حول المشروع الوطني وحمايته – أسئلة بريئة

من بين الشعارات التي يرفعها أنصار السلطة الفلسطينية في مسيراتهم وهتافاتهم، أن الرئيس محمود عباس هو الأمين والحامي والمدافع عن المشروع الوطني. وقد أثنى أحد مسؤولي السلطة الكبار مؤخرا على دور السلطة في حماية المشروع الوطني، وأكد أن السلطة باقية، وأن الأجهزة الأمنية هي الحامية للشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني. وهذا يعني أن المشروع الوطني يتضمن المحافظة على الرئيس والسلطة الوطنية والأجهزة الأمنية، لأن هذا الثالوث هو الأمين والحارس والمدافع عن المشروع الوطني إلى أن يتحقق.
بصراحة نحن ضائعون، فهل نزول قوات الأمن بالهراوي والعصي والقنابل الدخانية والاعتقالات والضرب والتعذيب، من شروط حماية المشروع الوطني؟ وهل الشعب العادي والمتظاهرون سلميا هم الخطر على المشروع الوطني؟ وهل أجهزة الأمن تعاقب فقط المعطلين لمسيرة تحقيق المشروع الوطني، وتحمي كل من يناضل ضد أعداء المشروع الوطني؟ بصراحة لم نعد نعرف ما هو المشروع الوطني الذي كل يغني عليه، ويسجن ويقتل ويعذب باسمه، وينسق مع العدو من أجل حمايته. كل الفصائل صغيرها وكبيرها تبرر وجودها باسم المشروع الوطني، وتدعي أنها تناضل من أجل تحقيق المشروع الوطني، فما هو هذا المشروع الوطني؟ وكم أنجزت السلطة والفصائل مجتمعة أو متفرقة من هذا المشروع؟ وكم بقي عليها لإنجازه؟ وسأحاول في هذا المقال أن أتتبع المشروع الوطني إن كان موجودا، وأن نتعرف على أسباب اندثاره إن كان غائبا.

المشروع الوطني في بداياته

الفلسطينيون لم يستكينوا للنكبة، التي حلت بهم عام 1948 بسبب تكالب قوى دولية وعربية من الخارج، والقوات الصهيونية المدعومة عالميا من داخل وطنهم، وانتهى بهم الأمر إلى ضياع غالبية الوطن، وتشريد غالبية الشعب، وطمس الغالبية الساحقة من الحقوق أو كلها. وبعد أن رتبوا أمور حيواتهم الشخصية خلال سنوات قليلة، انطلقت المبادرات التي تدور حول فكرة تحرير الأرض من العدو الغاصب، وعودة الشعب المشرد إلى وطنه. انضم العديد منهم للأحزاب العربية، خاصة حركة القوميين العرب، وحزب البعث، والأحزاب الشيوعية، وقلة من بينهم اختار الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين. وقد بدأت مجموعات موجودة في غزة ومصر والكويت بعد العدوان الثلاثي على مصر، بالتفكير بإطلاق حركة كفاح مسلح، تبلور هذا التيار في ما بعد بإنشاء حركة فتح عام 1958 التي أطلقت الكفاح المسلح عام 1965. وخوفا من أن تخرج هذه التيارات والتوجهات عن إطار النظام العربي، تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بدعم مباشر من الرئيس المصري الأكثر شعبية في العالم العربي جمال عبد الناصر. نتج عن اجتماع القدس لإنشاء المنظمة التوافق على “الميثاق القومي الفلسطيني” الذي حمل رسميا أول مشروع وطني فلسطيني. وبعد هزيمة 1967 وصعود حركة فتح لموقع القيادة في المنظمة، والسيطرة عليها من الفصائل المسلحة، أعيد النظر في الميثاق القومي وتمت مراجعته وإصداره عام 1968 تحت اسم “الميثاق الوطني الفلسطيني” ولم يتغير المشروع الوطني من ميثاق 1964 إلى ميثاق 1968. ونستطيع أن نلخص المشروع الوطني الفلسطيني الأول، والمعتمد رسميا من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، السلطة التشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مجموعة نقاط.
يحدد الميثاق فلسطين الجغرافيا، وهوية الشعب الفلسطيني، ثم يضع الهدف الاستراتيجي لهذه المنظمة وهو تحرير الأرض كل الأرض عن طريق الكفاح المسلح، والثوة الشعبية، وإعادة الشعب الفلسطيني المهجر إلى مدنه وقراه، وإعطاء هذا الشعب حق تقرير المصير على كل ترابه الوطني، بحيث يعيش الناس في هذا الوطن بدون تمييز قائم على العرق أو الدين أو الجنس. ويؤكد الشعب الفلسطيني أنه “يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، ويرفض كل المشاريع الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية أو تدويلها”.
والحقيقة أن حركة فتح في برنامجها الداخلي حددت أهدافها في تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، وتصفية الكيان الصهيوني اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافيا، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة على كامل التراب الفلسطيني، تحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة، بدون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة، وتكون القدس عاصمة لها، وبناء مجتمع تقدمي يضمن حقوق الإنسان ويكفل الحريات العامة للمواطنين كافة”. أي أن المشروع الوطني الفلسطيني، كما طرحته منظمة التحرير، ووافق عليه في المجلس الوطني عام 1968 يقوم على وحدة الأرض الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني ووحدة الهدف، وهو تحرير الأرض الفلسطينية وعودة اللاجئين، وممارسة حق تقرير المصير، ثم وحدة الأسلوب في تحقيق ذلك، وهو الكفاح المسلح وبلغة اليوم المقاومة بأشكالها كافة.

بداية تغيير المشروع الوطني

بدأت التغيرات تطرأ على المشروع الوطني، والتراجع عن المبادئ الأساسية الأربعة، وحدة الأرض والشعب والهدف والأسلوب، بعد الخروج من الأردن عام 1971 والتمركز في لبنان. وبدأت فكرة التسوية تدخل في أدبيات منظمة التحرير، تحت غطاءات ثورية، ولغة خطابية وفن الممكن من خلال المجلس الوطني الفلسطيني الفضفاض، خاصة بعد حرب أكتوبر 1973 وتزايد الضغوط العربية على القيادة الفلسطينية لقبول التسوية. ففي عام 1974 أقر المجلس الوطني في دورته الثانية عشرة في القاهرة مشروع النقاط العشر، الذي تضمن فكرة قيام “سلطة وطنية” على أي أرض يتم تحريرها. وفي دورته الثالثة عشرة عام 1977 في القاهرة أقر المجلس الوطني فكرة تحقيق الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. وفي دورة المجلس الوطني الفلسطيني السابعة عشرة، التي عقدت في عمان في نوفمبر 1984 كاد المجلس الوطني أن يتبنى فكرة المملكة المتحدة، التي كان قد طرحها الملك حسين في خطابه أمام المجلس. التراجع عن المشروع الوطني الأصلي تم تدريجيا، وبوتيرة متسقة، تنتقل بالشعب الفلسطيني من درجة إلى درجة أدنى منها بهدوء، إلى أن وصل الوضع إلى التخلي التام والنهائي عن برنامج التحرير لعام 1968 والوصول إلى برنامج الدولة رسميا عام 1988.

تمكنت قيادة المنظمة من التحلل تماما من المشروع الوطني الأول خلال الانتفاضة الأولى. فقد عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته التاسعة عشرة في الجزائر، بين 12 و15 نوفمبر1988 وأعلن عن قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف. وفي صخب البهرجة الإعلامية، والخطب الحماسية، تم الاعتراف بقرار 242 (1967) أساسا لحل الصراع، والاعتراف بحق جميع الدول في العيش ضمن حدود آمنة معترف بها، ونبذ الإرهاب والعنف، أي أن القيادة تخلت عن الأضلاع الأربعة للمشروع الوطني الأصلي. فالأرض لم تعد كل فلسطين والشعب لم يعد كل الشعب الفلسطيني، والحقوق لم تعد كل الحقوق، وأولها حق تقرير المصير وإقامة الدولة الديمقراطية التي تتساوى فيها الحقوق والواجبات بدون تمييز، وتم شطب الكفاح المسلح واعتبر ذلك نوعا من العنف والإرهاب. تلك الدورة كانت الفيصل النهائي بين مشروع التحرير ومشروع التسوية.

المشروع الوطني في ظل اتفاقيات أوسلو

مهدت تلك الدورة لمؤتمر مدريد عام 1991، ثم لرسائل الاعتراف المتبادل ثم اتفاقية أوسلو 1993 التي أغفلت حقوق الشعب الفلسطيني كافة، وحولت السلطة إلى جهاز بصلاحيات محدودة، تقوم أساسا على خدمة أمن إسرائيل لإنهاء الانتفاضة وأي شكل من أشكال المقاومة. اتفاقيات أوسلو عام 1993 وإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994 مهدت الطريق لتثبيت الاحتلال، وتوسيع الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة المزيد من الأراضي، وزج الآلاف في السجون وهدم البيوت، وبناء الجدار العازل. كل ذلك أمام عيون السلطة التي ظلت متمسكة بالمفاوضات من أجل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، كما ظلوا يرددون على مسامعنا. وعندما اكتشفت القيادة الخديعة الكبرى التي تورطت فيها، وورطت معها الشعب الفلسطيني، حاولت أن تتراجع وتعيد الاعتبار للمقاومة من خلال الانتفاضة الثانية، لكنها فشلت فشلا ذريعا، وانتهى الأمر بطريقة مأساوية، كما هو معروف. وتجسد ذاك التراجع بهزيمة حركة فتح في انتخابات عام 2006، كنوع من العقاب للمسؤولين عن أوسلو. ونتيجة لتلك الانتخابات حدث انشقاق الساحتين الأساسيتين في غزة والضفة، سياسيا وأيديولوجيا وجغرافيا وإلى الآن. والآن وبعد 30 سنة من مؤتمر مدريد و28 من اتفاقيات أوسلو، للننظرْ أين هو المشروع الوطني الذي تحاول السلطة أن تحققه عبر المفاوضات، والتنسيق الأمني، وكتم الأفواه، وزج الناشطين في السجون، وقتل بعضهم، وجر النساء من شعورهن في الشوارع لحمايته؟ ونسأل: هل بقيت أرض تقام عليها الدولة؟ هل تفكيك أكثر من 500 مستوطنة يسكنها نحو 800000 مستوطن ممكن؟ هل الاستيطان داخل القدس وتهويد القدس والسيطرة على مداخل ومخارج القدس قابل للوقف وعكس اتجاهه؟ هل تفكيك الجدار ممكن؟ هل إطلاق السجناء ممكن؟ هل الرباعية أو المفاوضات أو المجتمع الدولي سيحقق للشعب الفلسطيني قيام دولة مستقلة وعاصمتها القدس؟ لا حل أمام الشعب الفلسطيني في كل مكان إلا العودة إلى السردية الأصلية: وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة الهدف والنضال المتواصل والمتراكم والمتعاظم لتحقيق ذلك، طال الوقت أم قصر. الحقوق تنتزع ولا توهب.. وواهم من يظن أن عدوك المتغطرس سيمنحك الحقوق إن لم يجبر على ذلك ويأتي إليك صاغرا مكسورا.

عن القدس العربي

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *