حماس ونتائج غير مُخطّط لها: انتخابات 2006 وضربة 2023
ثمّة عدّة دلائل تُشير إلى أن اتساع نطاق ضربة 7 أكتوبر التي ألحقت هزيمة وإذلالا مُدهشين بإسرائيل على يد المقاومة الفلسطينية، وبتخطيط مباشر من “حماس”، فاق توقّع الحركة نفسها. يُذكّرنا هذا بنتائج انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، والتي فازت فيها “حماس”، وشكّلت آنذاك صدمة للجميع، بما فيهم قيادة “حماس” وأنصارها. في تلك السنة، خاضت الحركة الانتخابات لتحقّق هدفين أساسيين، لكنها وجدت نفسها في معمعة نصر انتخابي لم تكن مُستعدّة له، ولم تستطع إلا قبوله ودفع أكلافه. الأول الالتفاف الاستراتيجي على استهداف الحركة من حملة “الحرب على الإرهاب” التي رفع لواءها الرئيس الأميركي في حينه، جورج بوش الابن، وفيها غزا أفغانستان مباشرة بعد تفجيرات 11 سبتمبر، ثم العراق سنة 2013، ووضع أمام تلك الحرب قائمة من البلدان والتنظيمات التي ستلاحقها الولايات المتحدة، وكان منها حماس. في تلك الأجواء، انضوت السلطة الفلسطينية، ولو لفظيا وإعلاميا، تحت الضغطين، الأميركي والإسرائيلي، في ركاب “الحرب على الإرهاب”، ما عنى احتمال تسعير الصدام بين السلطة و”حماس”. وبموازاة تلك الحملة، ولتجميل حروب أميركا في المنطقة والعالم، أعلن بوش حملة “دمقرطة الشرق الأوسط”، زاعماً أن تلك الحروب، بما فيها ملاحقة التنظيمات التي يعتبرها إرهابية، تهدف إلى جلب الديمقراطية إلى البلدان العربية.
كان هدف “حماس” من المشاركة في الانتخابات التشريعية حماية نفسها من بطش الحملة على الإرهاب، والتمترس خلف شعارات الحملة التجميلية الثانية، الدمقرطة، بما يصعّب على كل الأطراف استهداف “حماس”، التي ستصير جزءا من المشهد السياسي الفلسطيني الديمقراطي، وصورتها هذه كحركة سياسية تشارك في عملية ديمقراطية سيُجهض توصيفها بالإرهاب أو اعتبارها من أخوات “القاعدة” وبقية التنظيمات المتطرّفة.
الهدف الثاني من المشاركة في تلك الانتخابات كان إيجاد موقع قويٍّ في المؤسّسة التشريعية الفلسطينية، يمكّن الحركة من التحكّم في القرار الفلسطيني من خلال الحصول على نسبة عالية من مقاعد المجلس التشريعي، حوالي 40% مثلا، تُضاف اليها مقاعد معارضين آخرين لاتفاق أوسلو والسلطة، بما يعني لجم أية توجهات تريدها السلطة ولا توافق عليها “حماس”. كان ذلك هو الموقع المثالي لتقديرات الحركة: قدم في صف المعارضة والمقاومة، وقدمٌ في المجلس التشريعي، وتترك للسلطة آثام القرارات الكبيرة التي تثير حنق غالبية الفلسطينيين. لكن وعلى غير ما خُطّط له، فازت حماس بالانتخابات، ووجدت نفسًها في موقعٍ لا تُحسد عليه: مقاومة في موقع حكومةٍ تحت سقف “أوسلو”، في سياق وضع إقليمي ودولي رافض. بقية الحكاية نعرفها جميعا، لكن ملخّصها أن أثماناً سياسية ووطنية باهظة دفعتها “حماس” والفلسطينيون معاً، أكثرها قسوة الانقسام المرير بعد سنةٍ من تلك الانتخابات، وما نجم عنه من سيطرة “حماس” على قطاع غزّة، وبقاء السلطة الفلسطينية مسيطرة على الضفة الغربية.
عندما فازت حماس بالانتخابات 2006، وجدت نفسًها في موقعٍ لا تُحسد عليه: مقاومة في موقع حكومةٍ تحت سقف “أوسلو”، في سياق وضع إقليمي ودولي رافض
قد يساعدنا استدعاء ما سبق، أولا، على فهم ما حدث في التخطيط لضربة 7 أكتوبر، واستشراف مُنعكساتٍ لم يُخطط لها وتفاديها ثانيا. كان السؤال الكبير في هذه الضربة ولا يزال يحوم حول الدافع الذي قاد “حماس” إلى عمليةٍ تتسم بهذا الحجم من الضخامة، بما أوحى، في الوهلة الأولى، لمراقبين كثيرين اعتبارها حلقة من خطة إقليمية أكبر أطرافها إيران وحزب الله و”محور المقاومة”. انطلق ذلك الاستنتاج المُتسرّع من حجم العملية واتّساع نطاقها ونجاحها السريع والمُذهل، وتوقع أن تتبعها فوراً الحلقات الأخرى من الخطّة. لكن ذلك كله لم يحدُث، حتى الآن على الأقلّ، بما يفيد بأن الضربة كانت فلسطينية صرفة، ولم تكن بتخطيط مُسبق مع أي طرفٍ آخر. وفي الغالب أيضا أن قيادة “حماس” في الخارج لم تكن على علم بها أو بحجمها، وفوجئت بها كما فوجئ الجميع. يؤكّد ذلك أن الردّ الإسرائيلي الفظيع والوحشي لم يُحرّك حلفاء “حماس” الإقليميين، إيران وحزب الله، اللذيْن وقفا عمليا موقف المتفرّج. وإذا تبدّل هذا الموقف في الأيام المقبلة أمام الإحراج الكبير الذي يتعرّض له هذان الطرفان، بحيث ينتقل التأييد الشعاراتي واللفظي إلى نوع من الإسناد العملياتي الخجول، فلن يتعدّى ذلك القيام بعمليات عسكرية محدودة لحفظ ماء الوجه، لكنها لن تغيّر من معادلة إبقاء الفلسطينيين وحيدين في المعركة.
يطرح هذا كله السؤال: هل كانت خطّة حماس الأصلية إنجاز اختراق عسكري محدود وسريع يحقق هدفين: اختطاف جنودٍ إسرائيليين والعودة بهم إلى قطاع غزّة ومبادلتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين، ودعم الأقصى وتوصيل رسالة إلى إسرائيل بأن تواصل الاعتداءات على القدس يؤدّي الى ضربات من المقاومة الفلسطينية. لكن ما حدث على الأرض فاجأ “حماس” نفسها، خصوصا مع سهولة تنفيذ الاختراق وتهافت القدرة العسكرية الإسرائيلية على الجانب الآخر من الحدود، بما أغرى مقاتليها على الأرض للاستمرار في العملية وتوسيع نطاقها. في حالة كهذه، وأمام طموح العسكريين، المشروع والمفهوم، في تسجيل نصرٍ كبير على إسرائيل، فلربما تسارعت القرارات الميدانية لتوسيع نطاق العملية من دون احتساب أكلافها السياسية وما قد يترتب عليها. وفي سياق توسيع نطاق العملية العسكرية، دخلت أفواج من المدنيين من غزّة إلى المستوطنات القريبة، وترتّبت على ذلك ممارساتٌ اضطر القيادي في “حماس”، صالح العاروري، إلى التبرّؤ منها في اعتذار غير مباشر.
يقدّم النصر الظرفي المُباغت والسريع إنجازاً ظافراً وكبيراً لحركة حماس، لكن حساباته السياسية لم تكن مُعدّة مُسبقاً
إذا كان هذا التحليل قريبا من الواقع ومما حدث، ففي هذه الحالة يمكن رسم متوازياتٍ مع انتخابات عام 2006، حيث يقدّم النصر الظرفي المُباغت والسريع إنجازاً ظافرا وكبيرا لحركة حماس، لكن حساباته السياسية لم تكن مُعدّة مُسبقا. وهذا يعيد إلى مقدّمة الصورة الحقيقة المرّة المتمثلة في ضراوة الضعف الإقليمي الذي يُحيط بفلسطين، قضية وشعبا ومقاومة، حيث لا ظهير حقيقيا لأي إنجاز فلسطيني يعمل على حمايته ورعايته وتقديم الإسناد له. هذا فضلا عن الانحياز الغربي الرسمي الأعمى لإسرائيل، والذي انتقل إلى مرحلةٍ موغلةٍ في العنصرية والحقارة كما نشهد حالياً.
ليس الهدف من هذا التحليل لوم المقاومة ابداً، ذلك أن الحرب مع عدوّ شرسٍ وعنصريٍّ تعتمد أيضا على انتهاز الفرص وتوسيع رقعة الإنجاز. بيد أن الغاية هنا التأمل في السيناريوهات المُتوقّع أن يشتغل عليها العدو لاستثمار ما بعد الضربة، خصوصا مع الضوء الأخضر غير المسبوق من العالم الغربي المتوحش الذي منح إسرائيل القيام بما تريده ضد قطاع غزّة والفلسطينيين عموماً، بما في ذلك الإبادة والتهجير.
عن العربي الجديد