حروب إسرائيل على لبنان (1978-2024): قراءة مقارنة
مدخل
ثمّة سجل حافل من الحروب الإسرائيلية على لبنان، ومن الاجتياحات لحدوده الدولية والاعتداء على سيادته الوطنية، وذلك منذ توقيع اتفاق الهدنة اللبنانية/الإسرائيلية (23 آذار/مارس 1949)، وحتى يومنا هذا. ومن أبرزها: الغارة على مطار بيروت (1968)؛ عملية الليطاني (1978)؛ عملية “سلامة الجليل” (1982)؛ عملية “تصفية الحسابات” (1993)؛ عملية “عناقيد الغضب” (1996)؛ حرب تموز (2006)، وصولاً إلى طوفان الأقصى (2023- 2024).
سنقوم في هذه الورقة بقراءة مقارنة بين تلك الحروب، وفق مؤشرات قياس محددة، وبالتركيز على ما نعتقد أنه شكّل ويشكل محطات فارقة في ذلك السجل تركت بصماتها على خريطة الصراع مع إسرائيل وموقع لبنان منه. وعليه ستقتصر مقاربتنا على أربع محطات مفصلية هي: الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978؛ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982؛ حرب تموز عام 2006؛ والحرب على لبنان في سياق طوفان الأقصى.
وفي هذا الخصوص، تتبنى الورقة مقاربة منهجية مقارنة تعتمد خمسة معايير ومؤشرات قياس أساسية: ذرائع ودوافع الحرب وبيئتها الاستراتيجية؛ ميدان الحرب وحدوده الجغرافية؛ وضع المدنيين وقانون الحرب؛ الأمم المتحدة والدبلوماسية والمفاوضات المرافقة؛ الأبعاد الاستراتيجية للحرب على بنية الصراع وآفاقه المستقبلية (اليوم التالي). وسنعالجها بالقدر الذي تنطبق فيه تلك المعايير على هذه الحرب أو تلك. هذا عدا عن معايير ومؤشرات فرعية، مثل: حجم الخسائر، ومفهوم النصر والهزيمة، وغيرها.
عملية الليطاني (1978)
بعد أقل من عام من وصول حزب الليكود بزعامة مناحم بيغن إلى السلطة في أيار/مايو 1977، اجتاح الجيش الإسرائيلي فجر يوم 15/3/1978 الأراضي اللبنانية، وشارك في عملية الاجتياح قرابة 20 ألف من قواته. استمرت العملية سبعة أيام احتلت القوات الإسرائيلية خلالها قرابة 2020 كيلومتر مربع من الأراضي اللبنانية. وزعم رئيس الأركان الإسرائيلي، موردخاي غور، أن العملية جاءت انتقاماً لعملية قامت بها مجموعة فدائية فلسطينية (11/3/1978)، وصلت بحراً وهاجمت باصات على الطريق الساحلي، ونجم عنها مقتل 37 مدنياً إسرائيلياً. والمقصود هنا العملية التي نفذتها حركة “فتح”، بقيادة الشهيدة دلال المغربي. وكان هدف عملية الليطاني، حسب بيانات الجيش الإسرائيلي، “اجتثاث قواعد الإرهابيين”، والمقصود بذلك قواعد مقاتلي م. ت. ف. الموجودة في الجنوب. وأعلن رئيس الأركان الإسرائيلي، آنذاك، أن إسرائيل تنوي إقامة “حزام أمن” على طول الحدود اللبنانية بعمق 10 كيلومترات، لكن العمليات العسكرية تجاوزت هذا العمق لتشمل المنطقة الواقعة جنوبي نهر الليطاني كلها.
وكان من نتيجة هذا الاجتياح إبعاد قوات منظمة التحرير الفلسطينية جنوبي نهر الليطاني، وإعلان “دولة لبنان الحر”، بقيادة الرائد السابق في الجيش اللبناني سعد حداد، ثم اللواء المتقاعد في الجيش اللبناني أنطوان لحد، الذي تولى قيادة ما سمي “جيش لبنان الجنوبي”.
