد كبير. لقد استحوذت المذكرات على اهتمام الكثيرين لأن الاقتلاع الثقافي التي لاقاه سعيد في القاهرة شبه الكولونيالية كان يشبه كثيرًا الانزياحات الجديدة التي حدثت في تسعينيات القرن العشرين بعد انهيار القومية العربية، عبر «إعادة الهيكلة» الليبرالية الجديدة برعاية صندوق النقد الدولي وبقية الوكالات الكولونيالية الجديدة. حين صدر الكتاب، كان جيل جديد، أنتمي إليه، يشعر بالتمزق بفعل الأمركة الثقافية والعسكرية للمنطقة. رغم أن مدرسة سعيد، فكتوريا كوليدج، (المسماة باسم الملكة) اعيدت تسميتها إلى فكتوري كوليدج (في إشارة إلى اسم ناصر)، وأُممت، فقد ظهرت مجموعة كبيرة جديدة من المدارس ومؤسسات التعليم العالي الدولية الخاصة على امتداد المنطقة. لقد وجد جيل جديد نفسه، مرة أخرى، خارج المكان.

في حين نعطى، باستفاضة، التفاصيل الدقيقة عن تأثير بعض نقاد نيو إنجلند الجدد، قليلي الأهمية، فإن الأصدقاء الأعداء لسعيد من العرب (وكان هناك الكثير منهم) -أدونيس، كلوفيس مقصود، «كونستي» زريق، كنعان مكية، صادق جلال العظم، تشارلز مالك، وفؤاد عجمي – يظهرون بشكل عابر في سيرة برينان ككاريكاتيرات لا تثير التعاطف. ستكون علاقات سعيد، تقريبًا بهم جميعًا، علاقات مضطربة، ليس لأنه كان معقدًا على نحو غير معتاد، بل لأنهم كانوا جميعًا كذلك. خذ، على سبيل المثال، كنعان مكية، المهاجر العراقي الذي سيصبح في نهاية حياته مشجعًا للمحافظين الجدد على غزو عام 2003، والذي سيختلف معه سعيد خلافًا مذهلًا، وحادًا. كانت رحلة مكية، الذي كتب بعدة أسماء مستعارة، من اليسار إلى اليمين رحلة متضاربة، ومضطربة. إلى حد أن برينان غير قادر على تحديد أحد أسماء مكية المستعارة، «سمير الخليل». مثل كرستوفر هيتشنز/ Christopher Hitchens، الذي سيتحول من حليف يساري لسعيد ومؤلف مشارك معه إلى صقر حرب بعد 11 سبتمبر، ينطوي مسار مكية على بعض الدروس. لكن برينان ملتزم تمامًا بتقديم سعيد كشخصية متعددة الجوانب إلى حد أنه يفعل ذلك على حساب تسطيح محاوري سعيد العرب. إن برينان غير قادر على رؤية كيف أن تناقصات سعيد لم تورثها له عبقريته المتفردة، بل أنها كانت جزءًا لا يتجزأ من الحالة المأساوية للاستلاب العربي.

رغم أن الكتاب مُهدى إلى الشعب الفلسطيني، فإن أكثر غائبي التاريخ شهرة هم بالكاد حاضرون فيه. على سبيل المثال، يلمح برينان أن سعيد كتب الخاتمة الشهيرة، البليغة، لخطاب عرفات في الأمم المتحدة عام 1974 («لقد جئتكم.. بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي»)، بينما في الواقع قام بتأليف النص مجموعة من مسؤولي منظمة التحرير تشمل خالد وهاني حسن، ونبيل شعث، وشفيق الحوت. يتطلَّب إنصاف الفلسطينيين منا ألا نقدس سعيد، بل أن نقدره ككاتب قُرِأ قراءات نقدية في فلسطين، ومنها. إن كان باحثون مثل بشير أبو منة يأخذون موقفًا نقديًا، ينطوي على تقدير، (أنظر كتابه الرائع «بعد سعيد/ After Said») فليس ذلك لأنهم اختلفوا مع أهدافه، بل لأنهم (كذلك) تساءلوا عن فاعليه الاستراتيجية التي اختارها.  

في عام 1994، بينما يشعر بالسخط والحنق من جبن عرفات المفترض في قبول اتفاقية أوسلو، اعترف سعيد أنه سافر في مهمة سرية إلى بيروت عام 1978، برعاية إدارة كارتر، كي يحاول إقناع عرفات بقبول دولة فلسطينية. المصدر الوحيد لهذا الادعاء هو سعيد نفسه، في السيرة، لكن كان يمكن لبرينان بالطبع التأكد من ذلك باستخدام أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية. ورغم أن أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية دُمِّر أو اختفى أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، فإن أرشيف الفكر الفلسطيني ما زال حيًا في عقول كثير من الناشطين، والمسئولين، والمفكرين الذين عاشوا خلال تلك السنوات. لكنهم، مثل أمور أخرى كثيرة ذات صلة بفلسطين، يلفتون النظر بغيابهم عن «أماكن العقل».

وعلى نحو شبيه -ولو أننا لن نعرف ذلك من برينان أبدًا- حين قال سعيد بشكل استفزازي، «أنا آخر المثقفين اليهود!» فقد كان يستند على جماليات تناقض فلسطينية. لم يكن من قبيل الصدفة أن رواية فلسطين الأشهر تدعى «المتشائل»، وأن عملًا آخر من أشهر أعمالها الأدبية حمل عنوان «ذاكرة للنسيان». وعلى أي حال، ألم يُعرف الفلسطينيون الذين طُردوا من بيوتهم، ومنعوا من العودة، أثناء حرب 1948 وبعدها، بـ«الغائبين الحاضرين»؟ بالنسبة لسعيد، لم ينتم السياسي والجمالي قط إلى مجالات يمكن الفصل بينها كما حالهما في سردية برينان، لكنهما كثيرًا ما كانا ممتزجين، على نحو أدائي، وسجالي، وشعري. حقيقة أن سعيد أدرك السياسي في الجمالي («الثقافة والإمبريالية») وجماليات السياسي (مديحه المتزلف لعرفات في مجلة وارهول «إنترفيو») جعلته عميق الفكر، لكن ليس، كما يجري القول المبتذل، متناقضًا. لقد سهل الاحتفاء بالتناقض على هذا النحو، بدون قصد، الفصل بين سعيد الجمالي (الأستاطيقي) على حساب سعيد السياسي. كان سعيد في قمة تألقه حينما يكون مدركًا لعدم إمكانية الفصل بينهما. 

في مناقشته لإرث سعيد في دراسات ما بعد الاستعمار، يميز برينان بين اهتمامات سعيد الرئيسية -إنشاء دول جديدة [فلسطين على الأخص]، تقديم التماسات إلى الحكومات، والمعارك الإعلامية في المجال العام- واهتمامات الكثير من الباحثين بُني البشرة الذين سيأتون في أعقاب سعيد. بدلًا عن السعي وراء برامج عمل محددة، فقد حركت هؤلاء الباحثين «كراهية عامة لكيان غربي يُدعى على نحو غامض ‘الحداثة’»، يكتب برينان. في حين أن توصيف سعيد على هذا النحو صحيح، فقد اختلق برينان هنا شخصية وهمية، مزعجة إلى حد كبير، كنقيض لبطله. يكتب مؤلف السيرة:

اقتحمت الموجة الجديدة من باحثي دراسات ما بعد الاستعمار، وكثير منهم من مستعمرات سابقة أو يرتبطون بالميلاد أو بالانتماء العائلي لأشخاص كذلك، الحياة الأكاديمية الغربية للمرة الأولى. كانوا من جيل تشكل تحت حكم ريجان من جهة، وما بعد الحداثة من جهة أخرى. منحدرين من جنوب آسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وغالبًا من عائلات ميسورة الحال لها علاقات سياسية، هاجر كثير منهم إلى جامعات الحاضرة المتروبوليتانية جزئيًا بسبب الفتحات التي خلقها سعيد. لكن ما أن صاروا هناك، وشعروا بسلطتهم حديثة العهد، حتى اعتنقوا نظرية «انفجار عظيم» مفادها أنه لم توجد مقاومة قبلهم. بدا أن الفكرة هي أنه يجب على المرء أن يكون عضوًا في جماعة عرقية، أو إثنية، أو قومية مضطهدة كي يقاوم المظالم الإمبريالية، وعُقِد تساوٍ (عارضه سعيد دائمًا) بين ما يعرفه المرء ومن هو. 

