حجارة كفر برعم تنضم للحكاية

كان يومًا مشمسًا بامتياز لما قررنا كعائلة أنْ ننطلق إلى زيارة شمالي الوطن، وبخاصة قريتي كفر برعم والجش والوادي الواصل بينهما. كانت محطتنا الاولى في كفر برعم القرية الشاهدة على حجم جرح ونزيف النكبة الفلسطينية. فبالرغم من زياراتي الكثيرة الى القرية، إلاّ أنني في كلّ مرّة اكتشف شيئًا جديدًا، أو أتعرّف على أمر ما، أو اتعلّم معلومة أخرى عن القرية والطبيعة المحيطة بها. وزرنا أولاً موقع الكنيسة والى جانبه ما تبقى من غرف مدرسة القرية. واللافت أنّ اهالي القرية نصبوا شجرة عيد الميلاد عند مدخلها، مؤكدين بهذه الخطوة تمسكهم بحقهم في قريتهم بعيدًا عن أي قرار سياسي او قضائي، إذ لا يعقل أن يطرد اهالي القرية دون أي سبب اقترفوه. إلا أنّ خطة اسرائيل تأسست على قواعد التطهير العرقي لاتاحة المجال لإقامة الوطن القومي اليهودي على حساب اصحاب البلاد الاصليين. سِرنا باتجاه الغرب قبالة مدخل الكنيسة في طرقات وأزقة القرية بالغة الجمال والعفوية، إلى أن وصلنا إلى بيت جميل، بقيت منه جدرانه في حين أنّ اسقف المنازل قد تهاوت بفعل القصف والهدم الذي تعرّضت له القرية منعًا لعودة الاهالي الى بيوتهم. البيت مبني من الحجر الطبيعي أُسوة بباقي بيوت القرية، ولكن لاحظنا أنّه كان يعلوه سقف قرميدي قد تهاوى، كما أشرنا. وقد بادر شباب القرية الى تنظيف هذا البيت من الاوساخ والاعشاب التي تكومت فيه. واللافت للانتباه بشكل كبير انهم وضعوا حجارة احد الجدران المتهاوية على اطراف الغرفة الرئيسة في البيت. أي أن حجارة “الدار” باقية في “الدار”. وكل حجر له حكاية. وكل حجر ينتظر عودة أصحاب الدار. تناولنا بعض المناقيش والصفائح وخلالها نظرنا عبر النوافذ وفتحات الابواب الخالية من شبابيكها ومغاليقها، وإذ بمناظر تسحر العيون وتخطف الالباب. جبال الجليل واحراشها تحيط بالقرية، وجبال جنوب لبنان تطل على القرية في كل صباح ومساء منتظرة عودة اصحابها. عِلما أنني اعرف اسم صاحب البيت دون تفاصيل أخرى. فتراسلت مع الدكتور ميشيل سليمان مؤلف كتاب عن تاريخ برعم وسكانها، ومع القريب رياض غنطوس فمباشرة زودوني بمعلومات قيّمة، رأيت من المناسب نقلها إلى متابعي صفحتي هذه. لهما جزيل الشكر والكثير من التقدير.

صاحب البيت هو الدكتور ذياب جريس سوسان المولود في القرية في 1898. وهو أوّل طبيب في القرية. توفى في الولايات المتحدة في 1992 ودفن في مقبرة قريته استجابة لوصية كتبها سابقا. درس الطب في الجامعة الامريكية ببيروت، ونادرا ما كان يحظى شباب القرى بهذه الفرصة. ثم افتتح عيادة له في صفد، مدينة القضاء في حينه. وجعل من إحدى غرف بيته ما يشبه مستوصف لعلاج المرضى القادمين إليه من القرية ومن خارجها، وتولّـت شقيقته الممرضة دور المساعد له.

شيّد بيته هذا المتميّز بجمال فنون البناء والعمران فيه، وإطلاله على مساحات في غاية الجمال من الطبيعة الخلابة.

وبعد التهجير لجأ مع اسرته إلى لبنان، ومنها في وقت لاحق الى الولايات المتحدة التي بقي فيها الى مماته.

وارسل الينا الدكتور سليمان صورة لرسالة بخط وتوقيع الدكتور ذياب مؤرخة بـ 6\1\1945 كان قد ارسلها الى الاستاذ حنا داود(إبن قرية إقرث) الذي تعيّن في السنة ذاتها مديرا لمدرسة القرية. ومضمون الرسالة في غاية الرقة والجمال القيمي الذي ميّز تلك الفترة. نفتبس هنا فقرة منها لما فيها من اهمية لفهم منظومة العلاقات الاجتماعية وضمانها.

“كنت أود أن أسمع من حضرتكم كيف تكيفيتم وابتدأتم أعمالكم بالمحيط الجديد. أما قلبيا كنت مقتنعا بأن شخصية ونفسية عالية مثل ما تحتويه شخصيتكم لا يؤثر عليها شيء بل بالعكس تضيء أينما حلت. وكل ما أتمناه لك يا حنّا هو دع امام عينيك الطموح للوصول إلى مستوى أعلى علميا يكون لك التسلية الوحيدة إن أحبطت علاقاتك الاجتماعية”.

وختامًا، لا بُدّ لي من التنويه بل التشديد على أنّ هدم الحجارة وإزالتها لا يعني طمس الحكاية. فالحكاية قوية في ذاكرة ومعرفة كل جيل ينمو ويفتح عينيه على الحقيقة. فنكبة كفر برعم لا زالت مستمرة، وإصرار اهلها على التمسٌّك بحقِّ العودة هو البوصلة الحقيقية.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *