جولة أفق في تطورات المواقف الإسرائيلية إزاء الحرب على لبنان
أطلقت منظمات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بقيادة “حماس”، فجر السبت 7/10/2023 (الذي صادف آخر أيام عيد العرش لدى اليهود، وهو أيضاً، حسب الأساطير اليهودية، يوم نزول التوراة)، عملية “طوفان الأقصى” ضد إسرائيل. وشملت تلك العملية هجومات واسعة، براً وجواً وبحراً، على ما تُعرف باسم “غلاف غزة”، وهي المناطق المحيطة بقطاع غزة، بالإضافة إلى اقتحام المقاتلين الفلسطينيين العديد من المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع. وكان هذا الهجوم بداية للحرب التي اندلعت في إثره، وراحت إسرائيل تشنها على قطاع غزة، ثم وسّعتها لتشمل لبنان.
كانت عملية “طوفان الأقصى” أكبر هجوم يُشنّ على إسرائيل منذ حرب تشرين 1973، التي وقعت قبلها بخمسين عاماً ويوم واحد، بالتمام والكمال، في السادس من ذلك الشهر، الذي صادف يومها أيضاً عيد الغفران لدى اليهود. ومن سخرية القدر أن “طوفان الأقصى” فاجأ إسرائيل، حكومة ومؤسسات وسكان، تماماً كما فاجأتهم حرب يوم الغفران – لكن هذه المرة كانت المفاجأة الفلسطينية أكثر حدة وإيلاماً؛ فقد كانت تلك المفاجأة، هذه المرة، تامة ومطلقة، وعلى جميع الأصعدة، وشملت كل نواحي التخطيط والتنفيذ بلا استثناء.
وكما كان الهجوم من غزة مفاجئاً بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الموقف في لبنان، أو بصورة أكثر تحديداً موقف حزب الله في لبنان من الحرب وتطورها وامتداداتها، كان مفاجئاً أيضاً. وباختصار، كل هذه الحروب والصراعات، على مختلف المواقف التي بدت خلالها، شكلت مفاجأة لإسرائيل، التي لم تحتَط لها.
ويعود سبب هذه المفاجآت المتعددة إلى غرور إسرائيل وضيق أفقها والفرضيات الهلامية التي بنت سياساتها عليها، وبالتالي لم يكن ثمة بد من انهيارها. فعشية “الطوفان”، بل الحقيقة حتى قبل ذلك بفترة غير قصيرة، كان مَن يُسمّون “الاستراتيجيون” الأمنيون في إسرائيل ينطلقون من فرضية مفادها أن حركة “حماس” “مردوعة” ولا تفكر في تنفيذ هجوم ضد إسرائيل، بل لا تستطيع ذلك. وترسخت قناعات أولئك “الخبراء” نتيجة تصرفات “حماس” نفسها أيضاً، التي امتنعت، مثلاً، عن الانضمام إلى حركة الجهاد الإسلامي في حروب الاعتداءات الإسرائيلية السابقة عليها وعلى قطاع غزة عامة، حين التزمت “حماس” “الحياد” وتركت الجهاد تتحمل الضربات الإسرائيلية وحدها. ويكاد هذا التقييم نفسه ينطبق على حزب الله في لبنان؛ فالحزب كان، ولا يزال يؤيد المقاومة الفلسطينية في غزة وفي أي مكان آخر، لكنه، منذ سنة 2006، لم يقم بأي عمل عسكري يذكر ضد إسرائيل، كما أنه لم يشارك في أي من جولات القتال أو الحروب التي فرضتها إسرائيل على غزة منذ ذلك التاريخ.
انطلاقاً من هذا الواقع، ومن المفاهيم الإسرائيلية الخاطئة التي تبلورت في أعقابه، وضعت إسرائيل “حماس” وحزب الله، بل وكل منظمات المقاومة في الدُرج وأقفلت عليها، وأهملتها، منطلقة إلى التعاطي مع “عظائم” الأمور، والتي تمثلت، هذه المرة، في السعي لتوسيع إطار التطبيع العربي مع إسرائيل، من خلال “اصطياد” السعودية وضمها إلى هذا المسار، وذلك بتأييد أميركي نشط، في ضوء “نجاحات” التطبيع مع كيانات عربية أُخرى، واستكمالاً له. وكان هذا الاتجاه، بحد ذاته، سبباً رئيسياً لإطلاق “الطوفان”، كما أوضحت “حماس” في بيان رسمي أصدرته عن الحرب بعد بضعة أسابيع من نشوبها، إذ اعتبرت توسيع عملية التطبيع ضربة قاتلة للقضية الفلسطينية. وبدوره، أوضح أيضاً الرئيس الأميركي جو بايدن أن الاستعدادات حول تنفيذ التطبيع وإجراءاته كانت قد وصلت، حتى ذلك الوقت، إلى مرحلة متقدمة. وجاءت الحرب وأوقفتها، ويبدو أنها غيّرت مسارها.
انضم حزب الله إلى حرب غزة في وقت مبكر للغاية، وعملياً في اليوم الثاني لنشوبها، وذلك على الرغم من “شكوى” أمين عام حزب الله حسن نصر الله من أنهم لم يعلموا بها ولم يخبرهم بها أحد. لكن ادعاء نصر الله هذا يحتاج إلى توضيح، إذ تظهر بعض وثائق “حماس”، التي كُشفت مؤخراً، أن حزب الله (وإيران) كانا على علم بطبيعة الهجوم، ولم يُبلَّغا بتاريخه المحدد فقط، إذ كانت “حماس” قد اتصلت بالطرفين خلال سنة 2022 واقترحت عليهما شن هجوم مشترك للأطراف الثلاثة على إسرائيل، لكن طلبها رُفض.
تمثلت مشاركة حزب الله في الحرب في مناوشات واشتباكات محدودة على طول الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل، كانت معظمها عبارة عن تبادل إطلاق الصواريخ وقذائف المدفعية، ما أدى بسرعة إلى نزوح عشرات الآلاف من المستوطنين اليهود في مستوطنات إسرائيل الشمالية إلى وسط إسرائيل. ولا يزال أولئك، بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب، يقيمون في أماكن تهجيرهم ولا يستطيعون العودة إلى بيوتهم. وهذا وضع يشكل ضغوطاً على النظام الإسرائيلي في أكثر من مجال، وليس من السهل التعاطي معه، وكان أحد أسباب توسيع الحرب نحو لبنان في مرحلة لاحقة.
يشرح حزب الله موقفه من المشاركة في الحرب على غزة بقوله إنها جاءت لنصرة أهالي القطاع وتخفيف الضغط عنهم، موضحاً المرة تلو الأُخرى، في جهاده “على طريق القدس”، أنه لا يسعى لأي شيء من وراء هذه الحرب سوى نصرة غزة وأهلها، وأنه سيوقف حربه، من دون شروط، إذا تم الوصول إلى اتفاق إطلاق نار في غزة. ومن جهتها حاولت إسرائيل، بطرق مختلفة، من بينها تشغيل وساطات أميركية وفرنسية، ثني الحزب عن التمسك بتلك السياسة والاستمرار في متابعتها، لكن بلا جدوى.
سكتت إسرائيل، ولو نسبياً، على نشاط حزب الله العسكري ضدها خلال فترة غير قصيرة، وعملياً خلال ما يقارب السنة، حيث اتضح أن الحرب على غزة تراوح مكانها، ومن دون أن تظهر بوادر أية حلول سياسية في الأفق، وفي التعامل مع هذا الواقع الجديد قررت توسيع نشاطها وشنت حرباً تكاد تكون شاملة على حزب الله ولبنان بأسره. ومع اقتراب نهاية السنة الأولى من الحرب على غزة، شنت إسرائيل هجمات مؤلمة على حزب الله وقياداته وعناصره ومنشآته، أسفرت عن التسبب بأضرار فادحة له، بما في ذلك اغتيال عدد لا بأس به من قيادات الصف الأول في الحزب، وحتى أمينه العام حسن نصر الله. وفي ضوء هذه “الإنجازات” التي حققتها إسرائيل ازداد غرور رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، كالعادة، وراح يتحدث حتى عن “طريق مفتوحة” لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط (كذا!).
إلاّ إنه سرعان ما اتضح أن “تفاؤل” نتنياهو لم يكن في محله؛ فبعد مرور أيام قليلة فقط على الضربات التي تلقاها حزب الله، تمكن من إعادة تنظيم صفوفه وعاد إلى ممارسة نشاطه العسكري بمدى يفوق بصورة واضحة ما كان عليه الحال سابقاً. فقد ازداد حجم النيران التي راح يطلقها على إسرائيل ليصبح أضعاف ما كان عليه سابقاً، كما اتسع مدى المناطق المستهدفة داخل إسرائيل ليشمل حيفا وكرميئيل وصفد وطبريا، وعملياً كل النصف الشمالي من إسرائيل، ما يزيد أعداد المهجرين داخل إسرائيل، ويزيد من الضغوط على حكومتها. كذلك يقوم مقاتلو الحزب بتنفيذ عمليات مقاومة شرسة لمحاولات إسرائيل التسلل إلى داخل لبنان، ويكاد لا يمر يوم إلاّ ويُسمع عن خسائر تكبدتها القوات الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه ازدادت عمليات استهداف المعسكرات والمنشآت الحربية الإسرائيلية بالصواريخ والمسيّرات، التي وصلت أكثر من مرة إلى مشارف تل أبيب.
من جهتها، لم تُظهر إسرائيل أساساً رغبة كبرى في توسيع نطاق الحرب على الجبهة الشمالية، لعلمها بأن الحرب على هذه الجبهة ستكون أصعب بكثير من تلك التي خاضتها في غزة، نظراً إلى قدرات حزب الله التي تفوق تلك التي تمتلكها “حماس”، لكنها اضطرت إلى القيام بذلك عقب الضغوط الداخلية التي تعرضت لها من مستوطني الشمال بعد أن مرت سنة كاملة على إقامتهم في أماكن تهجيرهم، بعيداً عن بيوتهم. كما ساهم في ذلك سعي الحكومة الإسرائيلية لإطالة أمد الحرب، إرضاءً لكبار متطرفي اليمين، من أمثال سموتريتش وبن غفير، الذين لطالما هددوا بإسقاطها إن اتجهت نحو تبني الحلول السياسية.
والحقيقة هي أن اسرائيل لم تكن تحلم بحرب مع لبنان، كما أنها لم تسعَ إليها، بل إن لديها ما تخشاه منها، على الصعيدين العسكري والسياسي، استناداً إلى تجاربها الماضية، غير “المثمرة” أو المفيدة، في لبنان.
خاضت إسرائيل أكثر من حرب في لبنان، لم تكن نتائج أي منها مرضية بالنسبة إليها، بل إنها عادت عليها بالضرر على المدى الطويل؛ فقد اجتاحت إسرائيل لبنان سنة 1982 وتمكنت، في نهاية حرب واسعة، من طرد منظمة التحرير الفلسطينية وأجهزتها كافة من ذلك البلد، ثم أقامت حزاماً أمنياً في الجنوب اللبناني لحماية حدودها الشمالية. لكن هذا بالذات عاد عليها، على المدى الطويل، بخسارة سياسية استراتيجية واضحة على أكثر من صعيد؛ فخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وضع حداً للنشاط الفلسطيني السياسي المهجري في هذه الدولة العربية أو تلك، وأجبر الحركة الوطنية الفلسطينية على إعادة تركيز نشاطها في داخل فلسطين. وكان هذا المسار هو الذي أدى إلى نشوب الانتفاضة الأولى سنة 1987، ليليها مؤتمر مدريد ثم اتفاقيات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من القيود التي كانت، ولا تزال، تتحكم بالنشاط الفلسطيني تحت الاحتلال، فإن إعادة بعث الكيانية الفلسطينية لا يصب في مصلحة إسرائيل أو الصهيونية على المدى الطويل.
كذلك اتضح أن الحزام الأمني الإسرائيلي، الذي أُقيم في جنوب لبنان، على ما تضمنه من احتلال فعلي لتلك المنطقة، تحول إلى كارثة أمنية. فقد أدى هذا الاحتلال إلى تقوية تيار المقاومة وتعاظم نشاطه، وكان واحداً من الأسباب الرئيسية لإقامة حزب الله. ولا حاجة إلى التنويه إلى أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، التي قادها الحزب خلال الثمانينيات والتسعينيات، هي التي دفعت إسرائيل إلى الهروب من تلك المنطقة سنة 2000. إن إسرائيل، عملياً، لم تنسحب من لبنان في تلك السنة بل هربت منه، خلال يوم واحد ومن طرف واحد، نتيجة ضربات المقاومة، والسبب كان واضحاً للغاية، فإزاء تصاعد نشاط المقاومة لم يبق لإسرائيل ما تفتش عنه أو يفيدها في لبنان. وعلى اعتبار أن الشيء بالشيء يذكر، هذا بالضبط ما حدث في قطاع غزة سنة 2005، فإسرائيل لم تنسحب يومها من القطاع بل، ببساطة، هربت منه، بعد أن فقدت سيطرتها عليه، ولم يبقَ فيه ما يفيد احتلالها.
وعادت إسرائيل وشنت حرباً أُخرى على لبنان سنة 2006، إلاّ إن نتائج هذه الحرب أيضاً كانت مأساوية بالنسبة إليها على المدى الطويل، إن لم نقل إنها كارثية استراتيجياً؛ فقد شعرت المقاومة بالخطر المحدق بها من جراء المخططات الإسرائيلية المعادية لها، وراحت، مع انتهاء تلك الحرب، تنمّي قدراتها العسكرية وتصقلها، وكانت النتائج، إلى حد ما وبمفاهيم معينة، مذهلة. فبعد أقل من عشرين عاماً على تلك الحرب كانت قوات حزب الله تتصدى لآلة الحرب الإسرائيلية وتوقفها عند حدها. وحين اشتد القتال وتعمّق رأي القاصي والداني راحت قوات المقاومة اللبنانية تتصدى بنجاعة لمحاولات إسرائيل اجتياح الجنوب اللبناني، وتمنعها من تحقيق إنجازات تذكر، فيما كانت مسيّراتها وصواريخها تصل إلى مناطق واسعة في أنحاء إسرائيل كافة، حتى إن صواريخها وصلت إلى مشارف تل أبيب، وفي أكثر من مرة – وهذا واقع جديد لم يستطع أن يفرضه أي جيش عربي في أي حرب مع إسرائيل منذ قيامها.
وعلى الصعيد السياسي، يمكن القول أيضاً إن تجربة إسرائيل برمتها، في هذا المجال، مع لبنان لم تكن مكللة بالغار ولم تحقق نجاحاً يذكر، إن لم يكن العكس هو الصحيح، إذ لم يكن نصيب إسرائيل عموماً، في هذا الصدد إلاّ خيبات الأمل. “أيام زمان”، أي قبل أن تتبلور آفة التطبيع والتتبيع، ثم تستفحل، سعت السياسة الإسرائيلية إلى خلق أوضاع يمكن أن تؤدي إلى عقد سلام إسرائيلي – لبناني، في إطار سعي إسرائيلي إلى خلق علاقات طبيعية مع دول الجوار العربي على الأقل. وخلال حرب لبنان الأولى سنة 1982 ضد منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية نشطت إسرائيل، وبصورة واضحة للغاية، في إقامة تحالفات مع بعض القوى اللبنانية ووعدت بمساعدتها للوصول إلى الحكم في لبنان، بل إنها حتى تدخلت في انتخابات رئيس الجمهورية اللبنانية سنة 1982. ونتيجة ذلك تم التوقيع، بالأحرف الأولى، على ما سُمّي اتفاق سلام بين إسرائيل ولبنان يوم 17/5/1982 في بلدة المطلة على الحدود الإسرائيلية مع لبنان. إلاّ إن هذا الاتفاق، وبالصورة التي تم بها، أثار معارضة شديدة لدى الدوائر الوطنية ولدى سورية أيضاً، التي كانت قواتها منتشرة في لبنان آنذاك، وهددت باتخاذ إجراءات ضد نظام الحكم في لبنان إذا لم يلغِ ذلك الاتفاق – فكان لها ما أرادت، وأُلغي الاتفاق فعلاً. وقد سببت هذه التجربة، التي باءت بالفشل على الرغم من الجهود الواسعة التي بُذلت في سبيلها، شعوراً بالإحباط والمرارة لدى دوائر واسعة في إسرائيل، أسفرت عن قناعات مفادها أن القواعد “العادية” والخطط الإسرائيلية لا تجدي نفعاً في التعامل مع لبنان، وكأن لسان حالها يقول إن ليس لديها إلاّ تجنّب أذى ذلك البلد وتركه لشأنه.
غير أنه، وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن حظ اسرائيل العاثر في تعاملها مع لبنان يلاحقها حتى في الوقائع التي لا تتعلق بلبنان مباشرة؛ فخلال الحرب على غزة صعد بول إسرائيل إلى رأسها، وهذا تعبير يستعمله الإسرائيليون لوصف تصرفات مَن فقد عقله، فقامت بشن غارة بالطيران على القنصلية الإيرانية في دمشق أسفرت عن استشهاد عدد من المسؤولين الإيرانيين، الذين تواجدوا هناك. وأثار هذا العدوان غضباً شديداً في إيران، التي قامت بالرد عليه بتوجيه ضربة إلى إسرائيل بالصواريخ الباليستية والمجنّحة والمسيّرات، في سابقة افتتحت “خط إنتاج” جديد في الصراع مع إسرائيل. ولم تتعلم إسرائيل شيئاً من هذه الواقعة، فقامت بعد بضعة أشهر باغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي في “حماس”، عندما كان في طهران ضيفاً لدى الحكومة الإيرانية. ومرة أُخرى ردت إيران بتوجيه ضربة جديدة إلى إسرائيل بـ 180 صاروخاً باليستياً، أوقعت أضراراً في عدة أماكن. ثم ردت إيران على التصريحات الإسرائيلية بشأن الرد على الهجوم الإيراني عليها، بأنها سترد في المستقبل على أي هجوم إسرائيلي عليها وبصورة أكثر حدة.
وبممارساتها هذه عملت إسرائيل، من حيث لم تخطط لذلك أو تسعى إليه، على تقوية وتعزيز وضع المقاومة الإسلامية في لبنان، حليفة إيران؛ فتوسيع نطاق الصراع الإسرائيلي-الإيراني سيؤدي إلى زيادة تلقائية في الدعم الإيراني، وعلى الأصعدة كافة، للحلفاء اللبنانيين وشد أزرهم، ذلك بأن الحفاظ على قوتهم وجاهزيتهم يلعب دوراً مهماً في التصدي للمخططات الإسرائيلية، وهو ما لا يسفر إلاّ عن فوائد لإيران، عسكرية وسياسية وغيرها. وهذا أيضاً معناه أن المقاومة باقية وستزداد عنفواناً وشموخاً.
حرب إسرائيل على قطاع غزة ولبنان، التي دخلت سنتها الثانية، لا تزال تسير في التيه، ولا يعرف الإسرائيليون الذين يؤججونها إلى أين تسير، أو كيف يمكن أن تنتهي. وما يزيد في ضبابية الموقف العام وغموضه هو شعور إسرائيل بالحيرة وتخبطها في الاتجاه نحو أفق غير واضح. وسبب ذلك لا يُخفى على أحد، فهذه هي المرة الأولى في تاريخها التي تخوض فيها إسرائيل حرباً لا تستطيع حسمها، بل حتى تحتاج إلى مساعدات من أكثر من دولة كي تدافع عن نفسها. وغني عن القول إن وضعاً كهذا أدى إلى “انخفاض” كبير في “قيمة” إسرائيل و”وزنها”، وضرب، بصورة قاسية، مسار التطبيع والتتبيع، الذي كاد يصبح “موضة” خلال العقد الأخير. فهل هناك من عاقل يسعى إلى تحالف مع إسرائيل أو “حماية” منها في الوقت الذي لا يستطيع ذلك الكيان حماية نفسه؟
مجمل نتائج الحرب، التي رأيناها حتى الآن، وكذلك الانعكاسات والمواقف الدولية التي تبلورت في أعقابها، تشير بوضوح إلى أنه إن نتج من تلك الحرب شرق أوسط جديد أو شبه جديد فإنه سيكون أقرب إلى ما تسعى إليه المقاومة في فلسطين ولبنان وليس ما تسعى إليه إسرائيل.
عن المؤلف: صبري جريس: باحث مختص بتاريخ الصهيونية والدراسات الإسرائيلية، عمل في مركز الأبحاث التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس تحرير دليل إسرائيل العام الصادر عام 1997 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
عن أوراق سياسات- مؤسسة الدراسات الفلسطينية