حرب غزة بين انتصار مرتجى ونكبة جديدة
بعد عشرة ايام من الحرب في غزة، بات يمكن طرح بعض الاستنتاجات، بناء على التداعيات الحاصلة في واقع الفلسطينيين، وبعيدا عن العواطف والشعارات، التي قد تفيد في الأوقات العادية، لكنها لا تضيف شيئا في أوقات الحرب.
وحدة الساحات
هذه الأطروحة المرتجاة تبدو كشعار دعائي لم تثبت صدقيته، لا في الأيام الأولى للحرب، في ظل الإرباك الإسرائيلي الحاصل، الذي وفر فرصة سانحة لها، ولا بعد كل هذا الدمار في غزة. في الواقع فإن هذا الشعار يسري كوهم، إذ لم يتحقق، ولو جزئيا، إبان حروب إسرائيل المتوالية على غزة، ولا أثناء انتهاكاتها للمسجد الأقصى. فـ”حزب الله” مثلا هو رصيد لإيران، فقط، تستخدمه حيث توافق، كما حصل في سوريا، في قتل السوريين دفاعا عن نظام الأسد، أو في حال شعورها بخطر يتهددها مباشرة، علما أن قوات “حزب الله” وميليشيات إيران تقاتل في سوريا لكنها لا ترد على ضربات إسرائيل المتوالية لها، بحجة الرد في المكان والزمان المناسبين.
AFPعمال انقاذ فلسطينيون يحاولون اخماد النيران في مبنى في خان يونس في 17 اكتوبر
أيضا غير مجدٍ ومضر وغير منطقي الحديث عما يسمى محور مقاومة وممانعة لأن هذ المعسكر يستخدم فلسطين للابتزاز والاستهلاك والمزايدة فقط، وللتغطية على سياسات إيران في تصديع وحدة المجتمعات العربية لتعزيز مكانتها الإقليمية، وهذا المعسكر مسؤول عن خراب سوريا والعراق ولبنان، فمن غير المعقول أن يأتي بالخير لشعب فلسطين، فقضايا الحرية والعدالة لا تتجزأ، وادعاء مناصرة قضية فلسطين لا تبيض صفحة إيران مما فعلته بسوريا والعراق ولبنان، إذ لا يمكن لجريمة أن تغطي أو تبرر أخرى، ولا لمجرم أن يغطي أو يبرر آخر، لا إسرائيل ولا إيران.
غياب حكومة “حماس”
بينت عملية “حماس”، التي أوجعت إسرائيل بطريقة غير مسبوقة، استعدادات عالية، تستحق الإعجاب، بيد أن ذلك لم يقترن بتهيئة المجتمع للحرب، ولا باستعدادات حكومتها وأجهزتها للقيام بالخدمات المفروضة، بل إن تلك الحكومة بدت غائبة عن المشهد، إذ لم تقم بواجبها إزاء سكان غزة بالقياس لما قامت به وكالة “الأونروا” بأجهزتها الخدمية التي ملأت ذلك الفراغ وفقا لإمكانياتها.
بينت عملية “حماس”، التي أوجعت إسرائيل، استعدادات عالية، تستحق الإعجاب، بيد أن ذلك لم يقترن بتهيئة المجتمع للحرب، ولا باستعدادات حكومتها وأجهزتها للقيام بالخدمات المفروضة
وعليه فإن “حماس” لم تتحسب للتداعيات التي ستنجم عن عمليتها في أحوال سكان غزة، كقطع المياه والكهرباء والوقود والمواد الطبية والأغذية، ولم تتحسب لضرورة إيجاد أماكن إيواء ومستشفيات واحتياطي أغذية ووقود ومصادر مياه، كأنها منظمة عسكرية فقط، وليست سلطة على مليوني نسمة، مع حكومة منذ 17 عاما في غزة.
بين الانتصار والنكبة
ثمة مشكلة أيضا في خطاب “حماس” الانتصاري الذي لا يأخذ في اعتباره الكارثة المأساوية والأثمان الباهظة للفلسطينيين في غزة؛ ففي أسبوع قتلت إسرائيل 2200 من الفلسطينيين، بما يزيد على شهداء الحرب الأولى (2008) التي استمرت 21 يوما، وقتلت إسرائيل فيها (1400) من الفلسطينيين، والحرب الثالثة (2014) التي استمرت 50 يوما وقتل فيها 2200 من الفلسطينيين. كما لا يأخذ في اعتباره مخاطر ترانسفير جديد بتشريد سكان النصف الشمالي للقطاع إلى جنوبه أو إلى صحراء سيناء، ولا تحويل غزة الفقيرة في الموارد إلى منطقة غير صالحة للعيش لمليونين من البشر؛ فبعد أو رغم كل ذلك ما زال ذلك الخطاب في الخط الانتصاري كأن ذلك يغطي على الكارثة الحاصلة لفلسطينيي غزة، إذ يتحدث عن طمأنة الشعب لسلامة البنية القتالية والتسليحية ل”حماس”، ووجود أوراق قوة وخيارات أخرى ستستخدمها لحماية الشعب الفلسطيني!
إسرائيل تتوحد ضد الفلسطينيين
يفترض أن بين أهداف أي مقاومة للاستعمار تعزيز الانقسام والتصدع في مجتمعه وقياداته، بيد أن تداعيات الحرب الحالية أدت إلى توحد الإسرائيليين، وترميم الانشقاقات فيما بين تياراتهم الرئيسة، وعودة مصطلح الحرب الوجودية، كما أدى ذلك إلى تعزيز معسكر الصهيونية الدينية المتطرفة التي باتت ميليشياتها مسلحة رسميا في ظل الحرب، بعد أن كانت مذمومة من أغلبية الإسرائيليين وعلى الصعيد الدولي، في ظل حكومة تعرضت لعزل دولي باعتبارها أكثر حكومات إسرائيل تطرفا منذ قيامها مطلع هذ العام.
ولعل أكثر ما يخشى منه هو انفلات تلك العصابات الاستيطانية بحماية الجيش الإسرائيلي في هجماتها على الفلسطينيين في الضفة، وربما في مناطق 48، على ما جرى إبان الهبة الفلسطينية دفاعا عن “حي الشيخ جراح”، بعد الضربات الصاروخية من غزة على إسرائيل (2021).
استباحة حياة الفلسطينيين وأرضهم
على الصعيدين العربي والدولي، ومقابل الإدانة الخجولة لأعمال إسرائيل الوحشية، ومناشدات الضغط عليها، ثمة تواطؤ غربي تديره الولايات المتحدة لتغطية استباحة إسرائيل لقطاع غزة، واقتلاعها سكانه من بيوتهم، مما يهدد بترانسفير جديد، علما أن هذا الموقف يتناقض مع القرارات الدولية بشأن فلسطين، ومع عملية التسوية التي رعتها الولايات المتحدة ذاتها، بل ويضرب كل المعايير الدولية والإنسانية، باعتبار ما تقوم به إسرائيل جرائم حرب بمعنى الكلمة.
على الصعيدين العربي والدولي، ومقابل الإدانة الخجولة لأعمال إسرائيل الوحشية، ومناشدات الضغط عليها، ثمة تواطؤ غربي تديره الولايات المتحدة لتغطية استباحة إسرائيل لقطاع غزة، واقتلاعها سكانه من بيوتهم، مما يهدد بترانسفير جديد
لذا فإن الهجمة الوحشية على المدنيين الفلسطينيين، وربط معاداة إسرائيل بالسامية، وتجريم المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الاحتلال، هو بمثابة نزع إنسانية الفلسطيني، وتجريده من حقوقه، وفقا لرؤية عنصرية استعلائية، كأنه لا يوجد للغرب في الشرق سوى مصالح، بلا مبالاة بحياة البشر ولا بسيادة الدول.
وما يجدر إدراكه أن الولايات المتحدة، والعالم الغربي، بدا كأنه تخلى عن قيم الليبرالية والديمقراطية التي يعتبرها رسالته، وعلامة تميزه في العالم، بتحريمه أو منعه حرية الرأي لمواطنيه بما يخص إسرائيل التي باتت تعرف كدولة كولونيالية ودولة آبارتهايد ودولة يهودية، كأنها فوق القوانين الدولية والمعايير الإنسانية، أو كأن تلك القيم حكر على الإنسان في الغرب! كما يلفت الانتباه أن هذا الغرب ظل يتفرج على كل حروب إسرائيل العدوانية ضد الفلسطينيين، وتعامل بلا مبالاة مع قيام نظام الأسد وشريكته إيران (وكذلك روسيا) بقتل وتشريد ملايين السوريين منذ أكثر من عشرة أعوام، وذلك أيضا لمصلحة إسرائيل واعتباراتها.
استعصاء الكفاح الفلسطيني
على ذلك، ثمة عدة مشكلات مستعصية…
أولا: طوال قرن ظل الشعب الفلسطيني، رغم معاناته وتشتته وضعفه، في موازين القوى إزاء إسرائيل، يواصل كفاحه، ببطولات وتضحيات يشهد لها العالم والتاريخ، مع ذلك لم تُتح له المعطيات الدولية والعربية لاستثمارها، ولم يملك القوة الذاتية لفرضها، وما يجري من كارثة مهولة يتعرض لها الفلسطينيون في غزة هذه الأيام، مؤشر أو مثال على ذلك.
Reutersفلسطينيون يبحثون عن ناجين تحت انقاض مبنى اصيب بالقصف الاسرائيلي في خان يونس في 17 اكتوبر
ثانيا: تبعا لما تقدم فإن خسارة إسرائيل الباهظة، تبقى محدودة استراتيجيا، فهي تستطيع أن تعدل وضعها، وتستطيع أن تعوض ذلك من الدعم الخارجي، كما نشهد، وضمنه ضمان أمنها واستقرارها وتفوقها.
ثالثا: بناء عليه، فإن إسرائيل تستطيع أن تعكس خسارتها الباهظة إلى خسارة أكبر للفلسطينيين، في شكل وجودهم على الأرض، ونمط حياتهم، وتغيير المعادلات السياسية لصالحها. ولعل أكثر ما يخشى منه (وما دأبت على التحذير منه منذ سنوات)، ردة فعل، أو عملية، فلسطينية غير محسوبة جيدا تقتنصها إسرائيل، كفرصة سانحة، لترانسفير جديد، أو لترسيخ فصل غزة، أو لإحداث تغيير ديموغرافي في القدس أو في غير منطقة، مع ما شهدناه من خراب بيوت وحياة مليونين من الفلسطينيين وربما أكثر.
مقاومة الاحتلال والظلم وإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية عمل إنساني، نبيل ومشروع، لكن الفلسطينيين الآن في كارثة مع أكثر من 2700 شهيد، وتشريد حوالي نصف مليون نسمة، فإذا لم تكن هذه نكبة فما هي النكبة إذن؟
لذا فإن السؤال، بمسؤولية وطنية عقلانية وأخلاقية، هل يستطيع الفلسطينيون، وليس “حماس” وحدها، صد هكذا تحدٍ؟ هل درست قيادة “حماس” هكذا وضع (مع كل التقدير لبطولات وتضحيات المقاومين الشباب)؟
نعم يمكن القول إن “حماس” نجحت في عمليتها، لكن يخشى أن ثمن ذلك نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، وأخشى أن مقولة: “كنت الصمود في بيروت”، تتكرر هنا بطريقة أكثر هولا ومأساوية، فحديث الانتصارات يحتاج أكثر من البطولات والتضحيات، فهو يحتاج لرؤية استراتيجية تمكن من الاستثمار السياسي في كل لحظة، فيما يفترض أنه مقاومة شعبية طويلة الأمد، كما يحتاج إلى ظروف عربية ودولية أفضل من الراهنة الآن وفي المدى المنظور.
نعم مقاومة الاحتلال والظلم وإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية عمل إنساني، نبيل ومشروع، لكن الفلسطينيين الآن في كارثة مع أكثر من 2200 شهيد، ومع تشريد حوالي نصف مليون نسمة، فإذا لم تكن هذه نكبة فما هي النكبة إذن؟
الأمل أن تنتهي هذه المحنة في أقرب وقت وبأقل قدر من الخسائر للفلسطينيين، وحقا آمل أن أكون مخطئا في كل تلك الاستنتاجات.
عن المجلة