حديث الناس في فلسطين المحتلة وعودة المغتربين
هذا موسم الهجرة إلى الشرق، بعد استئذان الطيب صالح الذي آثر الهجرة إلى الشمال. آلاف المغتربين عادوا مع أطفالهم إلى الوطن لقضاء إجازات الصيف بين الأهل والأحباب، والمشاركة في مواسم الأعراس والاستمتاع بموسم التين والعنب. رغم أن تكاليف السفر باهظة جدا هذا الموسم، إلا أن الغالبية تحملوا المصاريف وعادوا بعد انقطاع استمر نحو ثلاث سنوات بسبب تداعيات فيروس كورونا الذي عطّل الحياة الطبيعية وأغلق المطارات والموانئ والمعاهد الدراسية وألغى آلاف الرحلات الجوية.
في القرية
هذا أول عيد أضحى أحضره منذ سنوات طويلة. لا أذكر آخر مرة كنت هنا في هذا العيد. احتفظت بهذا الكم من الحنين لذلك المنزل الريفي البسيط الذي ينام بين أحضان أشجار التين والزيتون ودوالي العنب وشجرة التوت الأبيض الغنية بطرحها. كانت الوالدة تصر على توزيعه على جميع الجيران وأولاد الحارة، وتدعو كل من يمر من أمام البيت لتناول ثمار التوت، قبل أن يتساقط على الأرض لثقل حمولتها. جرافات البناء الحديث خلعت شجرة التوت وخلعت معها سروة كنت زرعتها بيدي في حاكورة البيت الصغير، وخلعت معها جزءا من ذكريات الطفولة في «أول منزل يألفه الفتى».
وعلى ذكر التين لا بد لي من التذكير بأنه لا يوجد مكان آخر في العالم، على حدّ علمي، يضم هذه الباقة الواسعة من أنواع التين. ثمار التين تستعير الألوان جميعها وتحرفها قليلا لتسمي بها أنواع التين العديدة، مثل الخروبي والبياضي والسوداوي والغزالي (ألوان الغزال) والخضيري والحمري والموازي والعسيلي وغير ذلك. ويتفنن الفلسطينيون في رعاية التين والاستفادة من كل أنواعه ومراحله، فما ذبل وسقط على الأرض يجمع وتعمل منه أنواع من المربى ويجفف بعضها ويتحول إلى قُطين، وهذه الكلمة ليست مثنى قط، بل تعني التين المجفف. هؤلاء الأغراب الذين توافدوا من أرجاء الدنيا ليدعوا ملكية منحها لهم الرب، لا علاقة لهم لا بالأرض ولا بكنوزها. وقد يأتي يوم نعطيهم امتحانا في أنواع التين، فمن عرفها كلها يمنح الجنسية الفلسطينية ومن أخفق يعود من حيث أتى. القرية تستقبل أبناءها وبناتها العائدين مع أطفالهم إلى بيوتهم وفللهم الفارهة. بعضهم يبرر المغالاة في البناء بآية «وأما بنعمة ربك فحدث»، وبعضهم يرى أنها فرصة للعمال المحليين والحرفيين والبنائين والمهندسين لكسب مصادر رزقهم من العمالة المحلية. المهم أن عودة المغتربين في الصيف تنعش البلاد كلها، حيث تزدحم المطاعم والمقاهي ومحلات الحلوى ومكاتب سيارات الأجرة وقاعات الأعراس وغير ذلك الكثير، والأهم من ذلك أنها فرصة ذهبية للأطفال لالتقاط لغة الآباء والأجداد وتعزيز انتمائهم للأرض والوطن.
زيارة بايدن
لا أحد معنيّ بزيارة الرئيس الأمريكي جوزف بايدن لفلسطين المحتلة، لأنها زيارة مجاملة أو ديكور. جماعة السلطة فقط هم المهتمون بالزيارة لما تحمله من محفزات اقتصادية ورزم مالية وتبييض لشرعية متآكلة تماما على المستوى الشعبي. لقاء بايدن مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لن يتجاوز 45 دقيقة فقط في المقر الرئاسي في بيت لحم، ثم يزور كنيسة المهد لمدة عشرين دقيقة فقط، ويعود بعدها في مروحية إلى مطار اللد ليطير من هناك إلى السعودية، لتعميق علاقات التطبيع. ما يعرضه على الفلسطينيين المزيد من تصاريح العمل وتسهيل الحركة وبعض الأموال. أما الانفراج السياسي وتجميد الاستيطان ووقف الاعتداءات المتكررة فلا مكان لها في الزيارة الخاطفة، لكن لا تستغربوا إذا تحدث في مؤتمره الصحافي عن دعم «كذبة» حل الدولتين. رام الله، التي بالكاد تستطيع أن تمشي في شوارعها، حيث تختلط السيارات بالمشاة وعربات الباعة المتجولين، تفيض عن قدرتها لاستيعاب الناس. كل شيء فيها مزدحم.. مقاه جديدة ومطاعم فاخرة وأنواع إضافية من نكهات التوباكو التي تنتشر في محلات النراجيل. أما الأسعار فخيالية، أسعار الكيان نفسها إلا أن الراتب هناك يعادل عشرة أضعاف الراتب هنا لمستوى الموظف نفسه.. رام الله تختلف كثيرا عن بقية أجزاء الوطن.
