شكلت تجربة الثورة الفلسطينية ولادة حقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد النكبة، لتعيد بذلك الاعتبار لهوية الشعب الفلسطيني وشخصيته الوطنية.

كان الحدث الفلسطيني انطلاقة لمسيرة ثورية عربية وعالمية وعنصر جذب لأعداد هائلة من الشباب من مختلف الفئات الاجتماعية، من عمال وفلاحيين ومهنيين وطلبة ومثقفين وكتاب، فلسطينيين وعرب، فظهور حركة المقاومة الفلسطينية كان بمثابة مخرج وبديل للكثير من الحالمين والمناضلين بعد هزيمة حزيران/يونيو عام 1967، التي شكلت صدمة لجيل بكامله علق آمالا كبيرة على دور للأنظمة الوطنية الخارجة لتوها من الاستعمار لمواجهة الاستحقاقات والتحديات التي واجهتها شعوب المنطقة.

في تلك الفترة برز اسم فلسطيني لامع غيبته الظروف والأحداث، تجربة فريدة لا تعرفها الاجيال اليوم، هو حنا ميخائيل، المثقف والباحث والأستاذ الجامعي القادم من جامعة هارفرد إلى معسكرات الثورة بعمان.

فقد اختار حنا ميخائيل الذي أصبح يكنى باسم أبو عمر، حركة فتح لينظم إليها، “كانت حركة فتح الحركة الوحيدة التي يمكن أن ينتمي إليها من بين جميع المنظمات الفلسطينية لأنها واسعة بما يكفي لتمثيل الجميع”، هذا ما تحدث عنه إدوارد سعيد الذي يضيف: “الشيء الرئيسي الذي كان عظمة وسخاء، مبادرته بالذهاب إلى عمان في المقام الأول، كان يحمل شهادة الدكتوراه من هارفارد ولديه منصب أكاديمي مضمون في الولايات المتحدة، تخلى عن هذا كله واستعاض عنه بمستقبل مجهول، ناهيك بالمخاطر التي تحيط بموقع التطوع في حركة شعبية لما تنطلق بعد، وكانت تفتقد لمقومات الأمان وسط بيئة عربية، متفجرة ومعادية، ووضعت لنفسها فوق كل ذلك هدفًا يكاد يكون جنونيًا وهو تحرير فلسطين”.

أخذ أبو عمر على عاتقه مهمة التوجيه السياسي والتثقيف الحزبي فكان جل وقته يقضيه في معسكرات الفدائيين حيث اعتمد على تبسيط المصطلحات بهدف إيصال الأفكار بشكل سلس لنشر الوعي في صفوف الفدائيين، فأصبحت الثورة نهجًا معرفيًا تملك أدوات يتعين استيعابها، حتى يستطيع الفدائي أن يقوم بواجبه تجاه ثورته وشعبه.

انضم أبو عمر إلى دائرة العلاقات الخارجية في حركة فتح في الأردن، ومن خلالها نسج شبكة علاقات دولية مع القوى التقدمية المؤيدة للقضية الفلسطينية في العالم، ومع شخصيات يسارية في الغرب، ومن امتن تلك العلاقات ما ربطته بالأديب الفرنسي جان جينيه، الذي كتب عن الفدائيين في الأردن بعد أن زار معسكراتهم وقد أفرد صفحات كاملة عن أبو عمر في كتابه المهم “أسير عاشق”. يتحدث إدوارد سعيد عن توصيف تلك العلاقة: “يبدو أن جينيه أحس بأن حنا، على غرار كثير من الفلسطينيين الذين صادقهم، كان يمثل نوعًا من النقاوة وحتى لامبالاة شخصية غير أنانية كانت بالنسبة للكاتب الفرنسي العظيم تجسد جوهر الثورة الفلسطينية”.

بعد أحداث أيلول الأسود وهزيمة الثورة في عمان وانكفائها إلى الأحراش، رفض أبو عمر الخروج وبقي مع الكوادر السياسية قريبًا من المقاتلين الصامدين في جرش كتعبير منه عن روح المسؤولية والتضحية والعطاء، إلى أن انتقل مع الثورة الى بيروت.

كان للضربة الموجعة التي تلقتها الثورة في الأردن تأثيرها الواضح على أبو عمر لكنه لم ييأس، بل على العكس مكنته التجربة من اكتشاف مأزق حركة فتح والثورة الفلسطينية واستحالة تحقيق النصر في ظل قيادة تفتقر الى الفكر والرؤية الاستراتيجية والتنظيم الثوري، فركّز على تطوير الكادر والعمل على خلق تنظيم ثوري يكون واضح الأهداف وواضح الخطوات، وكان حريصًا على صياغة الأفكار بما يلائم أبسط المناضلين.

بداية التحول في الساحة الفلسطينية حدث بعد ظهور نهج التسوية الذي رافق انتقاد المجلس الوطني الفلسطيني بالقاهرة سنة 1974، حين تبنت القيادة الفلسطينية برنامج النقاط العشر مما خلق حالة انقسام في الساحة الفلسطينية بين تيار يدعو للقبول بالحل المرحلي الذي تنص قاعدته على انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من أراضي قطاع غزة والضفة الغربية، وتيار رافض لأي تسوية مع العدو الصهيوني كان قد أعلن عن قيام جبهة القوى الفلسطينية.

لم تكن حركة فتح بمعزل عن تلك التجاذبات فقد ظهر داخل الحركة ثلاثة اتجاهات كما يصفها عبد الفتاح القلقيلي أبو نائل رفيق درب أبو عمر: “مسار المفرّطين وهو المسار الذي أدان الماضي الثوري أو سخّفه، مسار المُفْرِطين وهو المسار المتطرف العدمي الذي لا يرى للتحرك السياسي أية قيمة، ومسار الواقعية الثورية الذي يرى أنه من الطبيعي أن تكون التسوية هي نهاية كل حرب، وأن الحرب لا تكون إلا لتحقيق هدف سياسي، وأن التسوية في فترة ما، هي انعكاس لميزان القوى في تلك الفترة، وبما أن ميزان القوى الآن راجح تماماً لصالح العدو، فإن أية تسوية الآن ستكون لصالحه”.

كان أبو عمر يمثل خط الواقعية الثورية ومن أبرز الداعين له، إذ اعتبر أن البرنامج المرحلي الذي تبنته قيادة منظمة التحرير حجر عثرة لن يوصل إلى أي نتيجة، هدفه الوصول لحالة استسلام كاملة، وكم كان صاحب نظرة ثاقبة وقراءة استشرافية لمسار التسوية الذي قادنا لنتائج كارثية.

وارتكزت رؤيته لحل الصراع العربي الإسرائيلي على شرط هزيمة الحركة الصهيونية، وتفكيك بنى الاستعمار لتحقيق “الحل الديمقراطي”، أي إقامة الدولة الديمقراطية التي تحترم حقوق الجميع من منطلق المواطنة، ويعيش فيها الجميع بغض النظر عن الدين والعرق، وكان شعاره الذي يردده باستمرار “الحل العادل هو الذي يحل مشكلة البشر قبل الأرض والحجر”.

وبحكم تدرجه بالمسؤولية داخل حركة فتح، أدرك أبو عمر أن نهج القيادة غيب البرنامج الوطني والخط الاستراتيجي، لكن إيمانه بدور حركة فتح كقيادة طليعية ساهمت في إطلاق شرارة النضال الفلسطيني المعاصر ضمن أوضاع صعبة جدًا، وبناء على ذلك ووفق معرفته وقناعاته، وضع اللبنة الأولى لتأسيس تيار ديمقراطي داخل الحركة، وقد أنجز الوثيقة الفكرية للتيار بعنوان “ملاحظات أولية حول الثورة العربية”. وكانت تهدف إلى بناء حزب فلسطيني ماركسي لينيني مقاتل، ليتحول فيما بعد لحزب شيوعي عربي جذري يسترشد بالتجربة الفيتنامية التي أعجب بها، وعززت اقتناعه بالتقاني المتسم بنكران الذات وبالتنظيم والانضباط الدقيق.

وسعى لنقل التجربة للثورة الفلسطينية من منطق فهمه للثورة بصفتها حركة شعبية مرتبطة عضويًا بحركات التحرر العربية والعالمية، فكان ضمن وفد من الكوادر الفلسطينية التي ذهبت إلى هانوي سنة 1975 لدراسة تجربة الثورة الفيتنامية.

ساهم انخراطه في العمل التنظيمي والسياسي وإيمانه بالفكر الماركسي -إذ رأى فيه منهجًا علميًا لفهم حركة التاريخ والصراع الطبقي- ففهم مكامن الخلل بالثورة الفلسطينية إذ انتقد العفوية والعشوائية السائدتين في العمل النضالي الفلسطيني، ورأى أن النضال بأمس الحاجة إلى الاستفادة من جميع الإمكانيات المتوفرة، وإلى تأسيس البرامج على الفهم العميق للظروف الموضوعية والإمكانيات الذاتية وتجارب حركات التحرر في العالم، تلك الأفكار التي كانت تعارض نهج القيادة ولقيت لها صدى داخل أطر الحركة وانتشار ملموس بقواعدها فبدأت نشاطات أبو عمر وتأثيره المتزايد يثير القلق والامتعاض.

