حماس و”وحدة الساحات” والعودة إلى الأسد
لم يكد الجدل يهدأ بخصوص موقف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في معركة “وحدة الساحات”، حتى جاء بيان الحركة الذي يعلن نية “تطبيع” العلاقات مع النظام السوري، ليجدّد الجدل بشأن منطلقات الحركة ومعانيها. جزءٌ من تفسير هذه المواقف يكمن في النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، التي تتعلق بسياسات الدول، وربما الكيانات السياسية الرسمية، وأولوياتها المختلفة عن الحركات الشعبية، أي أنّ “حماس” تتصرّف باعتبارها “كيانا” شبه دولاتي.
في مواجهة وحدة الساحات (كما سمتها حركة الجهاد الإسلامي)، ما بين الاحتلال الاسرائيلي وحركة الجهاد في غزة، ما بين 4 – 7 أغسطس/ آب، لم تتدخل “حماس” عسكرياً، وبقيت إمكاناتها الصاروخية من دون استخدام. وهذه ليست المرّة الأولى التي يحدُث فيه هذا الموقف، فقد حدث شبيه له في مارس/ آذار 2014، حينما قامت إسرائيل باغتيالات في قطاع غزة ردّت عليها “الجهاد الإسلامي” صاروخياً. وحينها، توقفت المواجهة بمفاوضاتٍ غير مسبوقة توسّطت فيها مصر بين الاحتلال و”الجهاد”، من دون وجود دور لحركة حماس أو غيرها، في المعركة أو المفاوضات. والواقع أنّ مشاركة “حماس” أو مبادرتها للمواجهة الصاروخية الواسعة ضمن مواجهة “سيف القدس”، في مايو/ أيار 2021، كانت استثناءً وخروجاً عن قواعد العمل السائدة في غزة، منذ سنوات، بالعمل على تفادي المواجهة وعدم الربط بين ساحات المواجهة.
على صعيد موقف “حماس” من النظام السوري، وبيانها يوم 15 سبتمبر/ أيلول 2022، الذي جاء فيه “مُضيّها في بناء وتطوير علاقات راسخة مع الجمهورية العربية السورية “، فلا بد من ذكر أنّ قيادات في “حماس”، وفي مقدمتهما محمود الزّهار تتبنّى هذا الموقف منذ العام 2012. وفي عام 2019، صرّح الزهار إنّ “جهودا بُذلت في السابق وتبذل حاليا لعودة العلاقات بين الحركة والنظام السوري”. ولا يمكن الفصل بين علاقة “حماس” وإيران من جهة وحلفاء طهران من جهة أخرى. وعقب معركة “سيف القدس”، صرّح رجل الحركة القوي وقائدها في غزة، يحيى السنوار، بأن “حماس” لن تستفيد ماديا من عملية إعادة الإعمار. ووجّه الشكر لإيران التي قال إنها كانت “كريمة دائما” مع الفصائل الفلسطينية “مادّيا ولوجستيا ومعنوياً”. وأضاف إن حركة حماس “لا تحتاج لمساعدات مادّية”، ووجه شكره للمتبرّعين للفصائل الفلسطينية في القطاع، وتابع: “لدينا طرقنا في الحصول على الأموال”.
يمكن فهم موقف “حماس” من مجمل القضايا، من خلال النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، أولاً أنّ أهم سمة للدولة هي احتكار استخدام القوة المشروعة، وهو ما يسمّى أحياناً وحدانية السلاح وعدم جواز وجود سلاح سوى سلاح الدولة، وقرار الحرب والسلم قرارها. ثانياً، أنّ للدول حساباتها التي تختلف عن الأحزاب الأيديولوجية، ومن ذلك، على سبيل المثال، أن الدول التي حكمها الشيوعيون، مثل فيتنام والصين والاتحاد السوفييتي، تصرّفت بوصفها دولا، فتقاتلوا بعضهم مع بعض، وتحالفوا مع الغرب أحياناً، ودخلوا في مساومات مقابل القمح تارّة، ومقابل مكاسب اقتصادية تارّة أخرى. وثالثاً، تقول هذه النظرية إنّ أولوية أي نظام سياسي هو أمنه وأمن كيانه، وبقاؤه واستقراره.
قبل تحليل مواقف “حماس” المعلنة أخيرا، يمكّن تذكّر زيارة توني بلير (بصفته رئيس الرباعية الدولية آنذاك) قطاع غزة، في مارس/ آذار 2015، ويومها قال قادة الحركة إنّ بلير حمل أفكاراً سياسية، هي عملياً خطة لإدماج الحركة في المنظومة الإقليمية والوساطة معها. وقال عضو مكتب “حماس” السياسي، موسى أبو مرزوق، إن الأفكار تضمّنت “القبول ببرنامج سياسي فلسطيني قاعدته دولة فلسطينية في حدود 67، والتأكيد على أن الحركة هي حركة فلسطينية لتحقيق أهداف فلسطينية، وليست جزءاً من حركة إسلامية ذات أبعاد إقليمية، والقبول بأن حل الدولتين نهائي للصراع وليس مؤقتاً”. ومن يعود إلى وثيقة “حماس” المعلنة في 1 مايو/ أيار 2017، يجد أنّه جرت الاستجابة لطلب التعريف الوطني، بمعنى أنّ “حماس”، سواء استجابة لطلب خارجي كالذي حمله بلير من دول في المنطقة، أو بقرار ذاتي، بدأت تتصرّف باستقلالية عن التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين.
بناءً على ما سبق، يمكن فهم مواقف “حماس” كما يلي: أولاً، ربما لا تكون “حماس” دولة، ولكن حساباتها هي حسابات دولة، إذ تتعامل مع غزّة على أنها منطقة خاضعة لسلطتها و”جيشها”. ولذلك ترفض أن يكون قرار الحرب والسلم (المواجهة) بيد غيرها في القطاع. ومن هنا، رفضت، في مارس/ آذار 2014 ومايو/ أيار 2022، “الانجرار” لمواجهةٍ بدأها فصيل آخر، من دون قرار مشترك، فهي تطبّق مبدأ “وحدانية السلاح” الذي طالما أنكرته، عندما لم تكن سلطة مسيطرة، وكانت في “المعارضة”.
منذ دخول “حماس” رسميّاً في مشروع الحصول على السلطة والحكم، حتى لو كان تحت الاحتلال، أصبحت منطلقاتها محكومةً بأوليات أي سلطة وأي حكم
ثانياً، في حسابات الدول، الاعتراف الخارجي والعلاقات مع الأنظمة الأخرى شيء أساسي. عندما يتعلق الأمر بمصالحها، وهذا ما يوضح الموقف من نظام الأسد، فهي، كما في وثيقتها عام 2017، باتت تتصرّف، عندما تحتاج وتستطيع، بمنطقٍ غير أممي، فتفصل مواقفها عن باقي حركات التحرّر، وعن قضايا حرية أخرى، بل وعن الإخوان المسلمين في بعض الحالات.
ثالثاً، يقتضي أمن التنظيم في “حماس” وصيانة كيانها الحكوماتي/ الدولاتي في غزة، والذي تقيم أغلبية قيادته السياسية الخارجية، وجزء من قيادته اللوجستية والاقتصادية، في الخارج، العثور على مساعدات دولية. وبالتأكيد، ليست مساعدات إيران من دون ثمن إقليمي، والعودة إلى نظام الأسد في جزء منها تعويض لطهران عن عدم الوقوف مع تنظيم الجهاد الإسلامي (الأقرب إلى إيران) في الشهر الفائت (أغسطس/ آب). ثم إنّ الخوف من الخروج من الملجأ التركي لكوادر كثيرة، بعد عودة أنقرة إلى سياسة تصفير المشكلات (إنهاء التوتر مع أي دولة أخرى)، بما قد يتطلب من طرد للإسلاميين عن أرضها، يعني ضرورة البحث عن ملجأ آخر، سواء في سورية أو دولة أخرى تقبل وجود نوع محدّد من الكوادر الإعلامية والعسكرية وتعطيها هامشا للعمل.
منذ دخول “حماس” رسميّاً في مشروع الحصول على السلطة والحكم، حتى لو كان تحت الاحتلال، أصبحت منطلقاتها محكومةً بأوليات أي سلطة وأي حكم، من وحدانية السلاح، وحفظ الأمن، وتغليب المصالح على الأيديولوجيا والعقائد.
عن العربي الجديد