إن كانت ثمة نظرية «انفجار عظيم» من الأساس، فهي موجودة فقط في السردية التي يحاول برينان نسجها. وإنه لمما يؤسف له أن يشعر برينان بأن عليه اللجوء إلى مثل هذا الاستبعاد واسع المدى للباحثين البنيين والسود الذين كتبوا في أعقاب «الاستشراق». في الفقرة السابقة، يسقط سردية سعيد الخاصة عن حياته على مجموعة ضخمة ومتنوعة من الباحثين الآتين من الجنوب العالمي، على نحو لا يلقي الضوء على شيء بخلاف محدوديات برينان ذاته. إن سعيد هو من أتى من «عائلة ميسورة الحال لها علاقات سياسية» (ساعد تشارلز مالك، قريبه بالمصاهرة، في إعداد مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، وسعيد هو من لم يكن جيدًا، بعد «سلطته حديثة العهد»، في الإقرار بالدين (بخلاف مقال عام 1969) الذي كان مدينًا به لأسلافه. أما «الفتحات التي خلقها سعيد» فمشكوك فيها إلى حد كبير -بمشاركته في سوق مشاهير الأكاديمية، ربما يكون أيضًا قد أغلق أبوابًا عديدة. وهناك، بطبيعة الحال، الأساتذة الذين أتوا قبل سعيد، وهم أول من اقتحموا البوابات: درَّس فيليب حتي الأدب السامي في جامعة برنستون منذ العشرينيات، درَّست نبيهة عبود الدراسات الإسلامية منذ عام 1949، ودرَّس تشارلز عيسوي (الذي سيهاجمه سعيد بضراوة في العلن) الاقتصاد في جامعة كولومبيا منذ عام 1961، ودرَّست عفاف مارسو التاريخ الحديث منذ عام 1968، إن ذكرنا القليل منهم فقط. غير أنه بالنسبة لكثيرين ممن أتوا قبل سعيد وبعده، إن عُقِد تساوٍ، ولنستخدم تعبيرات برينان، بين «ما يعرفه المرء ومن هو»، فإن هذا التساوي لم يكن من اختيارهم، ولم يكن ذلك طرحهم: لقد فُرض على الباحثين البنيين كي يذكرهم دومًا بأن دخولهم منحة لهم من الأعلى بسبب هوياتهم، وبسبب قيمتهم كـ«تنوع» داخل جامعات بيضاء، وليس لقوة فكرهم، وهكذا ظلوا هامشيين -حاضرين لكن ما زالوا غائبين غيابًا عميقًا عن مراكز السلطة. 

الأسلوب الأكثر تأخرًا

في عام 2003، قبل وفاته ببضعة شهور، حظيت بفرصة مقابلة إدوارد سعيد حين أتى إلى القاهرة للمرة الأخيرة. في 17 مارس، في قاعة مكتظة بالجامعة الأمريكية في القاهرة، حظي سعيد باستقبال الأبطال وهو يلقي محاضرة من جزئين. كانت الشوارع مشتعلة بمظاهرات ضد حرب العراق: الاحتجاجات التي كثيرًا ما تعتبر الآن، في نظرة استرجاعية، جزءًا من قبل-التاريخ شبه الأسطوري لانتفاضات 2011 في ميدان التحرير، ليس ببعيد عن المكان الذي ألقى فيه سعيد خطابه. ولأنه تحدث بالإنجليزية، فقد تمكن سعيد مرة أخرى من تناول أمور لم تكن ليتم التسامح معها إن كانت قد ألقيت بالعربية.

وصل سعيد إلى القاهرة كأيقونة راديكالية: سوف يؤيد الكفاح المسلح في فلسطين (وسيخالط جورج حبش) بعد عقود من عدم الوضوح تجاههما. تستحق كيفية تطور أرائه في العنف، وأسباب ذلك التطور، تاريخًا ثقافيًا خاصًا. لكن كتابة مثل هذا التاريخ تتطلب من كاتبـ/ـة السيرة توسيع مفهومهـ/ـا عما هي الأفكار، وأي الأفكار تستحق أن يكتب عنها، وأين تنشأ، وكيف تتطور. سوف تتطلب قدرًا أقل من التوقير للقراءات التفسيرية للمنظرين الفرنسيين والباحثين الإنسانويين -وانشغالًا أكبر بالإستراتيجية، والبلاغة، والفاعلية، وهي الفئات الفكرية التي تحفز من يعتبرون أنفسهم ناشطين قبل أي شيء آخر. 

ليس من المستغرب أن النقاد الذين شككوا في أصالة سعيد كثيرًا ما كانوا بيضًا؛ لم تستطع تصوراتهم عن الهوية العربية التعامل مع شخصيته التي تنسف التصنيفات. لكن هذا تحديدًا هو ما جعل منه رمزًا قويًا هكذا بالنسبة لجيلي. سيكون من قبيل المبالغة المجادلة بوجوب وضع سعيد في جينيالوجيا الأفكار التي ستؤدي في النهاية إلى الربيع العربي. لكن في عالم ما بعد 11 سبتمبر، حيث اتفق خبراء مراكز الأبحاث، والأكاديميون البيض حسنو النية، والقادة العرب المستبدون، اتفقوا جميعًا على أن السياسات الشعبية الوحيدة التي يمكن توقعها في المنطقة هي إسلامية (أي يحدد الدين مساراتها، إن لم يكن نشوئها)، كان موقف سعيد الراديكالي، والعلماني بشدة، موقفًا محفزًا إلى أقصى حد. لقد أوصل لنا فكرة مفادها أن سياسات الأصالة والهوية هي ذاتها إملاءات تنزع الطابع السياسي، وأن كون المرء «خارج المكان» ليس علامة على الفشل، بل على الشجاعة السياسية. إن عنى «المكان» تراتبية، ضمنيًا ذات طابع عرقي، فسوف يتعين علينا تجاوزه. لم يعلمنا سعيد ذلك، لكنه أعطانا بالتأكيد مفردات وبلاغة للتعبير عنه. 

مأساة إدوارد سعيد لم تكن مأساة رجل تتجاذبه الأصول الأوروبية لاسمه الأول ولقب عائلة عربي على نحو لا لبس فيه، كما يقال لنا بشكل روتيني. لم تكن حتى مأساة فلسطيني هو، على نحو متناقض، بروتستانتي، وجوال، وقضيبي، وسجالي، وعازف بيانو، وسياسي في آن واحد. مثل هذه التناقضات توجد فقط في عين الرائي، غير أن الاحتياج الدائم إلى اللجوء إليها كاشف في ذاته: إن تصوير سعيد كاستثناء أسهل من مساءلة كيف نصنع ما نتخيل أنها القواعد، ونصدقها، وندعمها. إن جعل سعيد استثنائيًا يعطي، في نهاية الأمر، الإحساس بأن نوعًا معينًا فقط من المثقفين العرب «لائق المظهر»، وأن البقية تنشغل بأفكار تافهة، غير عالمية، تنقصها الجِدَّة، ولا تمثل أدنى أهمية لمثقفي الحواضر. كما أنه يسمح لكتاب مثل برينان بالتواجد كمترجمين للفكر العربي، وحراس لبواباته، ويجعل أفكار المثقفين العرب مقروءة فقط من خلال اعتبارات تتصل بنقاشات معينة وثيقة الصلة بالحاضرة. كم مرة سمعنا محررين يردون على نقد أنهم لا ينشرون كتابًا عربًا بـ«أوه، لكننا كنا ننشر إدوارد»؟ لقد كانت مأساته هي مأساة رجل تحدى الثبات الثقافي والهوياتي، لكن كتاباته استخدمت لتقديس ذلك الثبات.  

ربما كان سعيد هو «آخر المثقفين اليهود»، لكنه أُخذ بقول فرويد إن النبي اليهودي العظيم، موسى، كان في الواقع مصريًا. فيما سيصبح عمله الأخير (مرتكزًا على محاضرة ألقاها في متحف فرويد بلندن، بعد منعه من دخول متحف فرويد في فيينا في أعقاب الجدل حول إلقاء الحجارة عام 2000)، يكرر سعيد لازمته المؤثرة الداعية إلى تصور «طِباقي» contrapuntal للهوية، تصور يستوعب الكوزموبوليتانية التي جسدها دائمًا.

في وقت أصبحت فيه «دراسات ما بعد الاستعمار» و«سياسات الهوية» أكياس الملاكمة المفضلة لليسار، تمامًا مثلما صارت «الماركسية الثقافية» و«نظرية العرق النقدية» فزاعات لليمين، يحاول برينان أن يقول إن سعيد سما فوق الفكرة الفجة التي مفادها أن الأفكار تعتمد على الشخص الذي يقدمها. في دفاعه عن راعيه السابق ضد اتهام «سياسات الهوية»، يؤكد برينان أن سعيد كان حريصًا على التمييز بين «من هو المرء» و«ما يعرفه المرء»، ملمحًا أن إدوارد سعيد وقف دائمًا في جانب الأخير. لكن حياة سعيد، وسردها في «أماكن العقل»، هي أدلة على أن مثل هذا التمييز لا يصمد، ولا يمكن أن يصمد. كان الهجوم الأحدث على فلسطين في مايو من هذا العام تذكيرًا، إن كان ثمة احتياج لذلك، بأن «التصريح بالحكي» الفلسطيني، الذي وضعه سعيد في قلب مشروعه، لم يُنل بعد. لا يمكن الفصل بين ما عرفه سعيد، ومن كان سعيد -وهذا صحيح بالنسبة لبرينان هو الآخر. إن أكثر المناطق إثارة للاهتمام في فكر سعيد هي مناطق غالبًا ما يكون برينان غير راغب، أو غير قادر، على أخذنا إليها، ولهذا فإن «أماكن العقل» تترك الكثير جدًا بدون أن يقال.           

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *