المخصيون 1
هنا لا توجد رواية…لا توجد سيرة ذاتية أو تأريخ…..لا يوجد ترتيب زمني للأحداث..هنا شذرات لا طعم لها قد تكون وهما وقد تكون هي الحقيقة السوداء..لهذا لا تصنيف لما سيرد إلا عبثية النص،التي قد تكون ترفا للبعض، ويلقي به في أقرب حاوية للقمامة، وقد يجد البعض الآخر أن بها ما يستحق القراءة.
1/
استيقظ صباحا معتل المزاج، الصداع يفتك به، كأن ورشة للبناء في رأسه. نظر إلى المرآة، أخافه ما رأى:هالتين من السواد تحيطان بعينيه، تمتدان حتى منتصف وجنتيه، التجاعيد تملأ جبينه، حول عينيه، زوايا الأنف….متى ظهرت كل هذه الخطوط؟ ليلة البارحة لم تكن موجودة، والأن تنتشر كأخاديد تحفر وجهه،أهكذا يغدر به الزمان فجأة؟
حاول أن يواسي نفسه بالقول: “اذا كانت آثار الزمان قد أخافتني لهذا الحد، فما هي ردة فعل نساء جيلي عندما يكتشفن آثار السنين على وجوههن؟”، لكن سرعان ما تعكر مزاجه من جديد حين لاحظ الشيب قد غزى سالفيه ممتدا للأعلى، جمد أمام المرآة مجددا، إنتبه لشيىء غريب أعلى رأسه، بقعة صغيرة جرداء خالية من الشعر،أصابه الهلع، صلع في هذه السن المبكرة ! لكنه كان عند الحلاق منذ إسبوع ولم يقل له شيئا، لعن الله هذا الحلاق الثرثار لقد شاخ وإنحسر بصره ولم يعد يميز ما بين رأس الزبون ورأس الفجل،لا بد أن يستبدله ويجد حلاقا جديدا أكثر شبابا وإنتباها لزبائنه، إزداد إعتلال مزاجه، توجه إلى المطبخ ليعد قهوة الصباح لعلها تهدىء أعصابه المتوترة، لكن الأمر لم يجر كما شاء، الفوضى تعم المكان، صحون تتكدس فوق بعضها، تلتصق بها بقايا طعام متعفنة،آنية الطعام فوق الموقد مسودة من كثافة “الشحار” المتراكم عليها،الموقد لم يعد يظهر لونه الأصلي، دهون ملتصقة به ، صلصة متيبسة، تفل شاي،بقايا طعام محترقة.الطاولة مكتظة بالأوساخ، قشور البصل مختلطة مع قشور الموز المسودة ،إلى جانبها قطع من البطاطس المقلية واخرى كانت نتظر طهوها حتى علاها العفن والدود، ملاعق وشوك وسكاكين صدئة، متسخة، منثورة في كل مكان، قهوة متيبسة على الأرض،لا بد أنها إنسكبت منه منذ وقت طويل، ونسي كعادته ان ينظف مكانها، بحث عن “ركوة ” القهوة ،لم يجد اليها سبيلا،حتى فناجين القهوة لم يكن حالها بأحسن،معظمها مهشم، والبقية الباقية مليئة بالشحم والأوساخ، لقد بدا المنظر كأن زلزالا ضرب المكان، تذكر أنه لم ينظف المنزل منذ أشهر،رغم أن منزله ليس الا غرفة واحدة ومطبخا وحماما، وفي اخر طابق في العمارة، الطابق السادس، استأجره منذ أن قدم إلى دمشق للدراسة في الجامعة، وبقي فيه طوال هذه السنين دون أن يجدده أو حتى يحسنه بالدهان أو القيام بالتصليحات الضرورية، كان يعتقد أنه لن يمكث في هذا المنزل سوى سنوات دراسته فقط لكن هذه السنوات إمتدت وأصبحت العمر كله.
رجع للغرفة، نظر اليها جيدا،شعر بالإشمئزاز والقرف من نفسه، ومن المنزل، سرير حديدي صدىء، فرشة قديمة، ملاءات ومخدات مسودة ورائحتها مقززة، طاولة خشبية أكل الدهر عليها وشرب، ليس فوقها إلا منفضدة سجائر حديدية صدئة وأمامها كرسي خشبي مخلع الأرجل،شبابيك متسخة لا يسترها سوى صحف مصفرة، الصقت عليها دون ذوق أو ترتيب، جدران تقشر طلائها وتشققت، لمبة عارية ملتصقة بالسقف بسلك كهربائي التفت حوله خيوط عنكبوت، وذباب ميت،الباب إستحال لونه إلى الأصفرالصدء.
تنهد بأسى، لقد أمضى في المنزل كل هذه الأعوام دون أن يدرك مدى البؤس الذي آلت اليه الأمور، فهولا يعيش في منزل محترم، لعل” مكبا للنفايات” أحسن وصف له.لقد أمضى جل حياته دون صديقة او حبيبة، جميع من كان يتواعد معهم كانوا يهربون بجلدهم بعد أول زيارة لهذا الجحر الكريه، عليه أن يعيد حساباته من جديد ويجد إمرأة تساكنه، لكن من تلك التي ترتضيه مع هذه التجاعيد والشيب و”الأنكى” من هذا كله، تلك البقعة في أعلى رأسه،لم تكن تنقصه سوى هذه الصلعة اللعينة.
قرر مكرها الإستغناء عن شرب القهوة، والإكتفاء بتدخين سيجارة الصباح حين يتصفح الجريدة، اليوم سيبدل طريقة تصفحه،فهو منذ وقت طويل لم يقرأ الصفحة الأولى أو صفحات السياسة،حدق في العناوين مشمئزا “مبربرا” مع نفسه”ما زالوا يتقاتلون،لعنهم الله،متى يكفون عن هذا الجنون والقتل المجاني؟”،إزداد اشمئزازه،”هل كانوا وحوشا هكذا منذ البدء؟”.أمسك الصحيفة مجددا، لكنه فتح ليقرأ صفحته المفضلة:”الحوادث”،لفت إنتباهه عنوانا كبيرا في صدر الصفحة:”مجرم خطير فار من العدالة”،مرفق بصورة المجرم، في البدء لم يلتفت إلى الصورة،ما كان مكتوبا لم يتجاوز بضعة كلمات:”السلطات تبحث عن مجرم خطير متهم بجرائم عدة،من تتوفر لديه أية معلومات حول مكان اختبائه ،أو عن نشاطه ،عليه المبادرة إلى إبلاغ السلطات المختصة”، لكنه حين حدق في الصورة جيدا،أحس أنه يعرف صاحبها لكنه لم يستطع تذكر أين ومتى رآه،اللعنة،دون قهوة الصباح لا يقدر على تذكر شيىء،لعله بات خرفا،،وبات مقتنعا أن ذاكرته مثقوبة كالمصفاة.
هذا النص لا علاقة له بما انشره تحت عنوان شذرات من الذاكرة والتي ستأتي مقاطع لاحقة منه بعد حين.
هنا نص يقترب من الأدب لكنه لا يصنف تحت جنس محدد ليس رواية أو مذكرات او اوراق شخصية أو توثيق..محاولة لخلط أكثر من شكل في نص أدبي لن يتضح شكله النهائي إلا بعد كتابته، قد يستعير بعض الذاكرة هنا أو هناك . ما هنا ليإلا تمهيد اولي وبالتوازي مع نشر شذرات من الذاكرة.