شيرين وحكاية الرصاصة
منذ اغتيلت الشهيدة شيرين أبو عاقلة في 11 مايو/أيار الماضي، وأنا على تواصل مع أخيها طوني المعروف عندنا كأصدقاء باسم طارق. وقد ظللنا نتبادل الآراء حول تقارير التحقيقات في اغتيالها التي نشرها العديد من المنابر الإعلامية الكبرى مثل، «واشنطن بوست» و»نيويورك تايمز» و»الأسوشيتد بريس» وCNN وكان آخرها تقرير مجلس حقوق الإنسان، والتي أجمعت بلا استثناء على أن القتل كان عمدا من جانب جيش الاحتلال. التقى طوني في رام الله قبل شهر تقريبا بالمبعوث الأمريكي الخاص للسلطة الفلسطينية عمرو هادي، وأبدى رغبته في لقاء الرئيس جو بايدن عند قدومه للمنطقة. أبدى هادي تفهما للطلب ووعد بنقله للإدارة. لكن طوني تابع الموضوع وبعث برسالة مباشرة للبيت الأبيض عن طريق وزارة الخارجية، لكن الإدارة الأمريكية لم ترد على الطلب لا من قريب ولا من بعيد، بل ضغطت باتجاه معاينة الرصاصة. تم تسليم الرصاصة للجهات الأمريكية يوم 2 يوليو، ولم يمض يوم أو بعض يوم حتى صدر التقرير الأمريكي الغريب يوم 4 يوليو، وقد عاين الجيش الإسرائيلي الرصاصة في القدس بحضور أمريكي، فجاء التقرير يبرئ ساحة الجيش الإسرائيلي من القتل العمد. ويرى طوني أن التقرير صدر عن الجيش الإسرائيلي واقتصر الدور الأمريكي على قراءته ونسبته إلى المسؤول الأمني الأمريكي، لاستبعاد موضوع الاغتيال أمام زيارة بايدن للمنطقة، وتنقية الأجواء بعيدا عن طرح مسألة الكيل بمكيالين. كان يجب عدم تسليم الرصاصة للجانب الأمريكي انطلاقا من فرضية حسن النية. وهذا الحديث ليس مقتصرا على كلام طوني، بل كل من تحدثت معه كرر عبارة «لماذا سلموهم الرصاصة؟ ألا يعرفون عمق العلاقة بين البلدين وآخر ما يهمهم الدم الفلسطيني؟».
في التوريث والاستعداد للأسوأ
حديث الناس جميعا، خاصة في مجالسهم الخاصة موضع خلافة عباس، هناك شبه إجماع على أن حسين الشيخ هو الرئيس القادم، أو على الأقل هذا ما يريده عباس، إلا أنه من المؤكد أن لقاء شرم الشيخ في نهايات إبريل الماضي بين ثلاثة مسؤولين عرب لهم علاقات قوية مع الكيان وهم، محمد بن زايد والملك عبد الله وعبد الفتاح السيسي، رفضوا تأهيل حسين الشيخ للرئاسة، وأوصلوا رسالة واضحة لعباس أن مرشحهم لخلافة عباس هو محمد دحلان، وهو مرشح الولايات المتحدة كذلك. فما كان من عباس إلا أن اتخذ قرارا إضافيا بتعيين الشيخ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أي أنه الآن يجلس في ثاني أهم موقع في هرم السلطة الفلسطينية، وكما قيل لي فإن هذا الدفع بإعلاء موقع الشيخ، أغضب الأربعة الباقين الأقرب من دائرة عباس وهم توفيق الطيراوي وجبريل الرجوب ومحمود العالول، وحتى ماجد فرج مسؤول المخابرات. المستفيد الأكبر، حركة حماس من هذه الخلافات التي اكتسحت انتخابات الطلبة في بير زيت، وعملت صفقة مع الجبهة الشعبية للعمل معا في أكثر من ميدان، بما في ذلك الدخول في قوائم مشتركة في انتخابات المجالس البلدية. هذا التحالف من عجائب هذا الزمن الرديء.
القدس والاستفزاز المتعمد
زيارة المدينة المقدسة دائما تأخذ حيزا مهما من رحلة زوار الوطن، ندخلها كأجانب، أو بتصريح خاص لأبناء البلاد من حملة الهوية الفلسطينية الممغنطة، التي تكشف في وسمها الإلكتروني عن أدق التفاصيل في حياة حاملها، وإذا صدف وأخذ الزائر معه ابنه الصغير من دون تصريح، تتم إعادته إلى المعبر حتى لو كان عمره سبع سنوات. كثير من المحلات التجارية في أسواق القدس العتيقة مغلقة بسبب الضرائب، أو قلة البيع. «دعم القدس ليس بالحكي فقط، بل بتشجيع الناس على البقاء في محلاتهم والشراء منهم»، قال لي تاجر بلهجته الخليلية المميزة. انظر كم من المحلات مغلقة لأنها لا تستطيع تحمل المصاريف والضرائب بسبب قلة البيع. على مدخل باب العامود ثلاث نقاط عسكرية، في كل واحدة يوجد عدد من المجندين والمجندات أحدهم إصبعه على الزناد، جاهز للقتل في أي لحظة. وقد حاولت دورية قرب زاوية طريق الآلام أن تعتقل شابا، لأنه نظر نظرة استحقار وتحدٍ لأحد الجنود، لكن مجموعة من الناس تدخلوا واستطاعوا خلق حالة من الفوضى تمكن معها الشاب من أن يختفي بخفة ويبتعد عن المكان، لكن أكثر ما يثير الأعصاب هؤلاء المسلحون، الذين يرافقون مجموعة من المستوطنين الذين يطوفون في ساحات الحرم الشريف بين الصخرة والأقصى، ويؤدون صلوات تلمودية تحت حماية البنادق الجاهزة للإطلاق. والرد يكون بحضور مئة ألف مصل صباح العيد، إنها حرب الإرادات التي لم تحسم بعد.
عن القدس العربي