حوار مع خالد الحروب عن التطبيع ولوم الضحية والتاريخ المؤتلف

أجزم أن المقابلة أو الحوار ليست عملية استشكاف للمحاور معه، بل هي أيضاً عملية اكتشاف جديدة للمحاور نفسه. عبر الحوار أو المقابلة يكتشف المحاور أن سمة الحوار هي النظرة النقدية، فما بالنا إذا كان محاورنا مثقفاً شغوفاً، مثقفاً قلقاً، ومهموماً بالهم الوطني الفلسطيني.

خالد الحروب، هو الدكتور والكاتب والأكاديمي، وهو عضو مؤسس في ملتقى فلسطين، له عشرات الأبحاث ومئات المقالات في شؤون السياسة والثقافة، وأصدر حوالي 13 كتابا منشورا باللغتين الإنجليزية والعربية: منها: “في مديح الثورة والبث الديني في الشرق الأوسط” “هشاشة الأيديولوجيا وقوة السياسة”،  و”المثقف القلق ضد مثقف اليقين”

 

  • الشرعية المنقوصة هي أس البلاء في المنطقة العربية، وهي جذر البلاء في مسألة التطبيع.
  • المبدأ الأساسي من قيم الحق والعدالة أن خطايا الضحية لا تبرر الاصطفاف مع الجلاد.
  • من أراد أن يطبع فليذهب إلى الجحيم فلا داعي أن يغير تاريخ ووجدان الفلسطينيين والعرب منذ ألوف السنوات.
  • السياسة الانهزامية هي التي تولد الثقافة الانهزامية، وليس العكس.
  • عدالة القضية ووضوح هذه العدالة هي حجر الأساس في كل نضالاتنا.
  • لو لم تكن القضية عادلة لاندثرنا منذ وعد بلفور.

 

  • سؤالي الأول لماذا غابت السردية الفلسطينية لنكبة الشعب الفلسطيني في الوعي الثقافي والسياسي والإعلامي للنظام الرسمي العربي، على الرغم من حضورها في الوعي الشعبي؟ هل يمكن القول ان النظام الرسمي العربي كان يهيئ ذاته بذاته، وأنه حسم أمره منذ أمد بعيد للهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل، وأن كل ما يحصل راهنا من إقدام دول عربية على إقامة علاقات معها، علنية أو تحت الطاولة، كان له حاضنة سياسية داخل بنية النظام العربي الرسمي؟

هذا سؤال مهم، نقطة البداية هي الوعي بمسألة سردية الضحية، سردية الضحية والتضامن مع الضحايا، وهو تضامن متبادل، وهو مرتبط بالأخلاق وهي التي من المفترض ان تكون ناظمة على المستوى الشعبي العربي. هذا على مستوى الشعوب العربية تجده أخلاقيا وعدالاتي، وتجد هذا الاندفاع الوجداني في تأييد الشعب الفلسطيني.

أما على المستوى الآخر وهو المستوى الرسمي العربي، فإننا هنا ننتقل إلى مستوى آخر، بُعد التضامن مع الضحية لا يبقى وحيدا بل تدخل عليه أبعاد أخرى: أبعاد سياسية، أبعاد المصلحة وتقدير الموقف، وأبعاد الأرباح والخسائر والضغط الخارجي، وهنا يتناقص التعبير عن التعاطف والدعم بشكل مختلف لدى الناس العاديين.

الأنظمة العربية هي في المحصلة مجموعات من النخب السياسية وصلت إلى سدة الحكم بشكل أو آخر، غالبا سلطوي وليس ديمقراطي، إما عبر انقلاب عسكري أو بطريقة التوريث القبلي، او انتخابات شكلية،  وهذا لا يعبر عن الإرادة الشعبية في هذا البلد العربي أو ذاك، والخلاصة أن شرعية الأنظمة تبقى منقوصة، والشرعية المنقوصة هي أس البلاء في المنطقة العربية، وهي جذر البلاء في مسألة التطبيع،  فالحكام يريدون المنصب، ويتشبثون بالكرسي ويريدون شرعية داخلية أو خارجية، للحفاظ على مكانتهم، ومن اجل ذلك يضحون بالمبادىء والاوطان ومصالحها، لذا فإن فهم هذه الازدواجية بين الموقفين الرسمي والشعبي العربي يجب أن يبدأ من هنا بكل بساطة، وهي أن النظام الرسمي  يريد أن يتمسك بما تحصّل عليه، والوسيلة الوحيدة للحفاظ على الكرسي هي الدعم الخارجي، وليس الدعم الداخلي، وليس الشرعية الداخلية الشعبية.

والدعم الخارجي يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية التي ينبغي أن توافق على شرعية النظام أو المجموعة الحاكمة سواء أكانت ثورية مدعية أم قبلية أم ممانعة أو غيرها، فهذا الدعم هو الضمانة لبقاء النظام وأقصر طريق للحصول على الضوء الأخضر الأمريكي يمر عن طريق تل أبيب، من خلال التطبيع بالتالي يتم اسكات الانتقادات التي قد تأتي من واشنطن، ويتم ضمان الدعم الخارجي للشرعية المنقوصة للنظام الرسمي العربي.

  • من هنا دعني أدخل إلى سؤالي الآخر، وهو أنه عند كل منعطف تطبيعي كان اللوم يوجه إلى الفلسطينيين، باعتبارهم كتلة مجتمعية وسياسية واحدة، وبأنهم هم من دشن بوابة المفاوضات والتطبيع، لذا لا يمكن أن نكون ملكيين أكثر من الملك ذاته، كيف يمكن نقض خطاب المطبعين عبر لوم الضحية وتحميلها مسؤولية الهرولة مع العدو الإسرائيلي، باعتبار أن الفلسطينيين أنفسهم هم من دخل متاهة المفاوضات؟

هذه مسوغات تحاول إلى حد كبير استغباء العقل العربي وغير العربي، فالمبدأ الأساسي من قيم الحق والعدالة أن خطايا الضحية لا تبرر الاصطفاف مع الجلاد، وإذا نظرنا تاريخيا هناك عشرات الالاف من الأفارقة عبر عقود وقرون طويلة كانوا هم الأداة الرئيسة في استعباد اخوانهم، فقد كان هناك من يعمل مع التجار البيض من القبائل الإفريقية التي كانت تغزو قبيلة أخرى وتأسر عددا من أبنائها كي يتم بيعهم، فهل تجارة العبيد كانت عادلة ويجب ألا ننتقدها لأن بعضا من الأفارقة أنفسهم كانوا من يقومون بأسر بني جلدتهم لبيعهم؟ هل معنى هذا أن تجارة العبيد كانت عادلة، ويجب ألا ننتقضها، لأن الأفارقة أنفسهم ارتكبوا خطايا جسيمة وهائلة جدا… بالطبع لا. هناك خطايا…كل البشر يرتكبون خطايا، وفي الحرب العالمية الثانية كان هناك عملاء تعاملوا في فرنسا مع الاحتلال النازي ( تقريبا مئة ألف)  هل معنى ذلك أن نقف مع الاحتلال النازي  بسبب هؤلاء العملاء.

كل هذه مجرد ادعاءات لا علاقة لها بالمبادىء وعلى ذلك لا يمكن القبول بالمسوغات والتبريرات التي تُساق لشرعنة التطبيع. ربما يمكن للمرء ان يفهم، من دون ان يقبل، من يطبع للمصالح الواضحة البراغماتية، من دون ذكر الفلسطينيين أو فلسطين، لكن احتقر الذي يذهب إلى التطبيع وفي طريق ذهابه إلى التطبيع يريد أن يدوس على كل الحقوق والارض الفلسطينية، ويدوس على كل القيم، وينقض كل المقولات عن العرب والعروبة، وحتى الدين والقرآن. يريد أن يخلق تاريخ جديد في المنطقة، ويختلق تاريخ إسرائيلي للمنطقة: أن الفلسطينيين باعوا فلسطين، وتاريخ عربي أن العرب فشلوا، وتاريخ ديني ويقول أن اليهود والإسرائيليين أولاد عمنا، وأن القرآن ذكر ذلك ايضا.. يراد من كل ذلك تبرير الخطوات التطبيعية والتهافت على اقدام الجلاد.

لا أقبل من المطبع أن يدوس على كل الحقوق الفلسطينية والقدس وتاريخ المنطقة والتاريخ الديني، ليبرر تطبيعه. من أراد أن يطبع فليذهب إلى الجحيم فلا داعي أن يغير تاريخ ووجدان الفلسطينيين والعرب منذ ألوف السنوات.

أما النقطة الثانية فمتعلقة بكل ما قُيل عن الفلسطينيين أنهم ذهبوا إلى أوسلو وطبعوا وغير ذلك، وهذا كله قد يكون صحيحا، لكن هذا مُدان جملة وتفصيلا ومُدان توظيفه في السياق التطبيعي. وأنا شخصيا وقفت ضد أوسلو منذ اليوم الاول، وكذلك معظم المثقفين الفلسطينيين وقفوا ضدها وضد الزعامة الفلسطينية التي اتخذت هذا القرار. يتفرع عن هذا التوصيف نقطتين: النقطة الأولى، أن الفلسطينيين ذهبوا إلى هذا الخيار ذهاب المضطر، كانوا تحت ضغوطات كبيرة جدا، أنا شخصيا لا أقبلها، لكن موضوعيا هذا ما حصل، وجزء كبير من هذه الضغوطات كانت تأتي من هذه الدول التي تريد أن تطبع حاليا، من السعودية ومصر والأردن…كلها تقول للفلسطينيين قدموا تنازلات واتركوا الباقي علينا مع واشنطن وأوروبا، سوف نحقق لكم كذا وكذا، لكن عليكم أن تلينوا مواقفكم. فكان جزء من هذا الضغط يأتي من هذه الدول المُطبعة الآن، ولما حصل التطبيع الفلسطيني، استخدموا هذا التبرير لتسويغ التطبيع.

النقطة الثانية، أن الغالبية الكاسحة من المثقفين الفلسطينيين كان لديهم موقف معارض ورافض لأوسلو، وضد الزعامة الفلسطينية. السؤال هنا للمطبعين على المستوى الأدنى: الإعلامي والثقافي والفكري: أين هي الكتلة المثقفة والفكرية المعارضة لمواقف حكامها؟ أين هي انتقاداتكم من داخل هذه البلدان التي يجب ان تنتقد الزعامات الخاصة بها عندما أقدمت على هذا التطبيع؟ هناك نوع من الصمت جزء منه نفهمه، فهناك قمع وتكميم للأفواه بشكل مُرعب، ولا يستطيع كثيرون في معظم بلدان الخليج، ربما ما عدا الكويت، أن ينتقد أحدهم السلطة القائمة، لكن في هذه الحالة يكفيك الصمت كمثقف إذا لم تستطع الانتقاد، إذن اكتف بالصمت، ولا تنتقد الأخرين، ولا توجه لوم إلى الفلسطينيين، ومع ذلك نحن نحمل أنفسنا المسؤولية، مسؤولية كبيرة جدا في المآل الذي انتهينا اليه، ولا نبرأ أنفسنا لكن هذه المماحكات الإعلامية الهروبية لا تسوغ هذا الانهيار ولا التطبيع مع إسرائيل.

  • بغض النظر عن الظروف التي قادت إلى نهج التسوية والمفاوضات، على الرغم من أهميتها، أعتقد أن حصاد التسوية لم يتم تدشينه عبر بوابة أوسلو، بل ما قبله بكثير…سؤالي: إلى أي حد تعتبر أن سيادة الثقافة الانهزامية قد عززت من القبول بسردية الآخر/ العدو الصهيوني؟

هناك السياسة الانهزامية وهناك والثقافة الانهزامية وهذين المكونين يتداخلان فهناك علاقة بينهما دائمة الدينامية، وأزعم أن السياسة الانهزامية هي التي تولد الثقافة الانهزامية، وليس العكس. أعتقد أن الثقافة أكثر صلابة من السياسة. مشكلتنا كانت في السياسة الانهزامية، فالأنظمة العربية لا هم لها الا الحفاظ على النظام ذاته، بغض النظر عن مصلحة الشعوب او الأوطان، وهذه الأنظمة بوصلتها ليست بوصلة إرادة شعوب ولا الأوطان او كرامتها او كرامة الأوطان، البوصلة الحقيقة هي مصلحة هذه الحفنة من الموجودين على رأس الحكم. كيف نستطيع التمسك بهذا الحكم لأطول فترة ممكنة؟ نحن وكل الطوائف والزعامات والزبانية التي تلتف حول هذه الأنظمة هذه هي بوصلتها.

فهدف الأنظمة الحفاظ على نفسها أطول فترة ممكنة، ولهذا فهي التي خلقت الثقافة الانهزامية وعممتها، وبررتها وقدمت تسويغات مختلفة، كل نظام لديه مربع طويل وعريض في تبرير الهزيمة وتسويغها وعرضها على شكل انتفاع. ولأن النظام هو المكون الأقوى في التشكيل السياسي، أي الدولة، النظام، الحكومة، فهو يمتلك توجيه الاعلام، وهو من يمتلك محاولة إدخال هذه العناصر، عناصر الثقافة الجديدة، التخاذلية والاستسلامية، إلى الثقافة العامة، عن طريق الاعلام والتعليم، وعن طريق تخليق أنصاف المثقفين الذين يطبلون لهذا الخطاب الجديد، مثل خطاب السادات عندما جاء إلى القدس. إذا كل خطاب تطبيعي له جوقة من المطبعين والمزمرين، هؤلاء يتصدرون المشهد، ويخلقون الثقافة الانهزامية، لأن هذه الثقافة الانهزامية تصبح رسمية، هي الواجهة، وهي تطالب الآن من الثقافة السياسية مستوى آخر من التنازل، أو تبرر ما يحصل، مما يتيح للحكام المضي قدماً في خطوة أخرى من الخطوات  على نفس طريق الاستسلام، لهذا فالعلاقة عضوية بين السياسة الانهزامية والثقافة التطبيعية، فالنظام العربي يخلق صورته في الثقافة، وهي صورة مستسلمة تبرر وتزين الاندفاع نحو مرحلة أخرى في المسار ذاته، وهي عملية تبادلية نفعية، لكن أسها الحقيقي، وجذرها هو ثقافة الأنظمة المستسلمة الحريصة على بقائها، رغم إرادة الشعوب.

  • لو انتقلنا إلى الجانب الآخر، إلى الجانب الإسرائيلي، وأنت تعلم أنه بعد توقيع اتفاق أوسلو ظهر المؤرخون الجدد وطرح العديد منهم كتابة تاريخ جديد، هل يمكن كتابة تاريخ مؤتلف للصراع العربي الصهيوني؟ هل للحقيقة أكثر من وجه؟

نظريا نعم، هناك أكثر من وجه للحقيقة، لكن عملياً وفي حالات عديدة، نقول هناك حقيقة واحدة لكن تراها الاطراف من زوايا مختلفة، واحيانا مُختلقة. في حالة فلسطين، هناك احتلال استعماري تم من خلاله إقامة كيان غريب عليها بعد طرد الفلسطينيين منها، وهذا حصل موضوعياً وهذه حقيقة يتوافق عليها الجميع بما فيهم منظرو الكيان الغاصب. أي الإسرائيليين انفسهم يقولون نعم جئنا إلى هنا وبنيينا دولة، و”خرج” نصف الشعب الفلسطيني، وكأنه غادر ارضه طوعا. يوجد معطيات حقيقية موضوعية يتوافق عليها الجميع، لكن المشكلة في تفسيرها فاليهودي يفسر ذلك بأنه عاد إلى أرض الميعاد، والصهيونية لا تقر بأنها اقتلعت الشعب الفلسطيني وتقدم تفسيرات وتلوي عنق تلك الحقيقة بما يناسبها وهكذا.

بعض المؤرخين الجدد الإسرائيليون يقولون لنا إنهم قطعوا نصف المسافة فكتبوا تاريخهم بطريقة نقدية، وعلينا نحن الفلسطينيين أن نكتب تاريخنا ونقطع نصف المسافة، الآن إذا كان المؤرخون الجدد نقضوا تاريخا مشوها رسميا، والذي هو خطاب الدولة، وأقروا فيه بطرد الفلسطينيين والاحتلال، معنى ذلك إذا أرادوا من الفلسطينيين أن يكتبوا تاريخ جديد ما الذي سوف يكتبونه؟ هل سيقولون ان الشعب الفلسطيني مثلاً لم يُقتعل من ارضه حتى نصل الى تاريخ مؤتلف ومتفق عليه؟  نعم هو اسمه تاريخ جديد بالنسبة إلى المؤرخين الجدد، لأنهم اقتربوا من الحقيقة كما هي. الآن إذا اقترب الفلسطينيون من هذا الموقع وذهبوا إلى الموقع الآخر، فسوف يكتبون التاريخ القديم المزور الذي نقضه المؤرخون الجدد.

في التسويات السياسية التي جرت في الماضي لا أحد يستند إلى التاريخ أو السرد التاريخي كي اتفاقا سياسياً، لكن الهوس بالتاريخ غير موجود إلا في حالة إسرائيل، وهو هوس يريد تغيير التاريخ والسرديات والاركيولوجيا وحتى الدين، بل وايضا الحلم والامل في المستقبل. ولهذا فإننا نرى هذا الهوس يبحث في المناهج التعليمية الفلسطينية والاعلام وسوى ذلك، لأنه كالسارق الذي يريد أن يهرب بما سرق ويشرعن ما سرق… ولا يقبل بالوصف الموضوعي للسرقة.

هو يعرف الحقيقة، وانت تقول له أنت القوي وانا الضعيف فأعد لي نصف ما سرقت على الأقل، وهو يشترط عليك بانه سيعيد إليك الربع مثلاً لكن بشرط أن تعترف له بأنه ليس بسارق بل صاحب هذه الممتلكات، وبأنه صاحب هذه الأرض، في التاريخ والمستقبل، لهذا نجد أن الإسرائيلي حريص على أن يغير سردية ثلاثة آلاف سنة حتى يصل إلى هذه النقطة. لذلك أنا أعتقد أنه حتى لو وافق الفلسطينيون فرضا على صفقة القرن، كما هي وبكل الجرائم التاريخية التي تحتويها، فإننا سوف ندخل نفق مفاوضات لن ننتهي منه منذ الآن وإلى ثلاثين سنة او اكثر، لأنه يجب أن نفتح لهم عقولنا كي يعرفوا كيف تفكر، وحتى يفتشوا أيضا في آمالنا وأحلامنا، ويتأكدوا أنه ليس هناك أي حلم، في رأس أي فلسطيني، يتناقض مع صفقة القرن.

هذا الهوس بالتاريخ، وهذا الهوس بالرواية، غير موجود إلا في الحالة الإسرائيلية، وهذا يشير إلى التوتر المُختزن عند السارق والجلاد، ويدلل على هشاشة الاطروحة التي يقوم عليها.

  • من هنا دعني أسأل إلى أي حد تعتبر أن التفوق الأخلاقي أمر جوهري، وينبغي العمل لاستثماره بأقصى طاقاتنا في صراعنا لإثبات عدالة قضيتنا دوليا وإقليميا وعربيا، وحتى فلسطينيا؟

عدالة القضية العادلة هي الصخرة التي تقوم عليها نضالات أي قضية أولا وآخرا، ويعني ذلك بالنسبة لنا كفلسطينيين ان عدالة قضيتنا ووضوحها هذه العدالة هي حجر الأساس في كل نضالاتنا. ربما نفشل في مراحل، أو في فترات زمنية طويلة في أن نترجم هذه العدالة إلى فعالية حقيقة على الارض، سواء إقليميا أو عالميا أو دوليا، وغالبا بسبب موازين القوى التي يقف فيها الغرب مع إسرائيل. وقد نفشل بسبب ذلك او لاسباب ذاتيه في ان نوصل نصاعة القضية إلى شعوب الأرض كلها، لكن كل هذا يظل فشلا مرحليا. ويجب أن نعود دوما إلى النبع أي عدالة القضية، والذي يمدنا بالقوة. نحن لو لم نمتلك عدالة القضية، لكانت انتهت حكايتنا منذ زمن بعيد أمام جبروت القوى الأخرى. الشعب الفلسطيني لا يواجه مجموعة من المهاجرين أو المستعمرين والمستوطنين من أوروبا. نحن في مواجهة مع استعمار ثلاثي الطبقات: ديني، واستعماري امبريالي، واستيطاني. والديني بدأ على الأقل منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث اخذ سمة استعمار ديني بروتستانتي سبق الصهيونية بنصف قرن يريد أن يعيد اليهود إلى إسرائيل، لأن عودتهم مرتبطة بعودة المسيح كما يزعم. يعيدهم إلى هناك اولاً ثم بعدها يأتي المسيح ليحول اليهود إلى المسيحية، وهذه الاطروحة الدينية تنطوي عملياً على عنصرية دينية واضحة. واستمر هذا البعد الديني منذ ذلك الوقت ووصولا إلى صفقة ترامب التي تكشف عن الخيط الديني الواضح حيث النص والسردية في هذه الصفقة توراتية الهوى والخلفية.

وهناك استعمار امبريالي، بمعنى أن الدول الامبريالية نظرت دوما على أن لها مصالح حيوية واستراتيجية وثرواتية في المنطقة، ورأت أن من مصلحتها الكولونيالية الصرفة دعم هذا الكيان وظيفيا، ليس حبا في اليهود بقدر ما هو اتساقاً مع المنطق الامبريالي. كل تلك الدول، أساساً دول لا سامية، فرنسا أو ألمانيا وروسيا وحتى بريطانيا، كلها دول كانت فيها اللاسامية في أعلى مستوياتها، لكنها دعمت إسرائيل ليس حبا باليهود، بل لأنها دول امبريالية لها مصالح متوافقة مع هذا الكيان الغريب في المنطقة، تبحث عن نفوذها في المنطقة، خذ مثلا وعد بلفور فقد أصدرته بريطانيا لتحقيق مصالحها.

أما الطبقة الثالثة من الاستعمار، فهي الاستعمار الاستيطاني، هؤلاء، أي المستوطنون اليهود، جاءوا  واستوطنوا في الأرض بهدف تملكها واقتلاع سكانها، على غير الاستعمار الكلاسيكي الذي ينتمي الى دولة استعمارية أوروبية ام يعود اليها المستعمرون يوما ما.

هذه الطبقات الثلاث من الاستعمار الفريد كانت خاصة بفلسطين وقادت الى نتائج هائلة جدا لم يواجهها أي شعب آخر على الكرة الأرضية، لا في القرن العشرين، ولا حتى في القرنين الثامن والتاسع عشر. فنحن إذن نواجه كل هذه القوى مجتمعة، وما زلنا صامدين.

لو لم تكن القضية عادلة لاندثرنا منذ زمن بعيد، لاندثرنا منذ وعد بلفور، لذلك عدالة القضية هي جدار الصد المنيع لنا أمام كل هذه القوى المجرمة، وبما فيها الآن الأنظمة والقوى المطبعة العربية. وبسبب عدالة القضية الفلسطينية فهي حاضرة في أفئدة كل أحرار العالم من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا وآسيا، وفي طول وعرض العالم العربي برمته. كل ذي ضمير حي وحر على الكرة الأرضية هو مع فلسطين، ما عدا هذه الأنظمة التي تستفيد زبائنيا منها. لو لم تكن هناك عدالة للقضية، لما استطعنا الحفاظ عليها حتى هذه اللحظة.

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *