حوار مع سوسن زهر حول قرار العدل الدولية

يكتسب قرار محكمة العدل الدولية المتعلق بقانونية أو عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، رغم أنه رأي استشاري، ليس فقط في أنه يوفر أساسا قانونيا لمقاومة الاحتلال ميدانيا ودوليا وصولا إلى فرض المقاطعة على إسرائيل بصفتها الدولة المحتلة، بل في كونه يتسق مع سلة القضايا المتداولة أمام المحاكم الأممية والتي وضعت إسرائيل في قفص العدالة الدولية، في وقت حاولت فيه مدعومة من أميركا وحلفها الغربي الاستعماري إسقاط كامل منظومة القانون الدولي والتحرر من قيودها في حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني.

وإن كانت هذه المحاكم الدولية لا تمتلك الأسنان اللازمة لتطبيق قراراتها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بدولة مثل إسرائيل تتمتع بالحماية في المؤسسات الأممية المخولة بتطبيق مثل هذه القرارات وبالفيتو الأميركي في أعلى هيئاتها المتمثلة بمجلس الأمن الدولي، كما يدعي الكثيرون بحق، فإن تراكم مثل هذه القرارات والدعوات لا بد أن يحدث الشرخ المطلوب وصولا إلى تصدع الإجماع الغربي المؤيد لإسرائيل والحامي لها، وتطوير موقف حقيقي مؤيد للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة كما يعتقد الكثيرون أيضا.

لإلقاء الضوء حول “الرأي الاستشاري” الذي صدر مؤخرا عن محكمة العدل الدولية حول الاحتلال الإسرائيلي، حاورنا المحامية سوسن زهر، المتخصصة في مجال حقوق الإنسان والقانون الدستوري.

“عرب 48”: ما هي خلفيات هذا القرار وطبيعته؟

زهر: قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي جاء عقب اتخاذ قرار في مجلس الأمن في كانون الثاني/ يناير 2021 طُلب فيه من المحكمة المذكورة بأن تعطي “رأي خبير” في سؤالين قانونيين، الأول حول قانونية الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والثاني حول تبعات هذا الاحتلال الإسرائيلي في حال وجدت المحكمة أنه غير قانوني.

وخلال شهر شباط/ فبراير الماضي أعطت المحكمة بعد أن قدمت الدول المعنية رأيها وادعاءاتها كتابيا، إمكانية تقديم ادعاءاتها شفويا، وفعلا قامت 51 دولة بتقديم ادعاءاتها أمام المحكمة شفويا بشكل مكثف وعلى امتداد أسبوع.

“عرب 48”: ما هي قيمة هذا القرار كوثيقة قانونية دولية؟

زهر: القرار يعتبر وثيقة قانونية هامة بالنسبة للفلسطينين ليس في أحكامه فقط، بل في كونه يقوم باستعراض تاريخي يبدأ بوقوع فلسطين تحت ولاية الحكم العثماني مرورا بالانتداب البريطاني وصولا إلى قرار التقسيم الصادر عام 1947، وكل قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وبما يتعلق بقضايا قانونية أصدرت فيها الأمم المتحدة قرارات خلال الفترة الممتدة من عام 1967 وحتى اليوم. بهذا المعنى فإن القرار بمثابة مستند يوثق كل هذه القرارات والتطورات من ناحية قانون دولي.

وعدا عن سؤال عدم قانونية الاحتلال التي كانت الإجابة عليه قاطعة وواضحة، أعاد القرار تعريف الأراضي المحتلة بوضوح، مؤكدا كون إسرائيل قوة محتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة أيضا، بالرغم من تطبيق “خطة فك الارتباط” عام 2005، مشددا على أن إسرائيل قوة محتلة لقطاع غزة، بالذات بعد التواجد العسكري واحتلالها للقطاع مجددا بعد السابع من أكتوبر، وهو أمر له أهمية كبيرة لأنه بعد تطبيق “خطة فك الارتباط”، أثيرت الكثير من التساؤلات القانونية حيث كانت إسرائيل وبعض الدول والأكاديميين المناصرين لها يدعون أنه لم يعد لإسرائيل أي مسؤولية قانونية في قطاع غزة. هنا نرى أن استنتاج المحكمة حسم هذا الموضوع عندما قرر أن الموضوع لا يرتبط فقط بالوجود الفعلي للقوة المحتلة، بل في إمكانياتها بالسيطرة بشكل فعلي على المعابر والأجواء والمياه الإقليمية وغيرها، وهو ما لم يتغير بعد “خطة فك الارتباط” في غزة.

“عرب 48”: وصولا إلى قانونية أو عدم قانونية الاحتلال، ماذا جدد قرار المحكمة؟

زهر: المحكمة عالجت الموضوع من عدة أوجه، قبل أن تصل إلى استنتاج بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو احتلال غير قانوني؛ أولا، قررت أنه من ناحية الفترة الزمنية هو احتلال طويل بشكل ينتهك أحد مركبات تعريف الاحتلال، في كونه حالة مؤقتة حسب القانون الدولي.

الأمر الثاني الذي عالجته بشكل مفصل هو كل سياسة بناء المستوطنات الذي رأت فيه المحكمة انتهاكا واضحا للبند 49 من معاهدة جنيف، التي تمنع من القوة القائمة بالاحتلال أن تصادر أراض بالقوة وأن تقوم بنقل سكانها إلى هذه الأراضي وتوفر لهم بناء مستوطنات وبنى تحتية عليها، واستغلال الموارد الطبيعية لمصلحة مطلقة للمستوطنين غير الشرعيين، وهو ما تقوم به إسرائيل في في الأرض المحتلة عام 1967، حيث تصادر الأرض وتبني المستوطنات وليس أنها تستغل الموارد الطبيعية لصالح المستوطنين غير الشرعيين فقط، بل أنها تمنع وتقيد الفلسطينيين من استخدام هذه الموارد الأمر الذي يضطرهم على سبيل المثال إلى شراء المياه بأسعار باهظة من دولة إسرائيل.

الأمر الثالث الذي عالجه القرار يتعلق بمسألة الإخلاء والتهجير القسري للفلسطينيين من بلداتهم وأراضيهم، والسيطرة على الأراضي بملكية خاصة في انتهاك آخر للقانون الدولي، وذلك إلى جانب عنف المستوطنين الذي يحظى بحصانة ولا يخضع للمساءلة.

في ضوء ما تقدم، تستنتج المحكمة أن محصلة هذه السياسات تفضي عمليا إلى ضم فعلي للأراضي الفلسطينية المحتلة إلى دولة إسرائيل.

“عرب 48”: هي تربط طرفي المعادلة المتمثلة من جهة بإطالة أمد الاحتلال الذي يعتبر بحد ذاته انتهاكا للقانون الدولي مع سياسات الاستيطان واستثمار الموارد الطبيعية لصالح دولة الاحتلال للوصول إلى هذا الاستنتاج؟

زهر: من دون شك، فإن جملة هذه الأمور التي أشارت إليها المحكمة، مثل بناء المستوطنات بشكل مكثف وإعطاء غطاء شرعي للبؤر الاستيطانية وإقامة بنى تحتية للاستيطان فقط، وتقييد استخدامها للفلسطينيين إلى جانب فرض سيادة إسرائيلية وقوانين إسرائيلية تفرض فقط على الفلسطينيين ولا تنسحب على المستوطنين، تفضي إلى هذه النتيجة وهذا الاستنتاج الذي وصل إليها الرأي الاستشاري.

كما تطرقت المحكمة في هذا السياق إلى موضوع التفرقة العنصرية بكل ما يتعلق بالجهاز القضائي العسكري الذي لا يقاضى فيه المستوطنون.

“عرب 48”: ولكن القرار لم يتحدث عن أبرتهايد؟

زهر: القرار فحص كل ما يتعلق بالسياسات والقوانين العنصرية، وفي هذا السياق فحص وحلل السياسات المتعلقة بتصاريح السكن في القدس الشرقية وكل ما يتعلق بحرية الحركة بين الضفة الغربية وغزة والقدس وداخل القدس أيضا نتيجة إقامة الجدار، وكذلك كل ما يتعلق بسياسة هدم البيوت إن كان ذلك في سياق الهدم العقابي أو غير القانوني بحسب ادعاء إسرائيل.

إلا أن المحكمة قامت بفحص هذه التفرقة العنصرية الناتجة عن هذه السياسات والقوانين حسب “بند 3” من “المعاهدة الدولية للقضاء على التمييز العنصري” الموقعة عليها إسرائيل، وليس وفق المعاهدات التي تمنع الأبرتهايد ومعاهدات أخرى، والسبب على ما يبدو، هو كون الأبرتهايد جريمة تبت فيها المحكمة الجنائية الدولية وليس محكمة العدل الدولية.

لكن وبالرغم من أن المحكمة لم تفحص هذه السياسات حسب معاهدة منع الأبرتهايد من عام 1978، بل حسب معاهدة القضاء والتمييز (سيت)، الموقعة عليها إسرائيل، فإنها رأت أن إسرائيل تمارس بالفعل سياسة تفرقة عنصرية تصل إلى سياسة أبرتهايد، وفي ختام كل هذا التحليل تصل المحكمة بشكل ممنهج إلى استنتاج بأن إسرائيل تنتهك الحق في تقرير المصير للشعب الفلسطيني.

“عرب 48”: نعرف أنه في الرأي الاستشاري الذي صدر عن المحكمة نفسها عام 2004 والمتعلق بجدار الفصل العنصري، أقرت المحكمة بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أيضا؟

زهر: صحيح، في حينه أيضا اعترفت المحكمة أولا بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة وشرق القدس، إضافة إلى إقرارها بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وأكدت بأن دولة إسرائيل كقوة محتلة يجب أن تطبق التزاماتها بالامتناع عن انتهاك حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، إن كان ذلك وفق قانون الأساس الدولي أو قانون حقوق الإنسان.

لكن الفرق أنه في القضية الأخيرة قدمت تحليلا أوسع وتطرقت بشكل أكثر تفصيلا للحق في تقرير المصير وماذا يعني، كما أن المحكمة أقرت بأن كل سياسات إسرائيل التي تنتهك تكامل الوحدة الجغرافية للأرض المحتلة تمثل انتهاكا لهذا الحق، مشيرة إلى أن الشعب الذي يمتلك الحق في تقرير المصير حسب القانون الدولي يمتلك الحق في الوحدة الجغرافية لأراضيه التي ستقام عليها دولته.

وهنا رأت المحكمة أن جميع السياسات سالفة الذكر التي تؤدي إلى تجزئة هذه الوحدة الجغرافية تفضي بدورها إلى فرض سيادة إسرائيل بشكل ينافي القانون الدولي، وتؤدي إلى إعاقة وتقييد تقرير المصير للسيادة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني.

“عرب 48”: في هذا السياق هي لا تتحدث عن دولة فقط؟

زهر: في هذه الأوجه لا ترى أن حق تقرير المصير هو إقامة دولة فقط، وإنما أيضا إعطاء حق للمجموعة السكانية ذات العلاقة (الشعب) في التطور والارتقاء بالمكانة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي هذه الوجهة أيضا رأت المحكمة أن إسرائيل تنتهك هذا الحق.

“عرب 48”: في ضوء كل ذلك المحكمة طالبت إسرائيل بإنهاء احتلالها للأرضي الفلسطينية المحتلة بأسرع ما يمكن…

زهر: المحكمة تلخص رأيها الاستشاري بالقول إن كل ما يتعلق بمصادرة الأراضي بالقوة والسيطرة عليها وضمها لإسرائيل بشكل فعلي، وانتهاك الحق في تقرير المصير يفضي إلى استنتاج عملي واحد وهو أن الاحتلال الإسرائيلي، أو التواجد الإسرائيلي بلسان القرار هو غير قانوني، وتقرر بالتالي أنه على إسرائيل أن تنهي هذا التواجد (الاحتلال) بأسرع ما يمكن.

هي، للأسف، لا تقول بشكل فوري، لكن من ناحية ثانية وعندما يتعلق الأمر بالاستيطان ينص القرار أنه على إسرائيل أن توقف بشكل فوري أي نوع من فعاليات استيطانية جديدة وأن لا تستمر فيها.

تجديد إضافي يمكن الإشارة اليه في القرار هو ما يتعلق بقضية التعويضات، والتي تعرفها المحكمة بواسطة إرجاع أراضي إلى أصحابها أو تعويض أصحابها المتضررين في حال تعذر ذلك، ولا يقتصر التعويض على الأراضي فقط، بل يشمل وحدات جغرافية ثقافية ذات أهمية ثقافية للفلسطينيين، مثل إرجاع مواد من الأرشيف ومواثيق تاريخية ذات علاقة.

عن عرب48

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *