حركة الاحتجاج الإسرائيليّة وإعادة مجتمعنا إلى السياسة
أعادت حركة الاحتجاج الإسرائيلية الحالية الآخذة في الاتساع والتصعيد، تسليط الضوء على واقع أزمة المجتمع الفلسطيني، داخل “الخط الأخضر”، وعلى الغياب الفاضح للفعل الشعبي وكيفية التفاعل مع المستجدات الخطيرة التي تهددنا. بل كذلك أعادت كشف غياب الرؤية الواضحة المطلوبة للخروج من الأزمة التي تمتد إلى سنوات طويلة، وتعززت بعد تدمير “القائمة المشتركة” وقيمة العمل المشترك، على أيدي سياسيين نرجسيين، وفاقدين لعامود فقري عقائدي.
هي طبعا، أزمةٌ تجتمع عوامل عدة في تشكلها وتوليدها لأزمات متفرعة كفقدان قيمة العمل الجماعي، والتفكير الجماعي، وأخلاقية العمل السياسي. أزمة أنتجها الاستعمار المتجدد والمستجيب لديناميات مشروعه الإجرامي بوتيرة متسارعة ومرعبة، وحاجته لمزيد من الأرض والتوسع والهدم، في كل فلسطين التاريخية، وما يتطبه ذلك من قمع وإضعاف لمجتمعنا، وتشتيت صفوفنا، واحتواء وتدجين قوى وقيادات سياسية واجتماعية، وشلّ فاعليتها القيادية، والتعبوية. لقد نجح المستعمر بسياساته المباشرة الفظة، والناعمة، في عزل الناس عن السياسة، عن العمل الشعبي المنظم المستمر، بعد أن نجح في إعادة هندسة قيادات، منها ترى نفسها جزءا من المعسكر الليبرالي الصهيوني، مركز أو يمين، وجزءٌ آخر، اصطف داخل تحالف صهيوني يميني هزم انتخابيا، يسعى حاليا عبر اللجوء للشارع باستعادة حكمه، بهدف الحفاظ على هوية إسرائيل الأصلية؛ يهودية ديمقراطية، ومواصلة المشروع الاستعماري الإحلالي بأقل ضجيج. أما الجزء الثالث، فهو يتشكل من عموم الناس، الذين أثبتتوا خلال هبة الكرامة، أيار/ مايو 2021، ومن خلال الالتفاف حول الحركة الوطنية، بقيادة سامي أبو شحادة، وحلفائها، أنهم جزءٌ حيّ من شعب مصر على البقاء والصمود، والحياة، وأنّهم ينتظرون ويتطلعون لتشكّل مظلةٍ وطنية جامعة، تعززها وتسندها، رؤية تحررية جامعة، تجمعهم مع شعبهم ومع مصيره، فى وطنه التاريخي.
يدخل نظام المجتمع الاستيطاني الصهيوني، في مرحلة جديدة من أزمته الداخلية، ويجمع الخبراء بأنها أزمة جدية، وواحدة من أشد الأزمات التي شهدها نظام الفصل العنصري الاستعماري في فلسطين. ولأول مرّة يتحدث محللون إسرائيليون عن إمكانية حرب أهلية وسفك دماء. وبغض النظر عن كون ذلك احتمالا بعيد التحقق، فإن استمرار وتصاعد حركة المظاهرات، والدعوات، للتصعيد كالعصيان المدني، على لسان قادة المعارضة، ومنهم رؤساء حكومة سابقين، من الليكود والعمل، مثل إيهود أولمات، وإيهود باراك، يؤشر إلى فرادة وخطورة هذا الحدث في تاريخ هذا الكيان، ويثير السؤال الكبير حول تداعياته ليس فقط بالنسبة لإسرائيل نفسها، بل أيضا بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، داخل الخط الأخضر، وعموم شعبنا في كل مكان.
غير أنه وبسبب خصوصية موقع هذا الجزء من مجتمعنا، وعيشه تحت المواطنة الإسرائيلية، انشغلت نخبه منذ أسابيع بسؤال حول كيفية التفاعل مع حركة الاحتجاج، هذه الحركة التي تتحرك تحت يافطة صهيونية إقصائية، بامتياز، أي هل يجب المشاركة فيها أم بناء حراك مستقل؟ ولكن حتى الآن، لم يتمخض هذا التداول في الإعلام عن رؤية، أو إستراتيجية، نظرية أو عملية جامعة، سوى أن غالبية النخب الفلسطينية، داخل منطقة 48، اتفقت، ودون تشاور جماعي، أو بيان، حول عدم جدوى المشاركة، بل حول ضررها البالغ.
طرحنا رأينا في مقال سابق، ما كنا طرحناه، وما طرحه آخرون، عقب حركة الاحتجاج الإسرائيلية عام 2011، أي تشكيل حراك فلسطيني، مستقل، وفيه يهود تقدميون، في القرى والبلدات العربية الفلسطينية، يحمل همنا الوطني الجماعي، واليومي. ولكن حتى الآن، وقد مرّ أكثر من شهر ونصف، لم تظهر مبادرة وطنية قطرية للتفاعل مع هذه الأفكار. هناك مبادرات واجتهادات متواضعة، وغير جامعة، ظهرت موخرا، ولكنها لم تحدِث تأثيرا في الرأي العام.
إذن، ما العمل؟ المؤسف أن الساحة ليست خالية من الفعل الشعبي، فحسب، بل إنها خالية من أي نقاش حقيقي ومنظم أيضا، فالناس، أو غالبية النشطاء والمتابعين، يكتفون بالمراقبة، وبالتمني بأن تشتد أزمة من يقمعهم ويدوس حقوقهم، علّ ذلك يُخفف عنهم عبء القهر، ومرارة الحياة.
وفي هذه الحالة الراكدة، نسأل أنفسنا، وكلنا نتحمل المسؤولية، أليس ممكنا خلق حالة نقاش عامة، تتفاعل مع ما يحصل، من خلال تنادي النخب والنشطاء، والأطُر الأهلية، والمدنية، والملتقيات الأدبية، والثقافية، لعقد حلقات نقاش في كل مدينة وقرية، يتحدث فيها خبراء، ومحللون، وصحافيون، ونشطاء، ومثقفون ملتزمون. يمكن لهذه الحلقات أن تبدأ بعدد محدود، ومع المثابرة، تبدأ بالاتساع، وربما التحول إلى حراكات شعبية، تنتقل في مرحلة معينة إلى التشبيك.
ومن شروط نجاح هذه المبادرات، وأولها النجاح في تحفيز الناس، وتحديدا الأكثر نشاطا وتفاعلا مع الهم العام، وفي الخروج من حالة السلبية، ضرورة ربط كل ما يجري بهمومهم اليومية، وبمصير حياة أسَرهم، والخطر الذي يتهددهم جراء هذه الحكومة الفاشية، الذي هو استمرار وتصعيد جديد لسياسات الحكومة السابقة الإجرامية.
لا شك في أن إطلاق مبادرات من هذا النوع يحتاج إلى افكار جديدة، وجذابة، لكيفية إعادة تفعيل الأوساط الأكثر وعيا، والقدرة على الحراك. ولدى شعبنا، خبرات مهمة، خاصة لدى الجيل الجديد.
إنها فرصة حقيقية لإعادة إشعال التداول السياسي والثقافي كمحطة نحو إحياء الفعل الشعبي، وإعادة الناس إلى السياسة، والتأثير، من خلال مبادرات تأتي من تحت وليس من فوق.
عن عرب 48