في شهر حزيران/يونيو 1976، وبذروة الحرب الأهلية اللبنانية، تواردت الأخبار من طرابلس عن الممارسات السيئة والمشينة لقيادة حركة فتح بمنطقة الشمال بقيادة أبو هاجم التي عاثت فسادًا وخلقت تذمرًا واسعًا وسط الأهالي، ولم تستطع قيادة الثورة أو لم تشأ أن تضع حدًا لتلك التصرفات فكانت التعبير الأبرز لحالة التخبط واستفراد العناصر الانتهازية وغير المبدئية بالمناصب بدعم ولو مبطن من قبل القيادة، فعوض إنهاء تلك الحالة المسيئة لصورة الثورة وحلها قررت القيادة الهروب إلى الأمام باختيار حل وسط عن طريق دعمها بمجموعة نظيفة لعل وضع الحركة يتحسن هناك. فاختارت نعيم أبو محمود، وهو الاسم الحركي لعبد الحميد الوشاحي، ليكون مسؤول القيادة هناك، وبدوره اقترح نعيم أن يكون أبو عمر نائبه والمفوض السياسي، فوافقت القيادة. وربطت بين الرجلين علاقة صداقة متينة، فعبد الحميد الوشاحي كان من أفضل كوادر حركة فتح العسكرية وأنقاهم، الا أنه كان أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، وبحكم تلك العلاقة قام أبو عمر بمساعدته على تعلم القراءة والكتابة، وقد نجح في ذلك، وشاء القدر أن يشتركا في نفس الرحلة التي قادتهم إلى نفس المصير، ورافقهم في تلك الرحلة ثمانية من الكوادر المشهود لها بالنزاهة والكفاءة وأُطلق على المجموعة اسم مجموعة الدكتور نعيم.

توجه المناضلون من بيروت إلى طرابلس عبر البحر، حيث كان من المستحيل سلوك طريق البر إلى الشمال الذي تسيطر عليه القوات السورية وحلفاؤها من قوى اليمين الانعزالي اللبناني، فاستقلوا قاربًا صغيرًا ذاهبين إلى وجهتهم لكنهم لم يصلوا ولم يعودوا أدراجهم أيضًا، واختفت آثار المجموعة ولم يستطع أحد أن يقف على أثر لهم.

تعدّدت الروايات عن مصير المجموعة، فقد قيل إن البحرية الاسرائيلية قد اعترضت طريقهم وتم إغراق قاربهم، في حين تتحدث رواية ثانية عن اعتقالهم من قبل الإسرائيليين وتسليمهم للكتائب التي قامت بإعدامهم، ورواية ثالثة عن اعتقالهم من قبل الكتائب وتسليمهم للقوات السورية التي زجت بهم في غياهب معتقلاتها. لا أحد يملك الحقيقة ولا الإجابة القاطعة، لكن غيابهم تتقاطع فيه مصالح عدة أطراف هذا ما يدفع للتساؤل عن الطريقة التي تم فيها إرسال المجموعة؟ هل كان هذا خيارًا سليمًا ولماذا لم يتم توفير غطاء أمني لتلك الرحلة؟ فما تم تداوله أن الرحلة تمت على متن قارب واحد مطاطي بدلًا من قاربين كان من المفترض تخصيصهما للرحلة التي تمر من منطقة تتواجد فيها قوات الكتائب اللبنانية المعادية، تداول خبر المهمة وانتشاره العلني في حين يفترض أن تحاط المهمة بالسرية التامة، الدور المشبوه لأبو هاجم ـ الذي كان المتضرر الأبرز في حال وصول المجموعةـ بإرساله برقيات غير مشفرة في الرد على البرقيات المشفرة الواردة وتزويد المجموعة بجهاز اتصال لا يعمل، تلك الأسئلة ما زالت مفتوحة على المجهول؟

تمّ ما يُراد. تغييب أبو عمر وطمس ذكراه عزّز تلك التصرفات غير المفهومة، فاللجنة التي شكلت للبحث عن المجموعة لم تجتمع وتهربت من إصدار بيان تعلن فيه عن استشهاد أفراد المجموعة، كما تجاهل المؤتمر العام الرابع لحركة فتح المنعقد سنة 1980 اقتراح عضو لجنتها المركزية الشهيد ماجد أبو شرار بانتخاب الغائب حنا ميخائيل عضوًا في مجلسها الثوري، ومن هنا يبدو أن هذه التصرفات لم تكن منعزلة بل كانت تجسيدًا لفعل الانتحار والتدمير الذاتي الذي استشرى في الجسم الفلسطيني لتكريس نهج الاستسلام وإبعاد كل المناضلين الذين حاولوا ضبط المسار وتصحيح النهج، ووقف التخبط الذي دفع بالانحدار والجري وراء السراب والأحلام الزائفة التي جرت الويلات على قضية من أعدل القضايا في العالم.

كان حنا ميخائيل مثال التفاني والالتزام والنزاهة، لكن حكايته لم تُرو بعد، فلربما تمكنت الأجبال القادمة من القيام بذلك حتى يتسنى له وللشهداء أن يعودوا إلى ديارهم.

 

(ألترا صوت)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *