حول الحركة الإسلامية الجنوبية في الداخل
في مسألة الحركة الجنوبية (والقائمة الموحدة) طالبني بعض الأصدقاء بعدم النزول إلى الشخصنة عند التطرق إلى عباس منصور والحفاظ على نقاش “موضوعي” كون الموحدة تحظى -وهي فعلًا كذلك- بأكبر قاعدة جماهيرية عربية بين صفوف أبناء شعبنا. أولًا، أنا أرفض هذا الطلب وأعتبر أن جزءًا من محاربة الظاهرة يكون بتسفيه وتسقط قادتها ولو احتاج الأمر إلى بعض البذاءة. ثانيًا، في الأسطر (الكثيرة؟) القادمة سأناقش ظاهرة الموحدة بشكل مستفيض كثيرًا بدون “شخصنة” أو بدرجة أقل من “الشخصنة”.
في تحليلنا لظاهرة الموحدة (والجنوبية ككل) نقول إن الموحدة انتهت لتكون جماعة مصلحة عربية إسلامية إسرائيلية وليسَت حركة وطنية فلسطينية، ويكفي الاطلاع على مطالب الموحدة لنرى بوضوح أنّها ترفض التعاطي مع القضية الوطنية سوى في حدود الضريبة الكلامية.
بصفة عامة تنطلق الجماعات الإسلامية من تصور إمبراطوري إسلامي يسمونه في أدبيتهم “أستاذية العالم” ولكن الجنوبية انتهت لتكون جماعة مصلحة على هامش النظام الإسرائيلي، قد يقال أن هذا محض تكتيك في الظرف الراهن وقد يجوز أن هناك ملاءمة مع الظروف، ولكن في حالة الجنوبية الحالة أعقد بعض الشيء، هناك جذر التاريخي لانكفاء الموحدة كجماعة مصلحة في الداخل.
أولى معالم انكفاء الجنوبية كجماعة مصلحة كان الصراع بين الحركتين، أي الصراع مع الحركة الإسلامية الشمالية على ريادة ما يسمى “المشروع الإسلامي” والصحيح أن الشمالية تفوقت على الجنوبية رغم أن الجنوبية أقوى وأنشط ماليًا وتنظيميًا وذلك لسبب واحد هو التفوق في الصراع على “الوصاية” على المسجد الأقصى.
انفجر الصراع بين الحركتين على من تكون الحركة الإسلامية “الأم” بعد “محنة الكنيست” (هذه التسمية العجيبة من ابتكار السيد رائد صلاح) كان المسجد الأقصى ساحة للمنافسة بين الحركتين، وحظيت الشمالية بريادة على الجنوبية في هذا المضمار، فهي من انتصرت في المنافسة على الوصاية على قضية المسجد الأقصى من خلال مهرجانها “الأقصى في خطر” وقائدها حظي بكنية “شيخ الأقصى”، تحول رائد صلاح إلى قائد “إسلامي” يتجاوز المحلية وطور شبكة علاقات مع قادة إسلاميين آخرين كنجم الدين أرباكان ويوسف القرضاوي وحرص على دعوة شخصيات قيادية في الصحوة إلى المهرجان، بينما بقيت قيادات الجنوبية في حدود المحلية منذ عبد الله نمر درويش حتى منصور عباس ولم يلمع أي منهم ولم يكن البوصلة في الداخل بالنسبة لباقي امتدادات الصحوة إقليميًا.
على المستوى التكتيكي فعبد الله نمر درويش نفسه في “رسائله إلى مسلمين” كان ينادي بـ”رحيل الاستعمار عن بلاد المسلمين” ولم يكن يملك مشكلة في التداخل مع النظام الإسرائيلي بشكل كان مرفوضًا قبله من طرف القوى الوطنية، بهذا المعنى يمكن القول أن منصور عباس هو عبد الله نمر درويش في أعلى مراحله، وليس البجعة السوداء في تاريخ الجنوبية (وعلاقات درويش مع قوى صهيونية هي موضوع للتشنيع عند الشمالية، كما يتبين من كتاب السيد رائد صلاح ومقابلات كمال الخطيب عن تلك الحقبة) ومما يذكر ما قاله عبد المالك دهامشة في مقابلة مع بلال شلاعة عندما سئل عن منصور-نتنياهو، قال له بلال شلاعة أن ما فعله منصور عباس “جديد”، فأجابه عبد المالك دهامشة أن فعل نفس الشيء مع شارون.
بتتبع الفحوى الطبقية للحركة الإسلامية الجنوبية نلاحظ أن الحركة (وهذا يشمل الشمالية أيضًا) لم تنشط في فراغ اجتماعي، فقد حلت المستوصفات ومجموعات التقوية الدراسية مكان تراجع الحزب الشيوعي والحركة الوطنية في ظرف التهميش العنصري الإسرائيلي، كانت مشاريع الحركة تمثل حلولًا لمعضلات الكثيرين -خاصة في النقب- وفي نفس الوقت تزيد من قوة ونفوذ الحركة.
تتألف قيادات الحركة من الأكاديميين، وهم طلاب شريعة بالأساس، ورجال أعمال لهم نشاطات مالية واسعة. حظيت الحركة بتأييد كبير، في بداياتها، من الفقراء والكادحين، بسبب الظروف المادية والثقافية التي تزامنت مع نشأتها. ومع إصلاحات رابين في فترة حكومته الثانية ظهرت شريحة بيروقراطية عربية مرتبطة بالعمل البلدي، أي عمل البلديات والمجالس المحلية، وأدى هذا إلى ظهور جهات وجاهات عديدة مرتبطة بالنظام الإسرائيلي كالعلقات وجزءٌ كبير منهم بات جزءًا من البنية التحتية للحركة للإسلامية الجنوبية.
الدافع الطبقي لنهج الجنوبية كانَ واضحًا في تسلم الموحدة للجنة الداخلية في فترة حكومة التغيير حيث أخذ منصور رئاسة اللجنة الداخلية، ونشر عميت سيغل، قبل ذلك، طلب منصور من لبيد بعدم التعاطي مع المشتركة، ما يشي بوضوح أن رغبة الموحدة كانت وما زالت أن تصبح الوكيل الحكومي وتتفرد بالمكاسب المالية للميزانيات المقدمة للمجتمع العربي الفلسطيني، ولتحظى بنصيب أيضًا من الاستثمارات الفردية التي تحتاج دعمًا حكوميًا، أي أن الموحدة تريد أن تكون الوكيل الحكومي المسيطر على الميزانيات الحكومية الإسرائيلية للعرب.
سياسيًا، نهج الموحدة متجذر كما رأينا ولم يخلق من عدم، ولكنه كان مكبوتًا لفترة طويلة، في هذا السياق من الصواب أن نقول أن الاتجاه نحو شراكات منفلتة مع القوى الصهيونية “المعتدلة” والتوصية على غانتس أعطيا الثقة لنهج الموحدة لكي يظهر إلى العلن ويمضي به إلى أبعد مدى. وهنا نستحضر مجموعة شعارات في الفترة التي أعقبت خروج الموحدة من المشتركة: هناك شعاران مركزيان كانا في حملة الموحدة هما “مصالح مجتمعنا” وشعار “لا يمين ولا يسار” وهي شعارات مركزية عليها بنيت حملتهم الانتخابية.
لنقم بتفكيك الشعارات ومعانيها:
– مقولة “مصالح مجتمعنا” هي البديل لـ “حقوق شعبنا” وهي تعني بوضوح أن برنامج الموحدة وممارستها تعني بمصالح مطلبية “مدنية” بدون الالتفات للقضية الوطنية سوى في حدود الضريبة الكلامية.
– مقولة “لا يمين ولا يسار”: تعني هذه المقولة أن هذا النهج يتجاهل (بمعنى سلبي) الهويات السياسية الصهيونية، ويقبل بأي كان شريطة أن يلبي “مطالبه” المحدودة في نطاق المطالب “المدنية”. للسخرية مقولة “لا يمين ولا يسار” قالتها فصائل الثورة الفلسطينية قديمًا وكانت تعني بها رفضًا لكل الصهيونية أمّا الموحدة فحورتها إلى قبول بكل الصهيونية.
في برامج الموحدة والاتفاقيات الائتلافية التي كانت غاب كل ذكر للقضية الوطنية، لذلك يكون من الصواب أن ندرج الموحدة ضمن ما يعرف بالتيار العربي الإسرائيلي، يعرف البروفيسور أسعد غانم التيار العربي الإسرائيلي كما يلي:
“وهو تيار سياسي يسلم بمكانة الفلسطينيين في إسرائيل كأقلية، ولا يطالب بشكل واضح وحاسم بالاعتراف بهم كأقلية قومية عربية فلسطينية، بل يدعو إلى التقارب والاندماج في الأحزاب اليهودية والائتلافات الحكومية ويرتضي لنفسه تبوؤ مكانة متواضعة أو هامشية في هذه المؤسسات والأطر. إضافة إلى ذلك، فإن هذا التيار يؤكد على المكون الإسرائيلي في هوية الفلسطينيين دون المطالبة بإجراء تغييرات في طابع الدولة وأهدافها في ضوء قبوله بالإسرائيلية، لذلك فهو يوافق على الاندماج في النظام القائم من دون أن يطالب بإجراء تعديلات جوهرية على النظام”.
بهذا المعنى تقف الجنوبية والموحدة اليوم في صلب التيار العربي الإسرائيلي وفق تعريف غانم، هذا التيار لا يقتصر على حزب بعينه وإنما على حركة واسعة تبدأ من القائمة العربية الموحدة برئاسة منصور عباس وتمتد إلى عرب الأحزاب الصهيونية والنشطاء في المجتمع المدني، ولكن النواة الصلبة للتيار العربي الإسرائيلي هي القائمة العربية الموحدة لأنها المكون الأكبر. وبكلماتنا فإننا نسمي هذا التيار جماعة مصلحة عربية إسرائيلية تريد أن تنشط من داخل النظام الإسرائيلي لتغنم ببعض المكاسب وتبني المسألة القومية من شأنه أن يتسبب بعدم قبول التيارات الصهيونية لها كجزء (ولو هامشي) من النظام لذلك فإن هذه الجماعة تتخلى عن المسألة القومية إما بشكل كامل وإما في حدود الضريبة الكلامية ولكنها لا تتضمنها في صلب برنامجها ونشاطها. شارك منصور عباس في الاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية (محاولة الانقلاب القضائي التي قام بها الليكود) ولكنه لم يتمكن من حشد عدد كبير للمشاركة، وذلك بوضوح لأن التوجه الذي يدعو إليه لا يتضمن أبسط الحقوق القومية للفلسطينيين في إسرائيل ويريد تحويل العرب إلى كتيبة تصارع على مكان لها كجماعة مصلحة داخل النظام الإسرائيلي، وفي أرض الواقع لم يقبل الفلسطينيون بهذا التوجه رغم أن الانتخابات أفرزت أغلبية نسبية من المصوتين توافق على نهجه (193.000 صوت) وإذا وضعنا الأمرين أمام بعضهما نصل إلى استنتاج مفاده أن عددًا كبير من الفلسطينيين يرون نهج الموحدة قادرًا على تحسين بعض شروط المعيشة وهذا أولويتهم، الخدمات اليومية، ولكنهم لا يتماثلون معه أيدولوجيًا ولا يوافقون عليه بشكل كامل.
أما الجانب الأخير في مسألة الموحدة فهو المناخ الإقليمي، أي التطبيع (اتفاقيات إبراهيم) مع الإمارات خاصة، والتي لم تعد مجرد فرضية مع تقدم الوقت. تحتاج هذه العملية لكي يتم تطبيع إسرائيل شعبيًا وتحويلها إلى جزء طبيعي من بيئة المنطقة إلى وجود جماعة مصلحة عربية إسرائيلية تؤدي هذا الدور، وهنا يأتي ظرف آخر يؤيد تزايد قوة الجنوبية والموحدة، ففي تصريحات منصور أنه يرغب بهذا الدور، وصلواته في السفارة الإماراتية ليست لله وزياراته المتكررة لوزراء إماراتيين في فترة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة تعتبر شاهدًا على هذا.
ختامًا يبدو أننا قد غطينا مختلف جوانب صعود “النهج الجديد” للجنوبية والموحدة، ولكن ما لم يتضح حتى اللحظة كيف سيتطور نهج الجنوبية والموحدة عند العودة لأي حكومة وتفاعلهم إقليميًا مع مشاريع الإمارات وغيرها، هل سيكتفون بمكانهم كجماعة مصلحة أم سيحاولون الوصول إلى مرحلة جديدة بشعارات وتصورات مختلفة تجتذب بقايا ومخلفات الحركة الشمالية المحظورة. لنصبر ونرى.
مصادر
أسعد غانم، الهامشيون في إسرائيل
رائد صلاح، إضاءات على ميلاد الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليًا
عبد الله نمر درويش، رسائل إلى المسلمين ، الرسالة الأولى
(آرام كيوان محاميد، ناشط اجتماعي من الداخل المحتل، خريج لقب أول وثاني في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة حيفا بتخصص الشرق الأوسط: تطور ونشوء التيارات الثقافية والطبقية والسياسية.)