وكعادتها لم تحترم إسرائيل قواعد القانون الدولي الإنساني، الذي يوجب حماية المدنيين خلال الحروب، فارتكبت خلال هذه العملية ثلاث مجازر راح ضحيتها عدد من المدنيين في بلدات العباسية (81 ضحية) والخيام (31 ضحية) وكونين (29 ضحية). وكانت الحصيلة الإجمالية لهذا الاجتياح مقتل نحو 1168 شخصاً، حسب مصادر وزارة الإعلام اللبنانية، وأدت إلى تهجير 285,000 آخرين (220,000 لبناني و65,000 فلسطيني). أمّا عدد القتلى في صفوف العدو فبلغ 18 قتيلاً، حسب المصادر الإسرائيلية.[1]
وعلى صعيد التحرك الدبلوماسي، أصدر مجلس الأمن، في 19/3/1978، قراره الشهير رقم 425، بشأن الانسحاب من لبنان. لكن إسرائيل، كما هو معلوم، تمسكت برفضها تطبيق القرار المذكور، فأبقت على احتلالها للشريط الحدودي، بل أقدمت على توسيعه في حرب 1982، إلى أن أُجبرت على الانسحاب منه بالقوة في سنة 2000 على يد المقاومة، بقيادة حزب الله.
وفي المحصلة، مهدت هذه العملية للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي سعى العدو الصهيوني من خلاله لاستكمال أهداف عملية الليطاني، والذهاب أبعد من ذلك، إلى اجتثاث الوجود العسكري والسياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
عملية “سلامة الجليل” (1982)
لم تكن محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، شلومو أرغوف، يوم 3/6/1982، على يدي مجموعة “أبو نضال” المنشقة عن حركة “فتح”، سوى الذريعة التي استخدمتها إسرائيل لشنّ حربها الواسعة على لبنان في 6 حزيران/يونيو 1982. لكن، يمكن قراءة الدوافع الحقيقية للحرب من خلال قراءة البيئة الاستراتيجية للصراع في ذلك الوقت؛ فقد وفرت هذه البيئة حينها ظروفاً دولية وعربية ولبنانية مؤاتية للقيام بمثل هذه الحرب، أهمها: احتدام التنافس والمواجهة بين الإدارة الأميركية في عهد الرئيس ريغان وبين الاتحاد السوفياتي، على المستويين الإقليمي والدولي، في سياق الحرب الباردة، التي امتدت حتى أوائل التسعينيات؛ توقيع مصر اتفاقيات كامب ديفيد وتفتت حالة التضامن العربي، قياساً إلى فترة حرب تشرين 1973؛ أزمة الصواريخ بين سورية وإسرائيل؛ الانقسام الداخلي والتنافر الطائفي في لبنان في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها على مجمل الوضع اللبناني؛ المخاوف الإسرائيلية من تنامي قوة منظمة التحرير العسكرية ونفوذها السياسي في لبنان وعلى صعيد الإقليم.
وكان الهدف المعلن لهذه الحرب تدمير البنية التحتية العسكرية لمنظمة التحرير، ومنعها من استخدام الأراضي اللبنانية في شنّ هجمات على فلسطين المحتلة من خلال إقامة منطقة عازلة في جنوب لبنان تحت سيطرة الميليشيات اللبنانية المتحالفة. أمّا الأهداف المضمرة فكانت إعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني من خلال إقامة حكومة لبنانية موالية، وتوسيع النفوذ الجيوسياسي لإسرائيل في الشرق الأوسط من خلال تقليص النفوذ السوري في لبنان.
وقد تجاوز وزير الدفاع الإسرائيلي، حينها، أريئيل شارون الهدف المعلن لعملية “سلامة الجليل”، المتمثل في إبعاد قوات م. ت. ف. إلى ما بعد 40 كيلومتراً عن الحدود، فوصلت قواته إلى بيروت وحاصرتها قرابة ثلاثة أشهر، تحت قصف جوي وبحري متواصل، وقطع الماء والكهرباء والغذاء عن أهلها. أبدى سكان بيروت صموداً بطولياً أمام هذا الحصار القاسي، وتمكنت القوات المشتركة من صدّ تقدم القوات الإسرائيلية إلى قلب بيروت الغربية، فلم تتمكن من دخولها إلاّ بعد انسحاب آخر دفعة من قوات م. ت. ف. منها في 31/8/1982، وفق خطة الموفد الأميركي الرئاسي إلى لبنان فيليب حبيب وشروطه. وفي الوقت الذي كانت إسرائيل تحاصر فيه بيروت، كانت هناك بؤر مقاومة عنيفة في الخطوط الخلفية للجبهة، في المخيمات (الرشيدية والبرج الشمالي وعين الحلوة)، كما في الدامور وخلدة.
واجهت القوات الإسرائيلية مقاومة وطنية لبنانية فاعلة أجبرتها على الخروج من بيروت الغربية في أواخر أيلول/سبتمبر 1982. وتحت ضغط عمليات المقاومة التي غطت مناطق واسعة من لبنان، اتخذت إسرائيل قرارها بالانسحاب في 21/4/1985، وأنجزته في أوائل حزيران/ يونيو 1986، وبذلك تراجعت الأهداف الكبرى لعملية سلامة الجليل، لتنحصر في إنشاء الحزام الأمني بمساحة 850 كيلومتراً مربعاً (8% من مساحة الأراضي اللبنانية).[2]
ومن الجدير بالملاحظة هنا، تمايز الدبلوماسية الفرنسية، كما هو حاصل اليوم في الحرب الحالية، عن الدبلوماسية الأميركية خلال المفاوضات للتوصل إلى وقف تلك الحرب؛ فقد كانت فرنسا واحدة من قنوات التواصل غير المباشر بين منظمة التحرير والجانب الأميركي، ولعبت دوراً نشطاً في هذا الخصوص. وكان الجانب الأميركي يشكك دائماً في النوايا الفرنسية، ويعتبرها محاولات للتخفيف من “معضلة م. ت. ف.”. وفي هذا السياق بذلت فرنسا جهوداً دبلوماسية مضنية لتحسن شروط “فيليب حبيب” المتعلقة بخروج قوات المنظمة من بيروت، لكنها فشلت، إذ ظل حبيب متمسكاً بشروطه حتى النهاية، ولم يكن أمام منظمة التحرير سوى القبول بها.[3]
وفي المحصلة نجحت إسرائيل في إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الجنوب اللبناني، وانسحب ما تبقى من قوات منظمة التحرير إلى البقاع والشمال. وبهذا تمكنت من إخراج م. ت. ف. من المعادلة السياسية اللبنانية، وإيصال بشير الجميل إلى سدّة الرئاسة اللبنانية، وفرضت على الحكومة اللبنانية توقيع اتفاق 17 أيار/ مايو، الذي ألغاه مجلس الوزراء اللبناني لاحقاً في جلسته المنعقدة في 5 آذار/مارس 1984 برئاسة رئيس الجمهورية. وتسارعت الأحداث، فاغتيل بشير الجميّل، وانسحبت القوات المتعددة الجنسية من لبنان قبل أن تفي بالتزاماتها في حماية أمن الفلسطينيين المدنيين في المخيمات، حسب اتفاق حبيب، وهذا ما سهّل ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا على يد الميليشيات اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل، بمباركة وتخطيط إسرائيليَّين.
كان ثمن الحرب باهظاً على لبنان، وعلى إسرائيل أيضاً، التي عانت من مأزق سياسي جرّاءها. وكان قادة الحرب أول ضحاياه (اعتكاف واعتزال رئيس الحكومة مناحم بيغن، وإجبار وزير الدفاع شارون على الاستقالة بعد إدانته من هيئة قضائية، واعتزال رئيس الأركان رفائيل إيتان).
لا شك في أن الصمود الأسطوري لأهالي بيروت، وبسالة القوات المشتركة لـ م. ت. ف. والحركة الوطنية اللبنانية في وجه الحصار الإسرائيلي القاسي، كان انجازاً مشرفاً. وفي المحصلة خرج المقاتلون الفلسطينيون بلباسهم العسكري وبأسلحتهم الفردية، وكان ياسر عرفات، طوال فترة المفاوضات، حريصاً على الفوز بهذه الصورة الرمزية؛ صورة المقاتل الذي ينتقل من خندق قتال إلى آخر. لكن هذا لا ينفي الحقيقة المرة أن منظمة التحرير مُنيت بهزيمة حاسمة في هذه الحرب، على الرغم من أن كثيرين من قادتها، كما يقول رشيد الخالدي، حاولوا بعد ذلك التمسك بسردية ” انتصار في الهزيمة”،[4] بغية التخفيف من وطأتها.
وكان الانتصار الذي حققته إسرائيل في لبنان سنة 1982 باهظ الثمن في نظر أغلبية النخب الإسرائيلية السياسية والعسكرية والأمنية، كما كشفت عنه نقاشات اليوم التالي للحرب. وفي هذا الصدد أودّ استعارة مفهوم “النصر البيروسي” Pyrrhic victory، أو Pyrrhus (بالفرنسية)، في توصيف طبيعة هذا الانتصار، بوصفه نصراً بطعم الهزيمة.[5]
حرب تموز (2006)
بعد عملية سلامة الجليل شنّت إسرائيل حربين على لبنان في العامين 1993 و1996، توصل فيهما حزب الله مع إسرائيل، عبر المفاوضات غير المباشرة، إلى تفاهمين: تفاهم تموز/ يوليو 1993 وتفاهم نيسان/ أبريل 1996.ولا يختلف هذان التفاهمان في الجوهر، فهما ينظّمان قواعد الاشتباك على الجبهة الحدودية، فيما يتعلق باستهداف المدنيين. ولم تتوقف عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، الذي بدأ مع اجتياح سنة 1978 وتوسع في اجتياح 1982، إلى أن أجبرت المقاومة إسرائيل على إنهاء احتلالها لمعظم المناطق في أيار/مايو 2000، وكانت تلك المرة الأولى التي تنسحب فيها إسرائيل من أرض عربية محتلة من دون مفاوضات ومقايضة، وعن طريق القوة.
استمرت عمليات المقاومة بعد التحرير، وتمكن مقاتلو حزب الله في 12/7/2006 من أسر جنديين إسرائيليين، وقتل ثلاثة جنود، وجرح اثنين آخرين. وعلى الإثر عبرت قوات إسرائيلية الحدود إلى داخل لبنان بعد ساعتين من عملية الاختطاف، فقُتل 6 جنود إسرائيليين، وفشلت في استعادة الجنديين المختطَفَين، وهو الهدف المعلن للحرب.
وفي الإثر، بدأت إسرائيل حرباً جوية واسعة النطاق ضد حزب الله استهدفت قيادته، وموارده العسكرية، وقاعدته الاجتماعية، مع ضربات لأهداف لبنانية تتعلق بالبنية التحتية للبلد، من أجل الضغط على الحكومة اللبنانية، وفرضت حصاراً جوياً، باستهدافها مطار بيروت الدولي. وردّ حزب الله بإطلاق عشرات الصواريخ على شمال إسرائيل، وصولاً إلى حيفا، واستهدف في 14/7 بارجة حربية إسرائيلية، قبالة الساحل اللبناني.
خلص القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون إلى أن القوة الجوية وحدها قد فشلت في ضرب منصات إطلاق صواريخ حزب الله، وفي شل قدرته على القيادة والسيطرة، فحاولت القوات الإسرائيلية التوغل البري بشكل واسع في مارون الراس وبنت جبيل وفشلت، ووقعت دبابات الميركافا المتقدمة في وادي الحجير، بهدف الوصول إلى الليطاني، فيما سُمّي ” مقبرة الدبابات”، ما أجبر القوات الإسرائيلية على طلب وقف إطلاق النار، بعد أن ماطلت في ذلك خلال الفترة السابقة.[6]
كعادتها، لم تلتزم إسرائيل، بقواعد قانون الحرب، الذي يستوجب حماية المدنيين، فارتكبت أكثر من مجزرة بحق المدنيين، وقتلت أكثر من 1200 مدني (ثلثهم أطفال)، بالإضافة إلى بضع مئات من مقاتلي حزب الله. وحسب المصادر الإسرائيلية، قُتل 43 مدنياً و117 جندياً.[7]
وفي إطار الجهود الدبلوماسية الدولية لوقف الحرب، وافق لبنان، كما وافقت إسرائيل، على قرار مجلس الأمن الشهير رقم 1701 الذي تبناه مجلس الأمن بالإجماع في 11/8/2006، والذي دعا إلى وقف أعمال القتال، وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية.
وكان العنوان الأبرز لحرب 2006 الإخفاق الاستخباراتي الإسرائيلي، بسبب استخفاف إسرائيل بقدرات حزب الله، بل وجهلها بها، الأمر الذي كلفها أثماناً باهظة في الميدان. وهذا ما استدعى تعيين لجنة للتحقيق في أداء السياسيين والقادة العسكريين الإسرائيليين خلال الحرب، سميت لجنة ” فينوغراد”. وفي تقريرها الصادر يوم 30/4/2007 وصفت قرار رئيس الوزراء إيهود أولمرت بشنّ الحرب بأنه ” قرار خاطئ ومتسرّع”. كما انتقد التقرير أداء وزير الدفاع عمير بيرتس لعدم استيعابه “المبادئ الأساسية لاستخدام القوة العسكرية من أجل تحقيق أهداف سياسية”، واتهم رئيس الأركان دان حالوتس بالتهور في سعيه لتوجيه “ضربة عسكرية مكثفة فورية.”[8]
ويبدو أن المغزى الأهم لتقرير اللجنة، أن إسرائيل نجحت في استخلاص الدروس والعبر من فشلها الاستخباراتي في تلك الحرب، فعملت، منذ ذلك الحين على تجاوزه، لتحقيق تفوّق استخباراتي، مكنها من توجيه ضربات متتالية ومؤلمة لحزب الله خلال الحرب الحالية.
حرب الطوفان (الجبهة اللبنانية/ 2023-2024)
القراءة الموضوعية لوقائع الجبهة، التي فتحها حزب الله في 8/10/2023 في مواجهة إسرائيل، تستوجب وضعها في البيئة الاستراتيجية الإقليمية الأوسع لعملية الطوفان، التي بدأتها حركة “حماس” في غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه. فهذه العملية، وبغض النظر عمّا إذا كان قرار “حماس” بشنّها منسقاً مع بقية أطراف محور المقاومة أم لا، استدعت تدخل عدة جبهات من هذا المحور في العراق واليمن ولبنان بأشكال ودرجات متفاوتة، كما أدت إلى انخراط إيران فيها بشكل غير مباشر، عبر دعم تلك الجبهات، وبشكل مباشر، عبر الردود والردود المضادة على استهداف إسرائيل للأراضي الإيرانية والمصالح الإيرانية في الإقليم. وهذا ما يجعل هذه الحرب مرشحة، في أي لحظة، إلى أن تتحول إلى حرب إقليمية واسعة.
في هذا السياق المحدد، أعلن حزب الله جبهة لبنان “جبهة إسناد ومساندة ” لجبهة غزة، تجسيداً لمفهوم “وحدة الساحات”، الذي يتبناه محور المقاومة. بيد أن جبهة الإسناد هذه، شهدت تحولات دراماتيكية وعميقة منذ العام الماضي، فمرّت بعدة مراحل عنيفة حوّلتها منذ إطلاق عملية “سهام الشمال” في 23/9/2024، وإعلان بدء عملية برية “محدودة ومحددة الأهداف ” ضد أهداف حزب الله القريبة من الحدود الجنوبية في بداية أكتوبر/تشرين 2024، من جبهة مشاغلة للعدو تلتزم إلى حدّ كبير بقواعد الاشتباك المعمول بها منذ ما بعد حرب تموز 2006- مع خروج محسوب عن تلك القواعد في بعض الحالات وفقاً لمتطلبات الميدان، وخصوصاً فيما يتعلق بنوعية الأسلحة والعمق الجغرافي للهجمات – إلى جبهة مواجهة وحرب حقيقية مع العدو، بعد أن أدرجت إسرائيل هدف إعادة المستوطنين إلى مستوطناتهم، التي هُجّروا منها، ضمن أهداف الحرب. وبذلك تحولت جبهة لبنان إلى جبهة رئيسية لإسرائيل، فيما أصبحت جبهة غزة جبهة ثانوية بعد أكثر من عام من أعمال الإبادة الجماعية. وفي أول خطاب له كأمين عام لحزب الله (30/10/2024)، أطلق الشيخ نعيم قاسم اسم “أولي البأس” على جولة الحرب الحالية مع إسرائيل.
اتسمت هذه الحرب بمجموعة من الخصاص التي ميزتها عن كل حروب إسرائيل السابقة على لبنان؛ فما هي أبرز تلك التحولات والخصائص؟ تطبيق “عقيدة الضاحية”[9] بحدودها القصوى على التجمعات السكانية في الجنوب والضاحية والبقاع؛ التحلل الكامل من كل قواعد القانون الدولي الإنساني من خلال استهداف المنظومة الصحية والمرافق المدنية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية (القرض الحسن) والصحافيين؛ التوظيف الناجح لتكنولوجيا الرصد والتعقب وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في حرب سيبرانية غير مسبوقة على حزب الله (تفجير أجهزة “البيجر” والاتصال اللاسلكي في يومين متتالين، 17 و18/9، وضرب جزء مهمّ من شبكة اتصال الحزب ومنظومة القيادة والسيطرة والاتصال التي تحرّك عملياته، وصولاً إلى استهداف قيادات وكوادر حزب الله العليا، كالأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، ورئيس أركانه فؤاد شكر).
وبعد مرور أكثر من شهر على بدء العملية البرية، يبدي حزب الله أداءً متميزاً وفاعلاً يؤشر إلى أنه استعاد توازنه وقدرته على التحكم والسيطرة وإدارة الميدان، وذلك من خلال الخسائر اليومية المرتفعة التي يوقعها في صفوف القوات الغازية، ومنعها من التقدم في عمق الأراضي اللبنانية، بل وإيلام العدو في العمق، إلى حدّ وصول مسيّرات الحزب إلى غرفة نوم نتنياهو. ويبدو أن الجيش الإسرائيلي قد تورط في حرب استنزاف على جبهة الجنوب مع حزب الله، وأن هناك بوادر تصدّع في الإجماع الإسرائيلي على استمرارها، ذلك بأنها لم تحقق هدفها المعلن، ولم تحرز تقدماً استراتيجياً داخل الأراضي اللبنانية، على الرغم من تدميرها شبه الكامل لعدد من القرى الجنوبية.
وفي إثر إفشال نتنياهو للجهود الدبلوماسية الرامية إلى وقف الحرب، وفقاً للبيان الأميركي الفرنسي الصادر في 26/9/2024، من خلال إقدامه على اغتيال السيد نصر الله في اليوم التالي، لا تزال الجهود الدبلوماسية الدولية لوقف إطلاق النار تدور حول تفعيل البيان المذكور، وبالتالي تطبيق القرار 1701. وفي الوقت الذي تطالب الحكومة اللبنانية تطبيق القرار بحذافيره، من دون زيادة أو نقصان، تسعى الإدارة الأميركية، من خلال مبعوثها الخاص عاموس هوكشتاين، للالتفاف على مضمونه من خلال اقتراح آليات إضافية لتطبيقه، بما يؤدي إلى دمج أهداف القرارين 1701 و1559.
وفي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى تجاوز سقف القرار 1701، وفرض شروط وإملاءات جديدة لتطبيقه، انطلاقاً مما حققته من إنجازات في الميدان، ترفض الحكومة اللبنانية تقديم أي تعهدات أو التزامات مسبقة بخصوص تطبيق القرار، كما يرفض حزب الله التفاوض تحت النار، ويطالب بوقف الحرب أولاً. ولا يزال المسار الدبلوماسي مفتوحاً، مع تمايز الموقف الفرنسي، في هذا الخصوص، عن الموقف الأميركي.
بلغت حصيلة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، حتى 2/11/2024، 2968 شهيداً و13,319 جريحاً. وفي هذا الخصوص يمكن الرجوع إلى التقارير الدورية التي تصدرها رئاسة الحكومة اللبنانية، بالتعاون مع وحدة إدارة المخاطر والكوارث في وزارة الدفاع، بخصوص تفاصيل أعداد الشهداء والجرحى وحركة النزوح، وغيرها.[10]
أمّا فيما يتعلق بالخسائر على الجانب الإسرائيلي، فلا يمكننا الثقة بالأرقام والتقديرات الإسرائيلية للخسائر في أرواح المدنيين والجنود والعتاد والاقتصاد، التي تخضع لرقابة مشددة، لكنها ستتكشّف على حقيقتها في فترة ما بعد الحرب.
خلاصات
1- في عمليتي الليطاني وسلامة الجليل، واجه الجيش الإسرائيلي قوات م. ت. ف. والحركة الوطنية اللبنانية، وفي حرب 2006 واجه قوات حزب الله، كما هو الحال في الحرب الحالية. وعلى الرغم من اختلاف هوية الطرف المواجه لإسرائيل في حروبها على لبنان، فإنه ينبغي النظر إليها كاستمرارية، كسلسلة متصلة أو متوالية continuum)). فعلى سبيل المثال كان نشوء حزب الله وصعوده من النتائج المباشرة للغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ومن تداعيات اليوم التالي لتلك الحرب. وأبعد من ذلك، ورث حزب الله كل الخبرات القتالية التي راكمتها تجربة المقاومة الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية في مواجهة إسرائيل، إن كان على صعيد الكادر البشري، أم على الصعد الأُخرى ذات الصلة، كما تمكنت إسرائيل في هذه الحرب من تجاوز فشلها الاستخباراتي في حرب 2006.
2- مقاربة نتنياهو في التعامل مع إدارة بايدن، خلال طوفان الأقصى على جبهتي غزة ولبنان، والمتمثلة في ابتزازها وتطويعها لخدمة الأهداف الإسرائيلية، ليست من دون أساس أو جذور في الحروب الإسرائيلية السابقة، وخصوصاً في حرب 1982، التي كشفت عن السلوك المتغطرس لأعضاء الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً شارون، في التعامل مع نظرائهم الأميركيين. ففي أحد لقاءاته مع المبعوث الأميركي الخاص، موريس درابر (17/9/1982)، صارحه الأخير باستياء الإدارة الأميركية جراء رفض اسرائيل الموافقة على المطلب الأميركي بانسحاب قواتها من بيروت الغربية، وكان ردّ شارون فظاً إلى حدّ مهين: “عندما يتعلق الأمر بأمننا لم يسبق لنا أن سألنا، ولن نسأل أبداً. عندما يتعلق الأمر بالوجود والأمن، فإنها مسؤوليتنا ولن نتخلى عنها لأحد ليقرر نيابة عنا.”[11]
ومن الجدير ذكره أن نتنياهو، الدبلوماسي الشاب، آنذاك، كان ممن يحضرون بعض الاجتماعات مع الجانب الأميركي. وفي هذا الصدد يقول الخالدي: “إذا كان توبيخ نتنياهو للرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الكاميرات في البيت الأبيض في سنة 2011 ذا دلالة ما، فإنه على ما يبدو يؤشر إلى أن نتنياهو تعلم جيداً من أساتذته في الليكود إحدى خصائص الشخصية الإسرائيلية، كما بدت في سنة 1982.”[12] وهذا ما نشهده اليوم في السلوك المتغطرس والمخادع لنتنياهو في تعامله مع بايدن وفريق إدارته، طوال فترة الطوفان.
3- يبدو واضحاً للعيان أن إسرائيل في كل حروبها مع لبنان، وحروبها الأُخرى مع العرب، تسعى من خلال المفاوضات إلى تحقيق أهداف قد تكون عجزت عن تحقيقها من خلال الحرب، فتتصرف دوماً على أنها الطرف المنتصر الذي يملي شروطه على الطرف الآخر، حتى وإن تعثرت في تحقيق بعض من أهدافها. فهي تذهب إلى المفاوضات انطلاقاً من مقولة “الجيش الذي لا يقهر”، واعتماداً على احتياطي قوة الردع الذي لم تستنفده في الحرب. وينطبق هذا الأمر على الحرب الحالية مع لبنان، إذ تسعى إلى فرض شروط الاستسلام على لبنان، في الذهاب إلى ما هو أبعد من تطبيق القرار 1701، وقبل أن تستقر موازين القوى بشكلها النهائي.
4- حرب إسرائيل الحالية على لبنان هي أطول الحروب، حتى لو بدأنا العدّ من تاريخ إطلاق عملية سهام الشمال (23/9/2024)، وأغفلنا الفترة السابقة “جبهة الإسناد”، وهي مرشحة لأن تطول أكثر، لأن نتنياهو، كما يبدو، لن يلتزم بأي مسار دبلوماسي قبل إجراء الانتخابات الأميركية، واتضاح من سيكون ساكن البيت الأبيض. وقد أسقطت هذه الحرب مقولات تعاملنا معها في الحروب السابقة بوصفها مسلّمات، منها أن إسرائيل، جيشاً وجبهة داخلية، لا تستطيع تحمّل أعباء حرب طويلة عليها، كما لا تقوى على تحمّل خسائر كبيرة في أرواح جنودها ومستوطنيها، وبأنها تقدم التنازلات المؤلمة من أجل الحفاظ على أرواح أسراها واسترجاعهم.
5- إسرائيل في حربها الحالية، ليست هي نفسها في الحروب السابقة، وعلى كل المستويات: أيديولوجياً؛ منذ صعود الليكود إلى السلطة (1977) انزاحت إسرائيل نحو اليمين المتطرف، وبلغت ذروة هذا الانزياح قبيل طوفان الأقصى، في صعود الصهيونية الدينية التوراتية إلى سدة الحكم في إسرائيل، وهي التي تمتلك زمام الأمور وتقود الحرب اليوم، عبر نتنياهو. وينطبق هذا الانزياح أيضاً على مجتمع المستوطنين نفسه، الذي يقف وراء أهداف الحرب الكبرى. سياسياً؛ تمكّن نتنياهو من قلب معادلة “جيش له دولة” إلى معادلة “دولة لها جيش”، من خلال إعادة سيطرة المستوى السياسي على القرار في إسرائيل، وإضعاف دور مؤسسة الجيش والمؤسسة الأمنية، اللتين كان لهما القول الفصل في الحروب السابقة بشأن القرار السياسي المتعلق بشنّ الحرب، أو وقفها. ميدانياً؛ هذه الحرب، على جبهة لبنان، كما على جبهة غزة، غير مسبوقة في الاستخدام المفرط للقوة وفائض القوة ضد المدنيين، وفي وحشيتها، ودمويّتها، وتحللها من كل قواعد الحرب والقيم الإنسانية، على قاعدة أن ما لم يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة. لقد انحدر نتنياهو ورموز الصهيونية الدينية في هذه الحرب إلى درك التوحش، وهبطوا إلى أسفل درجات سلم الآدمية.
6- يظل مفهوم النصر ومفهوم الهزيمة موضوع جدل في الحروب، وعادة ما يربط المحللون هذا المفهوم بحجم الخسائر التي يتكبدها طرفا الصراع. لكن البعض الآخر يضعها في إطار جيوسياسي واستراتيجي أوسع، فالهزيمة في نظرهم أن تكسر إرادة الطرف الآخر، حتى يقتنع أنه مهزوم. وفي هذا السياق يتحدث السفير الأميركي السابق، رايان كروكر، في مقابلة مع مجلة politico عن مفهوم النصر والهزيمة، فيقول: “لقد تعلمت شيئاً واحداً على مرّ السنين، وخصوصاً في العراق وأفغانستان، وهو أن مفهوم هزيمة الخصم لا معنى له، إلاّ في ذهن الخصم، فإذا شعر الخصم بالهزيمة فقد هُزم، وإذا لم يشعر كذلك، فلن يُهزم.” ويشكك كروكر، في أن اغتيال حسن نصر الله أو يحيى السنوار سيجعل الخصم (“حزب الله” و”حماس”) يشعر بالهزيمة، ويقول إن الوقت كفيل بأن ينبئنا بذلك.[13]
ومن جهة أُخرى هناك من يجادل في اختلاف هذا المفهوم في الحروب الكلاسيكية بين الدول عن الحروب التي تخوضها حركات التحرر الوطني وحركات المقاومة، فليس من الحتمي أن تتنصر حركة المقاومة في جولة بعينها، وإن كانت كلفتها باهظة، بل الأهم هو ألاّ تنكسر إرادتها أمام المستعمر، فتستمر في المقاومة إلى حين دحره.
وبالعودة إلى مفهوم النصر والهزيمة، لدى كروكر، نقول إن هذه الحرب لم تنته بعد، ومن المبكر الحديث، على المستوى الاستراتيجي، عمّن هو المهزوم أو المنتصر فيها؟ وهي، على أية حال، لن تكون آخر الحروب للكيان الصهيوني والمراكز الإمبريالية الداعمة له في الغرب، لكنها تشكل علامة فارقة في تاريخ الحروب الإسرائيلية/العربية، سيكون لها تداعيات بالغة وعميقة على مجرى الصراع العربي – الصهيوني، ومصير الكيان الصهيوني الاستيطاني في المنطقة.
[1] لمزيد من التفاصيل عن عملية الليطاني، انظر:
محمود سويد، “الجنوب اللبناني في مواجهة إسرائيل” (بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998)، ص 13-15.
[2] المصدر نفسه، ص 20-21.
[3] للاطلاع على تفاصيل الدور الفرنسي، انظر:
رشيد الخالدي، “تحت الحصار: صناعة القرار في منظمة التحرير الفلسطينية خلال حرب 1982” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018)، ص 193-205.
[4] المصدر نفسه، ص 9.
[5] النصر البيروسي مصطلح عسكري مشتق من اسم بيروس ملك أبيروس اليوناني، الذي خاض حرباً طاحنة وباهظة الثمن ضد الرومان في الفترة 280-275 قبل الميلاد، وانتصر فيها. ويرمز هذا المصطلح إلى الانتصار، مع تكبد خسائر كبيرة تجعله يرقى إلى مرتبة الهزيمة.
[6] لمزيد من التفاصيل عن حرب تموز 2006، انظر:
الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية (موسوعة إلكترونية).
[7] المصدر نفسه.
[8] المصدر نفسه
[9] عقيدة الضاحية، هي استراتيجية عسكرية إسرائيلية للردع تستخدم القوة المفرطة في قتل المدنيين والتدمير الكامل للبنية التحتية المدنية، بهدف الضغط على الحكومات أو الجماعات المعادية، من أجل قلب ميزان القوى في الحرب لصالحها. وقد استخدمها الجيش الإسرائيلي على نطاق واسع لأول مرة خلال حرب تموز/ يوليو 2006، إلاّ إنها ليست وليدة تلك الحرب، بل تطورت خلال حروب إسرائيل المتعاقبة، منذ حرب 1948.
[11] رشيد الخالدي، مصدر سبق ذكره، ص 15.
[12] رشيد الخالدي، مصدر سبق ذكره، ص 19.
[13]Michael Hirsh, “‘They’ve Forgotten Their Own Recent History’: Why Israel Won’t Move Toward Peace: Former U.S. Ambassador Ryan Crocker says what he most fears is Israeli overconfidence following the death of Hamas leader Yahya Sinwar,” Politico, 18/10/2024.
1
عن المؤلف:
جابر سليمان: باحث فلسطيني، عمل سابقاً في مركزي التخطيط والأبحاث التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية، مختص بدراسات اللاجئين والهجرة القسريّة (مركز دراسات اللاجئين/ أكسفورد) وناشط في المجتمع الأهلي وحق العودة، وعضو مؤسس في مركز حقوق اللاجئين “عائدون”.
عن أوراق سياسات- مؤسسة الدراسات الفلسطينية