حتى لا نصبح ” دولة مجذومة “
كان من الغريب مشاهدة الإحاطة اليومية للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر (الاثنين). تم تخصيص 80% من الإحاطة، التي تعقد خمس مرات أسبوعيًا في وقت الظهيرة (بتوقيت واشنطن ) لإسرائيل، وبشكل أكثر تحديدًا لما يفعله أو لا يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة، على الرغم من أن الحدث تم عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية .
وعلى وجه الدقة، فإنه بعد أن أنهى جلسة الأسئلة والأجوبة مع الصحفيين حول غزة ، سارع المتحدث الأمريكي إلى إضافة الصيغة المعتادة فيما يتعلق بإيران، والتي يوصي بموجبها الجمهورية الإسلامية بعدم مهاجمة إسرائيل ، وأنه إذا فعل نظام أيات الله ذلك، فإن الولايات المتحدة ستهب للدفاع عنها .
لكن كما ذكرنا، فإن كامل المؤتمر الصحفي الذي استمر حوالي 40 دقيقة، خصص لأسئلة الصحفيين حول ما أسموه “منع المساعدات الإنسانية” عن سكان شمال قطاع غزة، وعن الأضرار التي لحقت بالمستشفيات والمنشآت ، وعن قتل المدنيين بدون سبب . وقد بذل ميلر قصارى جهده للتحدث بلغة دبلوماسية ، لكنه سلط الضوء على “القلق لدى واشنطن من قيام (الإسرائيليون) بتدمير مبنى قتل فيه 25 طفلاً والعديد من المدنيين الآخرين” . ثم أضاف “فقط لأنهم رأوا شخصا مسلحا على سطح المبنى” .
إن نبرة هذه الإحاطة، وأسئلة الصحفيين، وكذلك إجابات المتحدث باسم وزارة الخارجية، يجب أن تثير قلق كل من يشعر بالخوف بشأن مستقبل العلاقة بين دولة إسرائيل ومواطنيها مع الولايات المتحدة الأمريكية . من المحتمل جدا بأنه اذا تم انتخاب دونالد ترامب، سيكون المتحدث باسم وزارة الخارجية أكثر تعاطفا معنا، لكن أسئلة الصحفيين ستبقى كما كانت وستزداد سوءا، وهذا لا يحدث في الولايات المتحدة فقط ، بل في العالم كله .
من خلال المتابعة العشوائية لوسائل الإعلام العالمية، وخاصة في أمريكا الشمالية وأوروبا، تدرك أن مشكلة شرعية إسرائيل في الساحة الدولية لا تتراجع فحسب، بل إنها تتفاقم نحو الأسوأ . والموضوع الساخن الآن هو القتال وسلوك الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل في شمال قطاع غزة، وخاصة في منطقة جباليا. وكالات الأنباء الدولية، على سبيل المثال أسوشيتد برس ورويترز، تنشر تقارير طويلة ومفصلة بشكل يومي يبدو منها أن جنود الجيش الإسرائيلي يمارسون الوحشية ويسيئون معاملة السكان المدنيين الذين بقوا في القطاع .
معظم هذه التقارير، ليست فقط من وكالات الأنباء، بل أيضًا من الصحف والمواقع الإخبارية المهمة في فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وكندا والولايات المتحدة، مبنية على شهادات سكان غزة الذين تمت مقابلتهم عبر الهاتف أو عبر تطبيق Zoom وعلى شهادات عمال الإغاثة الأوروبيين والأمريكيين المتواجدين في القطاع والذين يتحدثون عن ما تراه أعينهم.
بعض هذه الشهادات تقشعر لها الابدان حقاً، وعندما أقرأها أتذكر التقارير عن مجزرة قرية دير ياسين في حرب 1948 أو أحداث صبرا وشاتيلا في حرب لبنان الأولى ، والتي على الرغم من العقود التي مرت عليها ، لا تزال تذكر مرارا وتكرارا في وسائل الإعلام العالمية، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلة التي نواجهها بالفعل الآن في موضوع الشرعية على الساحة الدولية، وحيال رغبتنا في أن يتم اعتبارنا دولة متحضرة يلتزم مواطنوها بقيم القانون الدولي والأخلاق .
على ضوء التقارير التي تنشر الآن في وسائل الإعلام الدولية حول ما يفعله الجيش الإسرائيلي في الثلث الشمالي من قطاع غزة، هناك مجال لقلق شديد من أن مشكلة شرعيتنا في الساحة الدولية سوف تتفاقم وإذا لم نعالج هذا الأمر بسرعة قد نجد أنفسنا لسنوات طويلة في قائمة “الدول المجذومة” إلى جانب كوريا الشمالية بورما والسودان، وما زال الإعلام العالمي لم يدخل إلى غزة بشكل كثيف ولم يرى حجم الدمار .
المشكلة ليست في العمليات التكتيكية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، بل في علامتها السياسية (“خطة الجنرالات”) وطريقة تنفيذها. أما بشآن الحصار المفروض على المستشفيات، على سبيل المثال، الذي يهدف إلى إخراج مسلحي حماس والجهاد الإسلامي من هناك بسبب تحويلهم المشافي إلى مقرات، فليس “ماذا” بل “كيف” هي التي تشوه صورتنا .
بالنسبة للعلامة السياسية : فإن وسائل الإعلام الدولية تنظر إلى “خطة الجنرالات” على أنها وصفة أطلقها اليمين الماسيحاني الديني في إسرائيل للقيام أولاً بتطهير عرقي في شمال قطاع غزة كتمهيد لتجديد استيطان اليهود في المنطقة . ولهذا الغرض بحسب كبار الأمم المتحدة الذين تقتبس أقوالهم وسائل الإعلام فإن إسرائيل تنفذ عمليات تجويع ممنهجة وتهجير لمن تبقى من السكان في شمال قطاع غزة وترحلهم إلى ” مراكز الإيواء الآمنة”، وهي غير آمنة على الإطلاق في وسط قطاع غزة .
هناك أربعة ادعاءات في وسائل الإعلام العالمية :
لا جدوى من تكرار كل تفاصيل الاتهامات المنسوبة للجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل بشكل عام في وسائل الإعلام الدولية بشأن ما يحدث في شمال غزة ، لكن هذه الظاهرة آخذة في الاتساع، ويجب أن تثير قلقنا بشكل كبير .
وهناك اربع ادعاءات تتكرر في وسائط الإعلام العالمية: الأول، عدم دخول مايكفي من المساعدات الإنسانية ، والثاني يتحدث عن حصار المستشفيات والمعاملة الوحشية للطاقم الطبي والمرضى . والثالث يتحدث عن منع وصول فرق الإنقاذ إلى ركام المباني التي قُصفت أو تم تدميرها جزئياً في المعارك، والرابع، القانون الذي أقره الكنيست قبل أيام، والذي يحظر اتصال المسؤولين الإسرائيليين بوكالة إغاثة اللاجئين (UNRA).
وتقول وسائل الإعلام الدولية، التي لا تزال تحاول التمسك بقواعد أخلاقيات مهنة الصحافة، بأن الجيش الإسرائيلي يقدم أدلة واهية على الادعاءات المتعلقة بأنشطة أعضاء حماس من المستشفيات وداخل المستشفيات . ويقول الصحفيون أيضًا أن لديهم أدلة واضحة على السلوك العدواني والوحشي للغاية والانتقامي من جانب بعض الجنود الإسرائيليين . إلى جانب هذه الادعاءات، غالبًا ما تطرح في وسائل الإعلام الدولية ادعاءات بشأن عدم إمكانية حضور ووصول الصحفيين ، الذين يمكنهم أن يستوضحوا بأم أعينهم من خلال تواجدهم في المنطقة ما يسمعونه من الفلسطينيين ومن عمال الإغاثة الذين يجرون لقاءات معهم .
واضح تماما أن جزءا كبيرا من هذه التقارير هو نتيجة أكاذيب ومبالغات من الفلسطينيين الذين تجري معهم مقابلات، وبعضهم من العاملين في منظمات الإغاثة، الأمر الذي يعطي لشهاداتهم مصداقية في عيون الصحفيين الذين ليسوا على دراية بالعلاقة بين عمال منظمات الإغاثة ونشطاء حماس، لكن النتيجة هي أن إسرائيل تحظى بصورة جيش احتلال متوحش ، وتتفاقم هذه الصورة مع مرور الوقت، ونبتعد عن أهوال 7 أكتوبر 2023 .
ولا يساعد الأمر عندما يعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي علناً بأن الجيش يعمل في قطاع غزة لمنع إعادة تمركز وإعادة تأهيل البنية التحتية لحماس في شمال قطاع غزة – وهو تمركز وإعادة تأهيل قد يتيح لحماس أن تبدأ مجددا بعد وقت ليس بطويل بحرب عصابات ليس فقط ضد الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وإنما أيضًا ضد مستوطنات غلاف غزة .
المتحدث باسم الجيش دانييل هاغاري لا يقول ذلك صراحة، لكن الجيش الإسرائيلي يوضح أن النشاط في شمال قطاع غزة يهدف إلى دفع السكان جنوبًا إلى مراكز الإيواء المكتظة بشكل مريع في وسط قطاع غزة من أجل الضغط على حماس بشأن موضوع المخطوفين . وهذه الادعاءات لا تترك انطباعا، وتقريبا لايتم ذكرها إلا نادرا في وسائل الإعلام . وفي خلفية ذلك : حماس داخل غزة وقيادة حماس خارجها تظهر بالفعل دلائل على أن الضغط على السكان في شمال قطاع غزة مثير للقلق . ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلهم يلينون من مواقفهم في المفاوضات حول صفقة المخطوفين .
هل تستطيع إسرائيل تغيير هذا الاتجاه في وسائل الإعلام العالمية لتحويلنا إلى دولة مجذومة ؟ الجواب على ذلك على مايبدو إيجابي . قبل كل شيء يجب أن يحصل الجنود في القطاع على توضيحات حول معنى ما يفعلون وكيف يتصرفون، وأن يتلقوا أوامر صارمة، تصاحبها عقوبات رادعة إذا لزم الأمر، بحق المتهمين بمخالفة التعليمات المتعلقة بالسلوك حيال مدنيي العدو أثناء الحرب .
الإجراء الآخر الذي يمكن أن يساعد هو إدخال صحفيين اجانب واسرائيليين إلى مناطق القتال لفترات طويلة نسبيًا والبقاء مع الجنود أثناء قيامهم بالعمليات، لكي يرو بأم أعينهم ويفهموا بأن الجيش الإسرائيلي يعمل من اجل منع حدوث تهديد أخر على سكان إسرائيل، وليس من أجل استنفاد شهوة الإنتقام والاستيطان لدى قطاع صغير من مواطني دولة إسرائيل .
يديعوت أحرونوت