مات عمود الصحافة الفلسطينية أو صاحب العمود الأشهر في الصحافة والذي أراد أن يبني به أعمدة لوطن مازال معلقاً على شجرة التاريخ الماكر، مات حفيد الصحافة الفلسطينية وواحد من أبواتها وهي التي لم تتعب، شاهراً قلمه في كل الساحات دون أن يسقط في أي من معاركها أو يصاب باليأس من وطأة راهن تغيرت كل عناوينه، لكن حسن البطل ظل أميناً لعنوانه الوحيد: فلسطين.

ما أصعب أن تكتب عن كاتب وصانع لغة مثل حسن البطل، وما أصعب أن ترثي زميلاً سكن اسمك إلى جوار عموده لسنوات، وعليك أن تدرك أن ذلك الزمن الجميل كتب سطره الأخير ووضع نقطته السوداء على عمود لن ينشر بعد، وأن “الأيام” ستصدر دون اسمه وعموده وقصته وطرائفه وتاريخه الراحل وهو ينتقل من عاصمة لأخرى متأبطاً ما يملك من زاد وعتاد .. قلب وقلم مثقل بالهزائم والتي كانت أكبر من نزيف القلم لتسبب نزيف القلب الذي كاد يقطر ألماً من عموده.

لم ألتقِ حسن البطل بفعل الجغرافيا والاحتلال، ولكني أعرفه حد العناق من عموده الراسخ كأغنية كانت تفتح كل صباحاتنا التي تهديها الجريدة العزيزة “الأيام” التي جمعتنا وظلت وفية في مرضه تغرف من الذاكرة ما تيسر من مقالات قديمة للفقيد تعيد نشرها كأنها تنتظر عودة بينيلوبية لكاتب أصبح جزءًا من هويتها منذ التأسيس.

كانت تتحسب لليتم أو لا تريد أن تختل تلك الصفحة الممهورة باسمه وتغيب صورته التي تتدلى منها سيجارة وقبعة كاتب كأنه قادم من زمن المثقفين الحقيقيين ومقاهي الثقافة.

أنا مدين لفقيدي ويكتب القلم بجرعة من الألم على رحيله منذ كتب عني مرتين هنا في “الأيام” كأب كان يدفع بابنه في خضم معركة الحياة، كان أسطولاً هائلاً من الدعم.

حينها طلبت رقم هاتفه لأشكره وكانت المفاجأة أنه فاقد لحاسة السمع وبقيت أترقب اللحظة التي أكتب عنه تكريماً لواجب، ولم أتصور أنني سأكتب راثياً ومودعاً هذا الزميل الكبير الذي استضافني إلى جانبه بكل الكرم ثم غادر بيت “الأيام” كعادة الكبار الذين يملؤون صفحات الجرائد صخباً وينسلون بهدوء معلنين رحيلاً أكثر صخباً من الحضور.

انتهت الرحلة الطويلة لمن غادر حيفا وظل يحمل وجع الحنين لكل التفاصيل المروية على مساحة ما سال من ذلك القلم منذ نصف قرن كانت تكفي لأن تجف المحيطات، وأن ترجع الديناصورات للأرض وأن يعود ليغسل قدمه في بحرها، لكن للزمن الساخر أقداره والتي حاول كاتبنا أن يعاندها معتقداً أن النزال مع فرسان التاريخ ليكتشف بمرارة أنه مع لصوصه الذين طردوه من هناك.

كتب كل شيء. كان يعانق الوطن كل صباح وهو يؤلف أغنيته الجميلة عن البئر والتنور ومعصرة الزيت والعنب والبيارة والساقية والبيت القديم والدجاجات والشوارع والمقاهي والأقبية وعتبات البيوت التي تطل على البحر والجبال وقصص العجائز خلف نار المدفأة وحكايات الصبايا اللواتي يملأن الجرار حباً وبراءة الأطفال ودهاء السياسة ومساحة الجغرافيا ومكر التاريخ ولغته عن رام الله وكل الوطن، كان يسأل عن غزة وتفاصيلها ويعيد صياغة الألم بلغته البسيطة المعقدة. كم كان مدهشاً؟.

في سورية درس حسن البطل الجغرافيا الجيولوجية، وهنا السؤال المفتوح عن علاقتها باحترافه الكتابة والثقافة.

وربما نجد الإجابة أن كاتبنا الكبير كان يبحث عن وطن على امتداد الجغرافيا، وربما لأنه فقد البيت والحي والمدينة أصيب بعقدة الجغرافيا التي طرد منها وأوغل أكثر في الجيولوجيا ليفتش في طبقات الأرض ما لم تعد الجغرافيا تحتمل وطنه ودولته التي حلم بها، من يدري؟

وهو محارب لم يكف عن القتال في كل معارك الوعي، فقد طبع بصمته وحضوره الدائم كمثقف من الذين قرأنا عنهم وقرأنا لهم أشد الكتابات وضوحاً وتأثيراً.

كان الصديق أحمد عودة في مكتبه بوكالة معاً يحدثني عن إدمانه اليومي على عمود حسن البطل، وكان صديقي الذي دخل المستشفى يجلس حزيناً على موت البطل وأن “أطراف النهار” اتشحت بالسواد ولن نراه بعد. هكذا قال لي وأنا أهاتفه لأطمئن عليه في ذروة مرضه أجابني: “اطمئن علي أنا بخير ولكنني حزين لفقدان حسن البطل “ليرسل من خلالي التعازي لجريدة “الأيام”.

نحن أمام رحيل مدو لرجل مدو، ومن جيل وضع حجر الأساس السياسي والثقافي وأعاد صياغة الهوية وصب أعمدة أساساتها. فقد كان للنكبة انهياراتها التي لم تتوقف وكان على جيل المثقفين أن يعيدوا هوية تبعثرت في كل الأماكن.

كان محمود درويش يسلم البطل الجائزة، وكان ياسر عرفات، كما قال لي ذات مرة حسن خضر، يسلح كتيبة المثقفين تماماً كما يتفقد مخازن الجيش. وقد نجح الأبطال شكراً حسن البطل.

أعرف أن هذا ليس موعدي بالنشر بالجريدة وليس موعد مقالي الثابت، ولكن صدمة الفقد أكبر من الانتظار، هناك شيء يدفعك للكتابة عن زميل ارتبط اسمك باسمه في لوحة الشرف على صدر صفحة المقالات في الجريدة التي أصيبت مثلنا باليتم بفقدان واحد من أكبر كتابها الذين لم يغيرهم الزمن. وفي هذا ما يتطلب قدرا من الوفاء لما تحمله الذاكرة من مقالات لراحلنا الكبير.

اليوم سقط فارس كبير من فرسان الثقافة وآبائها في إحدى معارك الوعي التي تشهد صراعاً لا يقل ضراوة عن معارك السلاح كان فيها حسن البطل شديد الجرأة والجسارة بما تحمله من خسارات ….ذهب ليروي لياسر عرفات قصتنا الطويلة وما حل بنا وما صنع بنا الإخوة الألداء ..والغرباء في رحلة التيه الطويلة

وداعاً حسن البطل..!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *